حوار أجرته مجلة الحوزة أيام رحيل الإمام

 

الحوزة: برأيكم ما هي الأهداف التي كان الإمام الراحل يسعى لتحقيقها، وما هي الأهداف والقضايا المقدسة التي أكد عليها الإمام، والتي ينبغي علينا بذل أقصى الجهود للمحافظة عليها؟

 

* إن أهم الأهداف التي كان الإمام الراحل يؤكد عليها، هو المحافظة على ثبات واستقرار نظام الجمهورية الإسلامية في إيران، لأن فوائد هذا النظام وتأثيراته لا تقتصر على الشعب الإيراني فحسب؛ بل أصبح يمثل نموذجاً يحتذى به في جميع العالم، حتى أننا نرى في كثير من الدول الإسلامية أن الثورات والانتفاضات والاعتراضات التي تحصل فيها بين الحين والآخر، كانت تستمد أهدافها من نظام الجمهورية الإسلامية. وأنا أعتقد أن أحد الأسباب الرئيسية التي كانت تقف وراء معارضة القوى العظمى لهذا النظام، هو شدة تأثير هذا النظام على سائر الدول الأخرى، وإلا فإن مسألة تأسيس النظام في إيران واستقراره لم تعد تشكّل بالنسبة لهم أولوية مهمة. فوجود هذا النظام يشكل مانعاً لاستمرار حكومة الحكام في الدول ما تسمى بالدول الإٍسلامية، وحتى الحكام في الدول غير الإسلامية. وبعبارة أوضح، إن وجود هذا النظام حتى لو اقتصر على حدود إيران فقط، سيكون مضراً جداً لحكومة آل سعود في السعودية، وكذلك يكون مضراً لحكومة حكام الأردن والدول الإسلامية الأخرى.

 

فكان هذا الموضوع هو السبب الرئيسي الذي دفع القوى العظمى لحشد كافة قواها لمعارضة هذا النظام ومحاربته؛ لأن وجوده كان يشكل خطراً محدقاً لجميع الحكام في العالم. وإلا فإن دولة مثل بريطانيا لم تشهد طيلة تاريخها مظاهرة يشارك فيها مئتي ألف شخص تخرج في شوارع لندن للاعتراض على موقف الحكومة من قضية سلمان رشـدي، مما يعني أن وجـود مثل هـذه الثورة يسبب القلق لجميع القوى العظمى، لهذا نجدهم قد عقدوا العزم على القضاء عليها وإفشالها، مما دفع الإمام الراحل (قدس سره) للتأكيد على أن أهم أهدافه هو المحافظة على هذا النظام وهذه الثورة، حتى لا تقتصر في أهدافها على إيران فحسب، بل ينبغي أن تطرح كنموذج يحتذى به في جميع دول العالم، لتكون سبباً لقيام جميع الشعوب المستضعفة ضد الطغاة المستبدين، لتتمخض عنها نتائج قيمة جداً.

 

الحوزة: سماحتكم كنتم أحد طلاب الإمام الراحل (قدس سره)، وقد استفدتم كثيراً من دروسه ومحاضراته، لذا نرجو من سماحتكم التفضل علينا قدر الإمكان، بذكر أهم مبانيه الفقهية والأصولية؟

 

* إن من أهم الأشياء التي أعتز بها حتى الآن، هو حضوري في درس سماحة الإمام (قدس سره) واستفادتي من علمه في الفقه والأصول لما يقرب العشر سنوات. فقد حضرت عند سماحته دورة كاملة في الأصول من بداية مباحث الألفاظ إلى نهاية مباحث الاجتهاد والتقليد، وكذلك حضرت عنده مباحث عديدة في الفقه منها: معظم مباحث باب الطهارة، وبعض مباحث الأبواب الفقهية الأخرى. فكانت تلك الأيام التي حضرت فيها درس الإمام (قدس سره) واستفدت فيها من علومه الفقهية والأصولية، أجمل وأسعد أيام حياتي؛ لأن جُلَّ اهتمام الإمام (قدس سره) في تلك الفترة، كان منصباً على المطالعة والتدريس والتأليف فقط، فكان يقضي جميع وقته في هذه المجالات، حتى أن درسه الفقهي كان يمتد أحياناً لساعة ونصف دون أن يشعر سماحته أو طلابه بالتعب، لما كانت تمتاز بـه بحوثه وآرائـه العلمية من دقـة وظرافة وقبول عند جميع الحاضرين، بحيث لم يكن يبقى عندهم أي إشكال أو إبهام فيها. وقد كان منهج سماحته في البحث خاصة في الأصول يمتاز بأنه كان يبحث في المسائل بصورة جذرية، فيناقش بدقة الأسس التي تستند عليها إلى درجة أنه كان يجعلنا في كثير من الأحيان نطمئن بصحة آراء سماحته ، وخطأ ما ذهب إليه العلماء الآخرون.

 

ولازلت حتى الآن أتلذذ بحلاوة تلك الجلسات، إلى درجة أنها لا تفارق مخيلتي أبداً، لما كانت تبعثه في نفسي من نشاط وحيوية، فيا لها من أيام جميلة وقيمة جداً؛ لذلك كان حضوري في درس الإمام (قدس سره) من أهم الأشياء التي أعتز بها في حياتي.

 

وقد ترك في حياته مؤلفات قيمة كثيرة في الفقه والأصول والفلسفة والبحوث الأخلاقية، والعقائدية، والبحوث المرتبطة بالحديث والرواية، حيث تم طبع ونشر معظم هذه المؤلفات ليستفيد منها الكثير من الطلاب والمحققين. وقد ألف سماحته كتاباً في الفقه والمكاسب المحرمة والبيع والخيارات، حيث قام بتدريسها في النجف الأشرف، وكانت تتضمن تحقيقات قيمة ونقاط دقيقة قل نظيرها في الكتب والدروس الأخرى، لما كان يتمتع به الإمام (قدس سره) من مقام علمي رفيع وشخصية جامعة لكثير من الصفات المتميزة، حيث كان فقيهاً كاملاً وأصولياً متبحراً، وفيلسوفاً منقطع النظير، وعارفاً بمعنى الكلمة، ومتخصّصاً في علم الأخلاق وأنواع التربية العلمية الأخلاقية وغيرها من المجالات الأخرى، وحتى الشعر كان له نصيب مهم من اهتمامات سماحة الإمام (قدس سره).

 

أما بيان الأستاذ، فقد كان جميلاً وواضحاً إلى درجة أنه لم يكن يحتاج فيها أحد من الطلاب إلى السؤال والاستفسار عن رأي الإمام في تلك المسألة؛ لأن سماحته كان يوضح جميع مطالبه ببيان سهل ودقيق، بحيث كان الطلاب يفهمون قصد الأستاذ في المسألة بشكل واضح جداً. نعم، كان من الممكن أن يحصل للبعض إشكال في أصل الموضوع، لكن لم يكن يحصل لأي أحد إبهام في رأي الأستاذ حول الموضوع، وهذه الصفة تعتبر من الصفات المهمة في التدريس، بحيث يتمكن الأستاذ من إفهام الطلاب برأيه بشكل واضح جداً.

 

وحول هذه المسألة، أتذكر أننا كنا نناقش ذات يوم مسألة مهمة ذات أبعاد وأحكام متعددة، فاتفق أن أحد الطلاب كان يرى أن الإمام قد أخطأ في مناقشته لهذه المسألة، فأصر الطالب على إشكاله، وكذلك الإمام أصر على بيانه للمسألة، وأخيراً لم يبق أمام الطالب سوى اللجوء إلى القَسَم لإثبات صحة مدعاه، وحسب الظاهر اضطر الإمام (قدس سره) إلى إتباع نفس الأسلوب والقَسَم على صحة رأيه، فكان موقفاً جميلاً لازلت أتذكره دائماً.

 

الحوزة: في ظل هذه الظروف الحساسة التي أعقبت ارتحال الإمام (قدس سره)، والفراغ الذي تركه في المجتمع، برأيكم ما هي المسؤوليات الملقات على عاتق الحوزات العلمية في هذه الظروف؟

 

* فيما يتعلق بمسؤوليات الحوزات العلمية في هذه الظروف الحساسة التي أعقبت ارتحال الإمام (قدس سره)، ينبغي القول أن الإمام ولحسن الحظ، لم يكن في حياته يهتم فقط بقيادة الشعب وهدايته إلى الطريق الحق، بل كان شديد الاعتزاز بشعبه ويؤكد كثيراً على ضرورة تطبيق أحكام الإسلام؛ لذلك كتب سماحته وصيته القيمة والمفصلة جداً في 35 صفحة، أشار فيها إلى بعض مسؤوليات الحوزات العلمية، حيث أكد على النقاط التالية:

 

1ـ إن الاستكبار والقوى المعادية للإسلام مهتمون جداً بموضوع الحوزات العلمية، لذلك من الممكن أن يرسلوا بعض الأفراد للتغلغل في الحوزة ودراسة العلوم الإسلامية؛ وقد يصلوا إلى مقام المرجعية الدينية، وبعد أن يحققوا هذا الهدف يبدأوا بتوجيه ضرباتهم القوية إلى الإسلام حسب المخطط الذي رسمه لهم الاستكبار والقوى العظمى؛ لذا تقع على المسؤولين في الحوزات العلمية والطلاب وأعضاء الحوزة الآخرين، مسؤولية مراقبة الأوضاع في الحوزة فإذا ما لاحظوا فرداً مشكوكاً فيها عليهم إجراء التحقيقات اللازمة عنه، ثم التصدي له ولجميع الأفراد الذين يسعون إلى تحقيق أهداف منحرفة في الحوزة.

 

2ـ كان الإمام (قدس سره) يؤكد كثيراً على الفقه المتعارف في الحوزة، فكان يقول ينبغي أن تبقى دراسة المسائل الفقهية والأصولية على نفس الأسلوب المتعارف عليه سابقاً في الحوزات العلمية. وبالطبع، كان يهدف من ذلك أن يكتسب الطلاب استعداداً كافياً لأمرين: الأول، أن الكثير من المؤسسات والدوائر الحكومية والمناصب في الجمهورية الإسلامية يجب أن تدار من قبل رجال الدين والفضلاء العارفين بالعلوم الإسلامية، فإن لم يتمكن الطلاب من كسب مثل هذا الاستعداد لإدارة هذه المناصب، لتعطل قسم كبير من الوظائف والمسؤوليات في الدولة، وأصبحنا نواجه نقصاً في هذا المجال، فوظائف كثيرة مثل: القضاء، وتعليم المسائل العقائدية، وإمامة الجمعة، والتبليغ، والمسائل الأخرى تحتاج في إدارتها إلى فضلاء الحوزة؛ لذا ينبغي عليهم تهيئة أنفسهم بالعلم والتقوى بأسرع وقت ممكن، حتى يتمكنوا من إدارة هذه الوظائف والمسؤوليات.

 

أما الثاني فهو: بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وانعكاس ذلك في مختلف دول العالم، بدأ الناس في جميع بلاد العالم يسمعون بالإسلام كثيراً باعتباره أهم العوامل المؤثرة في انتصار هذه الثورة، مما أدى إلى اهتمام المحققين بدراسة الإسلام وتحليل مسائله، فنتج عن ذلك بالطبع ظهور بعض الأسئلة حول الإسلام، وأحياناً بعض الشبهات التي لا يمكن لأحد الإجابة عنها أفضل من الحوزة العلمية، مما حمل الحوزة بعد انتصار الثورة الإسلامية مسؤولية كبرى لم تكن قد شهدت مثلها في السنوات الماضية.

 

3ـ النقطة الثالثة التي أشار إليها سماحة الإمام عن الحوزات العلمية في وصيته، هي ضرورة التخصص في العلوم الحديثة التي يحتاجها اليوم المجتمع الإسلامي، وبدأت الحوزة العلمية بتدريسها إلى جانب الدروس الحوزوية المتعارفة، لأن وجود أفراد متخصصين في علوم كالاقتصاد وغيره، سيسهم في رفع المشاكل التي تواجه المجتمع الإسلامي.

 

الحوزة: نرجو أن تبينوا لنا ولقرائنا الأعزاء بعض المسائل الخاصة بدور الإمام الراحل (قدس سره) في قيادة الأمة الإسلامية؟

 

* فيما يخص دور الإمام في قيادة الأمة، فإنها مسألة واضحة جداً لكل ذي بصيرة سواء كان رجل دين أم غيره، إذ أن التحول الذي أحدثه الإمام الراحل (قدس سره) في المجتمع الإيراني شبيه إلى حدٍ ما بالتحول الذي أحدثه الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في المجتمع الجاهلي. فقد بعث الإمام في الإسلام حياة جديدة بعد أن كان يسير نحو الزوال في المجتمع الإيراني؛ بل في المجتمعات الأخرى في العالم. فالانتصار الذي حققه الإمام في الثورة الإسلامية، وقضاءه على النظام الطاغوتي، وإقامته لنظام الجمهورية الإسلامية في إيران، الذي كان يمثل النظام الإسلامي الحقيقي الذي عاد للظهور في إيران بعد 14 قرناً من حكومة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كان يمثل أهم إنجاز لقيادة هذه الشخصية العظيمة التي قل نظيرها في التاريخ الإسلامي؛ بل وفي تاريخ العالم بأكمله. فالإمام بالتزامه الشديد بالإسلام، لا فقط تمكن من تطبيق قوانين الإسلام فحسب؛ بل استطاع نشر الوعي والعلم عند الشعب الإيراني والشعوب المستضعفة في العالم، وتمكن من توعية الشعب ليدرك المعنى الحقيقي للحرية والاستقلال.

 

لقد كنا قبل انتصار الثورة، في عهد النظام الطاغوتي، نسير في طريق لم تكن عاقبته سوى زوال الإسلام في جميع أبعاده حتى مظاهره البسيطة، لأن الأعمال التي كان النظام الطاغوتي يقوم بها، كانت تشير إلى وجود برنامج منظم للقضاء حتى على المظاهر الإسلامية البسيطة.

 

فمثلاً مسألة تغيير التاريخ الإسلامي، لم تكن بالمسألة المهمة التي يمكن أن يقال أنها تعارض الاستكبار والنظام؛ لكن مع ذلك

 

كان النظام يحارب حتى التاريخ الإسلامي؛ لأنه كان يهدف إلى محو جميع مظاهر الإسلام من البلاد، ومنها التاريخ الإسلامي، فسعى إلى استبداله بالتاريخ الملكي. فكان دور الإمام في قيادة الأمة يتمثل بتحرير البلاد من قبضة الاستعمار والاستكبار الذي كان مسيطراً على جميع شؤونها، وفك الأغلال التي كانت تكبل أيدي وأرجل الشعب لسنوات طويلة، ليشعروا بعد الثورة بنوع من الأمان والاطمئنان، فأنتم كنتم تلاحظون نوع الاستعمار الذي كان مسيطراً على مقدرات الشعب لسنوات طويلة، وتشعرون بمدى الألم والمعاناة التي كان يتحملها الشعب آنذاك، بحيث لم يكن يجرأ على المطالبة بأي حق له. وأخيراً، بدأ الجميع هذه الأيام يكتب حول شخصية الإمام الراحل (قدس سره)، ولم يكن ذلك مقتصراً على الشخصيات الشيعية والإسلامية فقط، بل حتى أعداء الإسلام كانوا يرون في شخصية الإمام (قدس سره) قائداً متخصصاً بقيادة الأمة بأسلوب قل نظيره في العالم. وقد عبرت بعض الإذاعات الأجنبية عن هذا الموضوع، بأن الإمام وصل إلى مرحلة تمكن فيها من السيطرة على قلوب الملايين من أفراد الشعب الإيراني المستعدين للضحية بأرواحهم في سبيله؛ وهذا النوع من القيادة قل نظيره في التاريخ.

 

ـــــــــــــــــــــ

 

[*] ولد سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد فاضل موحدي اللنكراني في عام (1310ﻫ.ش)، وبعد أن أتم عدة مراحل من الدراسة الكلاسيكية، دخل الحوزة العلمية وأنهى فيها مرحلة السطوح بمدة قصيرة جداً، وحضر بعدها بحث الخارج عند آية الله العظمى السيد البروجردي وهو في التاسعة عشر من عمره، فأثمر هذا الحضور عن تأليفه لكتاب (نهاية التقريرات) الذي طبع ونشر في مجلدين. كما حضر سماحته بحث الخارج لسماحة الإمام الخميني(قدس سره) لمدة 9 سنوات، فأثمر ذلك الحضور عن تدوينه لمعظم دروس الفقه والأصول لسماحة الإمام. ومند بداية دراسته الحوزوية، اهتم سماحته بالتدريس والتعليم، وكان منهمكاً بتدريس خارج الفقه والأصول منذ سنوات عديدة، وحضر درسه العديد من الطلاب والفضلاء المهتمين بآرائه العلمية.

 

من تأليفات سماحته: أحكام التخلي والوضوء من كتاب تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، تقيه مداراتي، آيين كشوردارى از ديدﮔاه إمام علي(عليه السلام)، الاجتهاد والتقليد من كتاب الشريعة في شرح تحرير الوسيلة.

 

توفي 1 جمادى الثانية 1428ﻫ.ق في مدينة قم المقدسة.