بطل صنديد ومجاهد من خيرة المجاهدين، تضحياته غير خافية على من عاشره، تشهد له أكثر من ساحة بالجد والنشاط وخدمة المؤمنين؛ لا يقصر في مسؤوليته ولا ينتظر الاقتراحات من الآخرين، بل كان زمام المبادرة دائماً بيده، فإن كُلّف بشيء سارع إلى دراسته وتنفيذه، وإن لم يكلف بأمر جهادي لم يتوانَ عن القيام بما يرضي الله عز وجل؛ فيفكر ويتأمل ويخطط ثم يقدم، واضعاً نصب عينيه "الدنيا سجن المؤمن" و"إن أفضل الجهاد كلمة حق أمام سلطان جائر". لم يخطئ في تشخيص عدوه ولم يخلق مشكلة مع من ليس بعدو لله. ذلك هو المجاهد الشهيد علي عبد الله الخاتم. ولد هذا العلي في عام 1380هــ في الربيعية من قرى مدينة القطيف شرق بلاد الحجاز، وتربى وترعرع في كنف والدة عرفت بالطهارة والصلاح، وكانت حركاته وسكناته وهو لم يبلغ الخامسة تدل على أنه متميزاً عن غيره.. تتذكر والدته تلك الأيام فتقول: "لقد كنت أرى من علي وهو صغير السن الكثير من الأعمال التي تدل على شجاعته وشدة بأسه وعدم خوفه، وكانت سيرته وهو في تلك السن تختلف كثيراً عن صفات وأعمال من هم في عمره، مما جعلني أعتقد أن مستقبل هذا الطفل سيكون متميزاً عن غيره أيضاً". وفي السابعة من عمره دخل المدرسة الابتدائية وبدأت معه كغيره من أطفال القرية وباقي القرى رحلة العذاب حيث إن عليه أن يمشي مسافة طويلة من بيته إلى مدرسة الغالي صباح كل يوم، وظل هذا الطفل يكبر وتكبر فيه روح الشجاعة وحب الخير وصفات الفتى العاقل، حتى إذا تخرج من المرحلة الابتدائية أخذ بلباب فكره الوضع المعيشي لعائلته، فسعى في تأمين لقمة العيش الحلال له؛ فعمل أولاً في مجال البناء، ثم أصبح موظفاً في شركة الزيت الأمريكية (آرامكو)، فأتاح له عمله رؤية الأمور في هذه الشركة كما هي.. فماذا رأى الشهيد علي خاتم وما هي الأمور التي اكتشفها؟ لقد رأى ولأول مرة الكنائس المشيدة على أرضه، كما رأى أن جميع الأحكام التي يتبجح النظام السعودي بتطبيقها لا يمكن أن تتعدى بوابات مدينتي الظهران ورأس تنورة.. رأى الطمع والجشع بأقسى صوره، رأى الاستعباد والاستضعاف، رأى الشهيد البون الشاسع في كيفية التعامل بين أبناء بلده وأبناء القردة يهود أمريكا، رأى علي الخاتم بأم عينيه ثروات بلاده تضيع بين مغتصب وسارق! ثم رأى الشهيد وهو ابن المدينة المحرومة من أبسط مقومات العيش الكريم الفلل الفخمة التي يسكنها من أسموهم بخبراء النفط من أبناء الدول الغربية. شاهد كل ذلك، بل شاهد كيف يسخّر الإنسان الشرقي لخدمة كلب! نعم، كلب يملكه أمريكي يعمل في الشركة، فيعالج في أرقى المستشفيات التي بنيت بأموال الشعب المستضعف! بينما تفتك الأمراض بأبناء هذا الشعب وليس لهم سوى المسكّنات. أخذ الشهيد يفكر وهو بين طريقين: إما السكوت على هذا الوضع، وما يضيره السكوت والقعود مع القاعدين، فآلاف سكتوا وآلاف تفرجوا و...و... وإما التفكير في الخلاص من هذا الوضع الفاسد والليل المظلم، ولكنه طريق طويل ليس من أمل في الوصول إلى نهايته بسوى التوكل على الله، وفهم {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} وأداء التكليف الإلهي، ولكن ما الحيلة؟! فالشركة أمريكية وأي مساس بمصالحها يعتبر اعتداءً على السيادة الأمريكية! ومصالح هذه الشركة قد احكم الجند قبضتهم حولها، فلا سبيل إلا اعلان الرفض لهذا الاستعمار باللسان والقلم. ويبدأ عام 1400هــ بحدث يهز الوجدان، حيث تنتهك القوات الكافرة من فرنسا وغيرها حرمة البيت العتيق وتراق دماء الأطفال والنساء الذين التجأوا إلى مكة المكرمة في حادثة هي الأولى من نوعها في العصر الحديث. وبعد ذلك بأقل من أسبوع تعم التظاهرات والمسيرات مدن المنطقة الشرقية تنادي يا للمسلمين، فلتخرج أمريكا من بلادنا، لا للذل السعودي، نعم للعدل الإسلامي، كفى سرقات لخيراتنا! ويكون دور الشهيد في هذه التظاهرات واضحاً، وهو الذي يرى حلمه قد تحقق فهي بداية سعيدة لإجلاء الظلام مهما كانت نتائجها، ولتكون أول خطوة على طريق الألف ميل.. وهل تحرر شعب إلا بعد هذه البدايات!! ويعتقل الشهيد علي خاتم لأول مرة أثناء هجومه على أحد الذين كانوا يطلقون النار على المتظاهرين، ويودع السجن مدة ثلاثة أيام، ثم يفرج عنه بسبب ضيق المكان وليس لأمر آخر! ومع أنها المرة الأولى التي يدخل فيها المعتقل إلا أنه كان يزيل ــ ومن خلال تواجده في المسجد ــ أي خوف عن أبناء بلده من دخول السجن، ويصفه بأنه مكان لا تهابه الرجال! وبعد ذلك تبدأ مرحلة أخرى من جهاد هذا الشهيد فيشكل خلية سرية من مجموعة من الاخوة مهمتها كسر حاجز الخوف من خلال ملء شوارع القرى بالشعارات المناهضة للنظام السعودي وللتسلط الأمريكي وتوزع المنشورات التي تدعو للنهوض في الأماكن العامة، كل ذلك يتم أثناء حظر التجول الذي فرضه النظام ليلاً على كامل مدينة القطيف، وأثناء تجوال الدوريات الأمنية الكثيرة! وظل الشهيد يقوم بهذه المهمة عدة أشهر دون أن يستطيع النظام الوصول إلى خيط يتهمه من خلاله يقول أحد الذين كانوا معه في تلك الفترة: "كنا نتنقل من قرية إلى أخرى مشياً على الأقدام وسط أشجار النخيل ليلاً، وأحياناً نبقى إلى الفجر وسط النخيل حتى لا يكشفنا أمن النظام، الذي كان مخولاً بإطلاق النار تجاه أي شخص لا يلتزم بأوامر العسكر". ويعتقل الشهيد مرة أخرى في شهر رمضان 1400هــ وبتهمة حيازة قطعة سلاح ويودع السجن، وتتالى الاعتقالات في قريته بعد إيداعه السجن، حيث كان أول من اعتقل.. ويدل تأهب القوات الأمنية أثناء اعتقاله على شجاعته التي عرف النظام جزءاً منها، حيث طوق منزله بالقوات المدججة بالسلاح ووصل عدد الجنود الذين جاؤوا لاعتقال هذا البطل إلى أكثر من ثلاثين شخصاً، وهو اجراء قلّما اتُخذ بحق غيره. وقد مورست بحقه أنواع مختلفة من التعذيب، مما جعله ينفذ اضراباً عن الطعام لمدة ثلاثة أيام، حيث استجيب لبعض مطالبه؛ كما شارك في الاحتجاجات التي قام بها المعتقلون داخل السجن في آخر جمعة من شهر رمضان (يوم القدس) وليلة عيد الفطر. وقد صمد الشهيد كثيراً، وكان ذا صلابة متميزة، ويقول هو عن تلك الفترة: "إن أحد حراس السجن أهانني أثناء خروجي من الزنزانة الانفرادية، وتكررت الاهانة أثناء رجوعي لها، فبادرت بإدخاله الزنزانة معي وأغلقت الباب، وصرت أضربه ضرباً مبرحاً حتى هددته بالقتل". وبعد مرور أربعة أشهر، لم ير فيها عائلته قط، أفرج عنه مع باقي المعتقلين. وعاد الشهيد ليمارس الدور الإيماني والاجتماعي في قريته، فأخذ يشارك وبانتظام في صلاة الجماعة في المساجد، كما كان يواظب على حضور الجلسات الثقافية والتوعوية للعلماء، سواء في المجالس الخاصة أم في الاحتفالات الدينية العامة، وكان له دور مهم في عقد بعضها. وكان له دور بارز في اعادة ترميم المسجد الجنوبي (العباس) في قريته، حتى إنه كان في بعض الاحيان يعمل في المسجد من بعد صلاة الفجر مباشرة إلى الضحى خلال أيام الجمعة في شهر رمضان المبارك، ومع ممارسته لهذه الجوانب من الحياة الاجتماعية إلا أنه لم يغفل عن فريضة الجهاد ضد الظلم والاستعمار؛ ويعد الشهيد أول شخص يبدأ بجمع التبرعات المالية للصامدين بوجه أمريكا في البلاد الإسلامية الأخرى، وذلك من خلال دعوة الناس في كل ليلة للتبرع بالمسجد. إلا أن الجهاد بالمال لم يروِ غليل هذا الشاب، بل تاقت نفسه لمشاركة اخوانه المجاهدين ما يعانون من مشاق وصعاب، بل وما ينعمون فيه من نعيم الجهاد وعذوبة رضى الله سبحانه وتعالى. وفي شوال 1401هــ توجه إلى الخارج ومكث ما يقارب ثلاث سنوات متنقلاً في أكثر من بلد من البلدان الإسلامية التي كانت تتعرض لهجوم عسكري أمريكي صهيوني، حيث شارك في عدة عمليات جهادية، وبعد ممارسة الأعمال الجهادية في لبنان ضد العدو الصهيوني وعملائه قرر الرجوع إلى داخل البلاد، إلا أنه تعرض للاعتقال في احدى الدول العربية وبقي في السجن خمسة أشهر ذاق خلالها أقسى صنوف التعذيب، وقد شبّه ذلك في رسالة بعث بها إلى أحد أصدقائه بسجون بني أمية! وبعد الافراج عنه توجه إلى احدى الدول الصديقة لآل سعود وقاد مجموعة جهادية نفذت هجوماً على أحد المراكز الجاسوسية للنظام السعودي في الخارج. ثم سافر إلى الكويت، ومنها دخل البلاد مشياً على الأقدام، إلا أنه ــ وأثناء تأديته لمهمة استطلاع لأحد مقرات أمريكا العسكرية ــ ألقي القبض عليه مرة أخرى ومكث في السجن ثلاث سنوات، ينقل فيها من سجن الدمام إلى سجن مباحث الجبيل إلى سجن الرياض، ويمارس بحقه تعذيباً قاسياً سبب له مرضاً في بصره.. ولم يكتف النظام بذلك، بل ترك الشهيد في السجون من دون علاج، فأصبح يستعين ببعض الأدوية التي يجلبها زواره من خارج السجن. وبعد الافراج عنه في شهر جمادى الثانية 1407هــ وبعد أن اقترن بإحدى المؤمنات حيث رزقه الله ولداً أسماه نزيه تيمّناً بالشهيد نزيه الحجاج، عاد الشهيد إلى جهاده وبدأ مرحلة أخرى من مراحل النضال ضد الاستعمار الأمريكي في بلادنا، فبادر إلى تشكيل إحدى الخلايا الجهادية مع الشهيد جعفر الشويخات رحمه الله وآخرين، وقد قامت هذه الخلية بنشاطات وأعمال جهادية قل نظيرها ضد الوجود الأمريكي بشكل خاص. وبعد وقوع بعض العمليات الجهادية سواء، منه أو من مؤمنين آخرين، بدأ النظام باعتقال مجموعة كبيرة من العلماء والشباب المؤمن، فلجأ الشهيد علي إلى الاختفاء مع الشهيد أزهر الحجاج والشهيد خالد العلق، وقد استنفرت السلطات قواها الأمنية في المنطقة من أجل إلقاء القبض على المجاهدين وحاصرت قراهم ومارست أدق أنواع البحث والتفتيش عنهم، ثم لجأت إلى الأسلوب الجبان، فاعتقلت آباءهم وأخذتهم رهائن مقابل تسليم المجاهدين أنفسهم! إلا أن ذلك لم يفتّ في عضدهم، بل واصلوا دربهم، مجتازين كل الحواجز ومراكز التفتيش التي نصبها النظام بكل سهولة ويسر، غير مكترثين بشيء من ذاك. في صبيحة السابع عشر من ذي الحجة 1408هــ تعرض المجاهدون الثلاثة لمساءلة من قبل مسؤول مباحث منطقة سيهات علي ربيع الشهري، فبادره أحدهم بطلق ناري أودى بحياته إلى الجحيم. اثر هذا الحدث حاصرت القوات الأمنية المنطقة، وطلبت من المجاهدين تسليم أنفسهم، فرفضوا ذلك. بدأ تبادل اطلاق نار بين جموع القوات الأمنية السعودية التي استقدمت إلى المنطقة وبين المجاهدين، واستمر ما يقارب العشر ساعات دون الحصول على نتيجة! بعدها لجأ النظام السعودي إلى استخدام الغازات الخانقة، حيث وجهها نحو الشقة السكنية التي تحصّنوا فيها، مما تسبب في شل حركة المجاهدين واقتيادهم نحو سجن الدمام بعد اصابة الشهيد خالد العلق بعيار ناري نقل على أثرها إلى المستشفى، وبقي الشهيد علي الخاتم شهرين في سجن الدمام ثم نقل إلى سجن الرياض، ولم يبقَ نوع من أنواع التعذيب لم يمارس بحقه. بعد عجز النظام عن الحصول على أية معلومة تفيده، أصدر قراره المشؤوم بإعدام هذا المجاهد البطل! وقد نفذ حكم الاعدام في 19 صفر 1409هــ في ساحة الاعدامات بالدمام. فسلام عليك أيها الشهيد السعيد يا أبا نزيه يوم ولدت ويوم جاهدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حياً.
تعليقات الزوار