أية الله العظمى جوادي أملي

الكلمة التي ألقاها سماحته في الحفل التأبيني بمناسبة ذكرى رحيل المرجعين الكبيرين (الاراكي والگلبايگاني) في المسجد الأعظم بقم في تأريخ 23 جمادى الثانية 1416هـ

 

 بسم الله الرحمن الرحيم

قبل الدخول في صلب الحديث، لابدّ من الإشارة إلى أنّ المراد من الروحانيين(1) هم الفقهاء وعلماء الدين. ولئن اشتهرت تسمية هذه المجموعة بالروحانيين فلأنّ هذا النوع من المسمّيات ليس توقيفياً، ولا يوجد تشاحّ في المصطلحات، وإن سمّي علماء الدين وفقهاء الشريعة بالروحانيين فذلك لا لمشكلة دينية أو فكرية، فليس الروحانيون سوى الفقهاء وعلماء الدين.  

الأمر الثاني: هو كما أنّ كتابنا المدوَّن فيه محكم ومتشابه ، ويتمّ حلّ المتشابهات على ضوء المحكمات، فكذلك الكتاب التكويني لخلق البشر؛ إذ هناك في المجتمعات البشرية محكمات ومتشابهات أيضاً. وقد عقد الكليني (قدس سره) باباً في أنّ أهل البيت(عليهم السلام) قالوا: إنّنا نعدّ من بين المجتمعات البشرية من محكمات الخلق، وأمّا الآخرون فهم من متشابهات البشر الّذين ينبغي رجوعهم إلى «أمّ الكتاب» التكويني حتّى يتمّ تفسيرهم. وكذلك (الروحانيون) أيضاً بينهم محكمات، ابتداءً من الكليني حتّى نصل إلى الإمام، ومن المفيد إلى الآراكي، ومن الشيخ الطوسي إلى الگلبايگاني، وبينهم متشابهات من الذين اتّخذوا هذا (الزي) وسيلةً (للارتزاق)، ولابدّ من تفسير كتاب (الروحانية) عن طريق إرجاع المتشابهات إلى هذه المحكمات. فإذا كان دفاع عن حريم العلماء المقدّس وتبيين للمقام السامي، فالمراد هو العلماء وفقهاء الدين الكبار المتصدّين لنيابة الأئمة المعصومين (عليهم السلام). وكلّما تصاعد ضجيج الحناجر الأجنبية كان هذا الضجيج متوجِّهاً نحو هذه الشخصيات، ولا شُغل لهم أبداً بالمتشابهات إلاّ أنّهم دائماً يتخذونها ذريعة.

 

وبعد أن حرّرنا محلّ البحث، سنتكلّم في فصلين:

الفصل الأول: ما هو العنصر الأساس والعمل الرئيس للروحانيين؟

الفصل الثاني: كيف ينبغي تأمين نفقات الروحانيين؟

 

الفصل الأول: قطب الرحى في عمل الروحانيين

 

إنّ قطب الرحى في عمل الروحانيين أمران، وهما العنصر الأساس الذي يشكّل رسالة الأنبياء (عليهم السلام)، فالأول «يزكّيهم» والثاني «يعلّمهم الكتاب والحكمة»، وقد قُدِّمت التزكية على التعليم في الكثير من الموارد، وفي بعض الموارد ذكر التعليم أكثر من التزكية؛ لأنّ التعليم (مقدّمة) للتزكية، وفي بعض الموارد ذُكر قبلها، ولكن عندما تُذكر التزكية قبل التعليم؛ فذلك لأنّها (مقدّمة) على التعليم، ولا عمل للروحانية أكثر أو أقل من ذلك. فلو أنّنا رفعنا تعليم الكتاب والحكمة والتزكية عن الروحانيين لغدو عاطلين.

إنّ عمل الروحانيين مكوّن من شيئين، ومن يقف أمام هذين الشيئين فإنّ الروحانية ستنتفض بوجهه: (أن تقوموا لله)، وكلّ من اختار القعود فإنّ الروحانية ستكون لها القيمومة عليه «يعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكّيهم»، وما تقرأونه في سيرة الأنبياء وسننهم هو هذين الأصلين، وأنّ الحروب مقدّمة لإجراء هذين الأصلين، والسلام يعتبر الأرضية لإقامة هذين الأصلين. وكما أنّ الأنبياء يهدفون إلى أكثر من هذا، فكذلك الروحانيون لا يهدفون إلى أكثر منه.

إنّ القرآن الكريم يعتبر فضاء الحياة فضاءً للعلم والثقافة، ويضمن إلى جانب هذا الفضاء جوَّ سلامة الروح، ويقول للبشر: ينبغي لكم استنشاق الهواء في فضاء العلم مهما كانت الظروف، فإن كنت مقلِّداً فكن مقلِّداً عن تحقيق، وإن كنت مقلَّداً فكن مقلَّداً عن تحقيق، وإن كنت من المصدّقين، فكن مصدّقاً عن تحقيق، وإن كنت من المكذّبين فأنكل عن تحقيق، وسوف لا يكون التصديق والنكول والإمامة والإتّباع من دون الجوِّ المنفتح للعلم والدين.

ولنستظهر هذه الأقسام الأربعة من أربع آيات من القرآن حتّى يتّضح أنّ تصديق المجتمع علمي وتكذيبه علمي وقيادة المجتمع علمية، وإتّباعه علمي أيضاً.

فقد نقل الكليني (قدس سره) هذه الرواية الوضّاءة عن الإمام الصادق (عليه السلام): إنّ الله سبحانه وتعالى حصّن عباده بآيتين من كتابه: أن لا يقولوا على الله إلاّ الحقّ، أي إذا أرادوا التصديق بشيء فلابدّ أن يتحقّقوا في تصديقهم به، وإن أرادوا تكذيب شيء فلابدّ أن يكون عن تحقيق أيضاً.

 

أمّا التصديق المحقّق فهو الآية الشريفة:

{ألم يُؤخَذْ عليهم ميثاقُ الكتاب ألاّ يقولوا على الله إلاّ الحقّ}(2).

وأمّا التكذيب المحقّق فهو قوله تعالى:

{بل كذّبوا بما لم يُحيطوا بعلمه ولمّا يأتهم تأويله}(3).

إنّ هاتين الآيتين تثبتان ـ وفقاً لاستنباط الإمام الصادق (عليه السلام) ـ أنّه لا يحقّ لشخص أن يصدّق بأمر من دون أن يحقّق فيه، كما أنّه لا يحقّ له أن يكذّب أمراً دون أن يحقّق فيه، وينبغي أن يكون السلب والإثبات في نطاق العلم والقطع.

أمّا الآيات التي تبيّن مسألة القيادة والإتّباع فهما الآيتان الثالثة والثامنة من سورة الحج المباركة، فقد قال تعالى في الآية الثالثة:

{ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتّبع كلَّ شيطان مريد}.

 

وفي الآية الثامنة:

{ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب مبين ثاني عطفه ليضلّ عن سبيل الله}.

فإنّ البعض يتّبع كلّ شخص ويقتفي أثره من دون تحقيق، وربّما كان يتّبع شيطاناً، و(المريد) معناه المارد والمتمرّد والعاصي، فهو إذ يتحرّك من دون تحقيق إنّما يتّبع الشيطان المريد، وكما قال في الآية اللاّحقة: يسعى لاجتذاب الناس وكسبهم معه في إتِّباعه هذا بلا بيّنة باطنية أو ظاهرية، ومن دون ملاحظة كتاب التكوين أو التدوين ومن دون تعقُّل أو بصيرة وحصول أو حضور، وبذلك يقوم بإضلالهم، فهو تابع بلا تحقيق وضال، وهذا متبوع بلا تحقيق فهو مضلّ.

فهذه الأسس الأربعة على كلّ من أراد التصديق بها أو تكذيبها أو قيادتها أو إتّباعها، إنّما ينبغي له ذلك بعد التحقيق في إطار الدين.

والبعض ـ مضافاً إلى تمسّكه بهذه الخطوط الأساسية ـ قضى عمراً طويلاً كمحقّق في الدين وتحرّك على أساس آية «النفر»:

{فلولا نفر من كلّ فرقة طائفة منهم ليتفقّهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون}(4).

فأمضوا سنين متمادية في مراكز التحقيق واكتساب الخبرة ليتخصّصوا في أركان الدين الأربعة، وهذا الشخص على حدّ قول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) يضاهي الملائكة:

«إنّ العبد إذا خرج لطلب العلم ناداه الله سبحانه وتعالى من فوق العرش: مرحباً بك، أتدري أي مقولة تطلب، وأيّ درجة تخرج، تضاهي ملائكتي المقرّبين»، وذلك لأنّك تذكُرُني، ومن كان ذاكراً لله {ومن يتّق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب}(5). كما أنّه: {من أعرض عن ذكري فإنّ لهُ معيشةً ضنكاً}(6).

إنّ الذاكر لله يعيش في بحبوحة واسعة لذا يأتيه نداء الحقّ تعالى من الأعالي: «تضاهي ملائكتي المقرّبين» لا أيّ ملك، إذ أنّ درجات الملائكة ليست متساوية، وهذا الحديث كالآيات القرآنية بحاجة إلى تفسير، وقد سُئل الإمام السجّاد (عليه السلام): كيف يضاهي الإنسان ملكاً مقرّباً؟ فقال: أما سمعت قول الله سبحانه وتعالى:

{شهد الله أنّه لا إله إلاّ هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلاّ هو العزيز الحكيم}(7).

فأوّل شاهد على وحدانيتي هو إلهويّتي، والشاهد الثاني ملائكتي، والشاهد الثالث هم أولو العلم، فبدأ الله به وثنّى بالملائكة، وثلّث بأولي العلم، وسيّدهم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وثانيهم علي (عليه السلام)، وثالثهم أهله، وأحقّهم بمرتبته، ثمّ أنتم معاشر الشيعة العلماء بعلمنا، نازلون مقرونون بنا وبالملائكة المقرّبين.

وقد نقل في الحوزات والمدارس أنّ المعلّم الأول هو أرسطو والمعلّم الثاني هو الفارابي، وهذا بالنسبة إلى العلوم الحصولية، وإلاّ ففي مدرسة الأنبياء فإنّ المعلم الأول هو الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، والمعلّم الثاني هو علي بن أبي طالب (عليه السلام)، والمعلّم الثالث هم أهل بيت العصمة والطهارة (عليه السلام)، ثمّ ذكر أنّ بعد أهل البيت (عليهم السلام) يأتي دور علماء الدين المتعلّمين بعلمنا والمرتبطين بنا، ونحن نضاهي الملائكة، وأنتم تضاهوننا، فإنّ العلماء الذين أمضوا عمراً في تحصيل هذه المعارف يضاهون الملائكة، وحالياً فإنّ جميع مراجعنا (قدّس الله أسرارهم) هم كذلك، أي مقرونون بالأئمة المعصومين والملائكة المقرّبين، وليس هذا بالأمر السهل اليسير، وليس مجرّد دراسة عشرة سنوات أو عشرين أو ثلاثين سنة، فالبعض مقرونون بالعلماء في المرجعية والمراجع مقرونون بالأئمة والأئمة بالملائكة.

 

الفصل الثاني: موارد رزق الروحانية

أوّلاً: إنّ الروحانية الأصيلة التي هي من المحكمات والتي هي مدعاة فخرنا واعتزازنا، والذين يتعرّضون دوماً لسهام العدو الداخلي والخارجي إنّما تضاهي الملائكة، والملائكة لا يتقاضون أجراً على مهامّهم؛ لا من المعتقد ولا من الناس ولا من خالق العقيدة. هكذا هو الجو الفكري لأهل بيت العصمة الأطهار (عليهم السلام).

نعم، قد يوجد من يتّخذ نشر الدين وسيلة، إلاّ أنّ هذا البعض من المتشابهات وهو خارج عن محلّ بحثنا.

وأمّا علماؤنا الأبرار الذين يحملون رايات الفقاهة، وهم بُناة الحضارة الدينية الأصيلون والذين يضاهون أهل البيت (عليهم السلام) والملائكة، لا يطلبون من الناس شيئاً ولا من العقيدة ولا حتّى من الله سبحانه، فإنّ الأئمة الأطهار (عليهم السلام) والأوحدي من العلماء لا يقدمون على عبادة الله طلباً للدنيا، بل إنّهم لا يعبدونه حتّى خوفاً من النار أو طمعاً في الجنّة، وليس قليلاً من الفقهاء من أفتى ببطلان عبادة من عبد الله خوفاً من جهنّم أو طمعاً بالجنّة، ولكن ابتداءً من الشيخ البهائي إلى صاحب (العروة) صاروا في قبال أمثال ابن طاووس، وقالوا: لا ينبغي خلط الفقه الأصغر بالفقه الأكبر، ولا ينبغي إدخال الذوق العرفاني في الرسائل العملية، ويقال بأنّ الذي يعبد الله خوفاً من جهنّم أو طمعاً بالجنّة تكون عبادته باطلة.

فالذي يرى بطلان العبادة إذا كانت عن خوف أو طمع، هل يمكن أن يمدّ عينه إلى مائدة زيد أو ما في يد عمرو عند نشره للدين؟!

إنّ هؤلاء هم حماة الدين وإنّ أمثال بحر العلوم وابن فهد الحلّي وابن طاووس من زمرة هذه المجموعة.

يقول ابن طاووس في (الإقبال): أعرف أناساً يعرفون ليلة القدر ومنهم من يعرف ما هو أكبر منها، إنّ معرفة القدر ميسور، وأنّ قيمة ليلة القدر تكمن في أنّها وعاء للإمام وللإنسان الكامل وأنّ زمانها معروف. إنّ الذي توصّل إلى معرفة الإمام سوف لا يكون التعرّف على ليلة القدر بالنسبة إليه صعباً. فالذي يكون تديّنه شوقاً إلى الله ويفتي بمثل هذه الفتوى هل يكون عامياً؟! أو يجعل الدين وسيلةً لاكتساب الرزق؟! أو مورداً لتحصيل لقمة العيش؟!

ليس الأمر كذلك، وأنّ أكثر العلماء سلكوا طريق ابن طاووس إلاّ أنّهم بغية تسهيل الأمر أفتوا بصحّة عبادة من يعبد الله خوفاً من جهنّم أو طمعاً بالجنّة، كما أنّ حديث التثليث المنقول عن الإمام علي (عليه السلام)، وكذلك حديث التثليث المنقول عن الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) في أنّ (العُبّاد ثلاثة) دليل على صحّة عبادة هؤلاء. وأنّ بعض علماء عصرنا وهو المرحوم ميرزا جواد [الملكي] التبريزي قام بنقل كلام أمثال ابن طاووس في كتابه الشريف (أسرار العبادة)، فكما أنّه لا يجوز للفيلسوف أن يستعرض الدقّة العقلية في الفقه، كذلك لا يجوز للعارف استعراض هذا الزاد والكنز العرفاني في الفقه.

هذا هو أساس الروحانية، وهو أنّ أصل تديّنه لله وهم يعرفون أنّ العبادة لا تكون بشرط أخذ الأجرة، إذ أنّ العارف يتّجه بنفسه نحو العبادة، وعندما لا يطلبون رزقاً من الله على أصل تديّنهم، فهل يطلبونه من الناس أو من بيت المال على نشرهم للدين؟ أم أنّهم أسمى من ذلك وأرفع؟ لو لم يكن الشيعة ملائكة لما بقي الدين مصوناً على أيديهم طيلة هذه القرون الأربعة عشر، وأنّ البعض أراد أن يكون من حماة الدين، فصرخ الله فيهم {قيل اقعدوا مع القاعدين}(8)، فإنّ نعمة إحياء الدين لا ينالها أيّ شخص ارتدى هذا الثوب، كما أنّ الموفّقية في الذهاب إلى جبهات القتال لا ينالها المنافق، قال: هناك من أرادوا أن يكونوا من حماة الدين رغم عدم كفاءتهم، فألزمناهم أماكنهم وأقعدناهم مع القاعدين من النساء وكبار السن والضعفة من النساء، فإنّهم لا يليقون بالشهادة.

ولو أنّكم تشاهدون أنّ الدين قد تمّ إحياؤه في زمن المفيد إلى الاراكي ومن الكليني إلى الگلبايگاني ومن الشيخ الطوسي إلى الإمام الراحل (صلوات الله عليهم أجمعين) فما ذلك إلاّ بهذه البركة، وسرّ (التسليم) هو أنّ المرحوم الخواجه نقل في محضر درسه عامداً فتويً عن السيد المرتضى، وقال: قال السيد المرتضى (صلوات الله عليه)، فاستغرب الطلاّب، فقال المرحوم الخواجه ـ لرفع استغرابهم ـ: وكيف لا أصلّي على المرتضى، فإذا صار الشخص مرتضى ارتُضي دينه، فإنّ الله يصلّي عليه، ففي سورة الأحزاب هناك صلاة خاصّة بالنبي وصلاة تتعلّق بالمؤمنين الأبرار ومصداقهم البارز هم العلماء والفقهاء:

 

{هو الذي يصلّي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور}(9).

فإن سلك شخص هذا الطريق بشكله الصحيح فإنّ الملائكة ستصلّي عليه، وهذه الفئة تتصدّر مجتمع الفقاهة والروحانية ولا تطلب شيئاً لا من الله ولا من العقيدة ولا من الناس، ويحتمل أن يطلب الآخرون على أعمالهم أجراً من الله ويعطيهم الله أجرهم في الدنيا والآخرة، إلاّ أنّ (جهة اللقاء) لا ينالها إلاّ الأوحدي من العلماء، والآخرون وإن لم ينالوا ذلك المقام المنيع إلاّ أنّهم على كلّ حال يتصدّرون غرف الجنّة {يرفع الله الذين آمنوا منكم والّذين أوتوا العلم درجات}(10).

والدرجات يختصّ بها «الذين أوتوا العلم»، وأمّا ما يناله المؤمنون فهو «الدرجة»، ولكنّهم على كلّ تقدير يعملون لله ويطلبون منه الأجر، ولأجل أن يغنيهم الله عن مائدة زيد ومال عمرو يقوم بضمان رزقهم، وقد نظّم العقيدة بشكل يكون معه زمام المعتقد بعد الأئمة بيدهم.

إنّ الروحانية الجليلة ليست عالة على أحد، بل إنّ الآخرين يتحلّقون حول موائد الروحانية، أمّا الروحاني الذي يطلب العلم لله إنّما يعمل لله وينشره لله وليس عالة على أحد، وأنّ المعتقد هو الذي يكفل له رزقه، فإنّ المعتقد الذي لا يسعه ضمان نفسه في عالم المادة لا يكون معتقداً ثابتاً، فليس البشر مثل الملائكة الذين يكون غذاؤهم التسبيح، وإنّما يكفل المعتقد لهم ذلك في قسم الزكاة والأنفال والفيء.

وعندنا طائفتان من الآيات نفهم في ضمّها إلى بعضها أنّ الناس لا يديرون شؤون الروحانية، وإنّما الذي يدير أمرهم هو الدين، فقد جاء في مجموعة من الآيات: {لا أسألكم عليه أجراً}(11)، ويأمر النبي أيضاً بأن يقول للناس: {لا أسألكم عليه أجراً}(12)، ويقول للناس: أفهل يسألكم العلماء الروحانيون أو الأئمة أجراً حتّى تشعرون بثقل من جانبهم؟! {أم تسألهم أجراً فهم من مغرمٍ مثقلون}(13).

 

ومن جهة أخرى قال:

{يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول}(14).

فإنّ الأنفال ـ مع ما هي عليه من الكثرة والاتّساع ـ ملك للعقيدة، وأنّ الفيء وخمس الغنائم الحربية وخمس المعادن وما يستخرج بالغوص، والكنز، والحلال المختلط بالحرام وكلّ الأرباح الزائدة على مؤونة السنة ملك للمعتقد، والزكاة ملك للمعتقد، وهذه الأمور تذكر على أنّها صدقة واجبة، فقال للناس: إنّ الله الذي خلقكم ورزقكم، وأنتم لا تملكون الأنفال والزكاة والفيء والخمس، فإن لم تدفعوها فلستم بطاهرين، ولديكم معتقد يحدّد الطهارة والتلوّث، ويبيّن لكم المطهِّر.

فالأموال التي تدفعونها إلى بيت المال ليست ملكاً لكم وما دمتم لم تدفعوا مال المعتقد فلستم بأطهار: {خُذ من أموالهم صدقةً تطهِّرهم وتزكّيهم بها}(15).

والصدقة الواجبة تُطلق أيضاً على الأنفال والفيء والخمس والزكاة، وقوله «تطهّرهم» ليس جواباً للطلب، فإنّ الجملة في محلّ نصب صفة «للصدقة» أي خذ من أموالهم الصدقة التي تطهرهم.

إنّ الإنسان يفكّر أحياناً تفكيراً أرضياً ويقول: إنّ بيت المال إنّما هو لسدّ حاجات الفقراء، ولكن أحياناً يفكّر الإنسان تفكيراً سماوياً ويقول: إنّ بيت المال من أجل تطهير المجتمع، كما أنّه ينظر أحياناً إلى النكاح بعين ملكوتية فيقول: مَن تزوّج فقد أحرز نصف دينه، هذا اختلاف في الرؤية وهو كاختلاف السماء عن الأرض. فمن يتزوّج لإشباع غريزته إنّما هو ذكر وأنثى يتماسّان، ولكن الذي يتزوّج لإحراز المعتقد من ذكر وأنثى فهما إنسانان قد جعل الله لهما في أنفسهما أزواجاً لإسكانهما إلى بعضها:

{ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها}(16).

هكذا هي تعاليم الدين كلّها، فإنّ من يفكّر بشكل ربّاني ينظر إلى جميع الأمور الفقهية بعين ملكوتية، وإنّ من يفكّر تفكيراً أرضيّاً يرى جميع الأمور في نطاق المعدّة وتنظيم الأمور العادية والمادّية لا غير.

إنّ (الصدقة) مثل (الغسالة) ما دامت متجمّعة في قطعة القماش فهي نجسة ولا تطهر إلاّ بعصرها وإخراج الماء منها، فالصدقة إن كانت في ذمّتك فلست بطاهر وإن كان عليك خمس أو زكاة ولم تدفعها فلست بطاهر، وأنت بحاجة إلى مطهّر سماوي ليطهّرك بماء الصدقة الطاهر كما أنّ الولي يطهّر الطفل، فإنّ أهل البيت أولياء البشر (النبي) ولي مطهّر، و(الصدقة) ماء طهور .

إنّ (الروحانية) لا ترتزق من الناس، فنعم ما قاله ذلك العظيم من أنّ الروحاني الذي يرتزق على أموال الناس عاميّ . وأمّا ما قاله الآخر من أنّه لا يصحّ حتّى الارتزاق من الدين، فليس بصحيح، وذلك لأنّ الدين هو الذي تكفّل له بذلك، فقد ورد في متون الفقه والروايات بكثرة أنّ القاضي والمؤذّن ومعلّم القرآن والأخلاق والأحكام يرتزقون من بيت المال، وقد قالوا: يندر أن يظهر بين الفقهاء فحل كالمحقّق. إلاّ أنّه يوجب هذا الكلام في متن شرائعه.

فإن وجد شخص وكان له من يمدّه أو كان مثل علي وأبنائه ذوي علم ربّاني وأساتذة في شتّى العلوم فإنّه يستعين بمزرعته، إلاّ أنّ الذي يريد أن يدرّس ويمضي عمره على ذلك ثمّ يقوم بنشر العقيدة فإنّ العقيدة هي التي تتكفّل برزقه لا الناس.

لو عرف طلاّب العلوم الدينية هذا الكلام وأذعنوا بأنّ المعتقد هو الذي يضمن لهم الرزق لا الناس، فإنّهم في الوقت الذي سوف يراعون فيه الأدب سيتخلّصون من أسر الارتباط ووثاق التملّق، بل ويتحرّرون من كلّ ما فيه شائبة التعلّق الدنيوي، وإذا تحرّر الشخص فقد قطع نصف الطريق، وإذا أراد بلوغ القمّة فلابدّ أن يتحرّر من كلّ ألوان التعيّن.

إنّ ارتزاق الروحانية يكون على المعتقد، والروحانية تقول أيضاً:

{وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على ربّ العالمين}(17).

وقال في سورة يس:

{اتّبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون}(18)، ولا تظنّوا أنّكم تتكفّلون برزقهم.

إذا قام فقهاء الإمامية الكبار والروحانيون بنشر الدين عن تجارة ـ والعياذ بالله ـ فهذا إنّما كان عندما كانت الروحانية من غير نور، في حين أنّ مؤسّس الحوزة العلمية في قم آية الله الحائري اليزدي قام في أوج الكبت في عهد رضا خان، قام بتربية طلاّب حملوا مرجعية العالم الشيعي لنصف قرن، ولكن حتّى إذا كان العشّاق آلافاً فالمعشوق واحد، إنّ الذي انبرى ونبّه الشرق والغرب إلى أنّ الروحانية ليست فقط لا تطلب شيئاً من الناس، بل لا تطلب شيئاً حتّى من المعتقد، إنّ الروحانية لا تخاف جهنّم ولا تطمع في الجنّة، وإنّما تطمع في جلال وجمال كبرياء الحقّ تعالى، وإنّ الإمام الراحل هو الذي تحمّل أعباء هذا الطريق وجميع المخاطر، فهدموا داره وبدّدوا مكتبته، ولم يتركوا تهمة في قاموس التهم إلاّ واتّهموه بها، ولم يدعوا إهانة تجول في ذهن المجرمين إلاّ ونسبوها إليه، إلاّ أنّ كلامه الوحيد كان هو:

{إنّي على بيّنةٍ من ربّي}(19)، وحالياً فإنّ خليفة يقول هذا الكلام نفسه.

_____________________________

(1) «الروحانيون، والروحانية» مصطلح فارسي المقصود منه علماء الدين وطلبة العلوم الدينية.

(2) سورة الأعراف: الآية 169.

(3) سورة يونس: الآية 39.

(4) سورة التوبة: الآية 122.

(5) سورة الطلاق: الآيتان 2،3.

 

(6) سورة طه: الآية 124.

 

(7) سورة آل عمران: الآية 18.

 

(8) سورة التوبة: الآية 46.

 

(9) سورة الأحزاب: الآية 43.

 

(10) سورة المجادلة الآية 11.

 

(11) سورة الأنعام: الآية 9.

 

(12) سورة هود: الآية 11.

 

(13) سورة القلم: الآية 146.

 

(14) سورة الأنفال: الآية 8.

 

(15) سورة التوبة: الآية 103.

 

(16) سورة الروم: الآية 21.

 

(17) سورة الشعراء: الآيات 109، 127، 145، 164، 180.

 

(18) سورة يس: الآية 21.

 

(19) سورة الأنعام: الآية 57.