لا استكبار ولا استضعاف

 

(فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ)[1]، (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً)[2].

 

تنتشر في المجتمع العالمي حالة الاستكبار والاستضعاف، وهي ليست ظاهرة وليدة في وقت قريب، إنها ظاهرة مرضية صاحبة تاريخ الإنسان في كل عصوره وبقيت ملازمة له، وهذه ظاهرة ذات شقّين متلازمين: ما كان استكبار إلاّ وكان معه استضعاف.

 

وما يدفع لها أساساً هو حبّ الظهور والسيطرة، وما يُغري بها اختلاف ميزان القوى في الناس، وما تعمل عليه روح السيطرة من أجل التمكين لحالة التفوّق الخارجي والاستعباد والإذلال للآخر هو المزيد من الاستضعاف للمستهدَف وتجفيف منابع قوّته وممانعته حتى يتمّ إحكام السيطرة وضمان استمرارها.

 

يعمل طالب السيطرة على الغير واستعباده على أن يزيد من مستوى قوّة نفسه، وتجميع كل ما استطاع من أسبابها بيده، وأن يسدّ كل منابع القوّة التي تصبّ في صالح مستهدَفه ومنع مناشئها، وتتّجه عملية استضعافه له في كل الأبعاد من سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي وأمني ونفسي وديني وصحّي، وأيّ بعد آخر يمكن أن يكون سبباً للنهوض والقوّة والقدرة على الممانعة.

 

وفي هذا عمل تخريبي لأكبر مشروع لتقدّم الحياة والإصلاح، وأعظم موجود على ظهر الأرض وهو الإنسان، وهو عمل سيّء خبيث بالغ الخطورة، ومضادّ لإرادة الله (عزّ وجلّ) ودور الخلافة والإصلاح والإعمار الذي كُلِّف به هذا المخلوق المهيّء لذلك.

 

ولا تنشأ ظاهرة الاستكبار والاستضعاف في ظلّ عقيدة التوحيد وحضورها في نفس الإنسان، لأن في استكبار العبد تنكّراً واضحاً لعبوديته، وتمرّداً على حقّ الله في الخضوع له وإرادته في المساواة بين عبيده في واقع العبودية وإذعانهم لها. والاستسلام للاستضعاف منافٍ هو كذلك لقضية التوحيد لأن فيه تشجيعاً على دعوى الربوبية الكاذبة من المستكبر، واستجابةً لرغبة الإشراك بالله سبحانه، ومنافاةً لإخلاص العبودية له وعدم بالذلّ إلاّ بين يديه[3].

 

فالإسلام وهو عقيدة التوحيد الشامل الخالص يحرّم الاستكبار ويحرّم الاستضعاف من أجله، ويحرّم القبول بحالة الاستضعاف للذات، ويحرّم القبول بحالة الاستضعاف والبقاء في الذلّ عن اختيار، ويفرض على المسلم أن يعمل جاهداً على التخلّص من موقع الضعف الذي يسبّب له الذلّ، وفقد الإرادة وتعطيلها، وسلب الخيار الحرّ في الحياة، والوقوع في قهر الغير وتحت إرادته، والاضطرار إلى التنازل عن شيء من دينه.

 

كما يدفع الإسلام أبناءه إلى طلب القوّة للإصلاح وخير الناس والحياة والمجتمعات، وصلاح الدنيا والآخرة، ودفع الشر ودرأ العدوان.

 

فالقوّة المأمور بها في الآية الكريمة[4] ليست قوّة استكبارية ولا عدوانية، وإنما هي قوّة رادعة لعدوّ الله وبطشه الظالم[5] وعدوانيته الغاشمة، وعدو الله لا يعرف معروفاً ولا يتوقّف عن منكر، ولا دين له ولا ضمير ولا حدود ولا قيم ولا أخلاق ولا رحمة، فإرهابه إرهاب للشرّ وقطع للطريق على الظلم والبغي والعدوان.

 

قوّة للخير لا للشرّ، والإصلاح لا الإفساد، والأمن لا الخوف، والعدل لا الظلم، والفضيلة لا الرذيلة، إنها لصالح كل الشعوب والأمم، ولقطع دابر الطغاة والمستكبرين في الأرض، إنها ليست بديلاً عن العدل والرأفة والرحمة والإحسان والحق وإنما هي لدعم ذلك كله.

 

والإرهاب الذي تتحدّث عنه الآية الكريمة ليس إرهاباً على الأرض[6]، ولا تبنّياً لسياسة العنف أصلاً مكان الحوار، وإنما هو بناء للذات، وتملّك لأسباب القوّة، وإقامة واقع متين على الأرض يهابه المعتدون والطامعون في النيل من الدين والحقّ وعزّة الأمّة وكرامتها، ويمنع مغامراتهم في مواجهتها ويعطّل عندهم لغة الحرب.

 

فروضٌ ثلاثة

 

كثيراً ما تتعرّض علاقة الحكومات بشعوبها إلى الاهتزاز والمشاكل المعقّدة، وذلك ليس من فراغ، وإنما في الأكثر لأسباب موضوعية موجبة تتمثّل في الأغلب في التوجّهات السياسية غير العادلة، والتعملق والتمدّد في الثروة والقوّة على حساب الشعوب وامتصاص جهودها، وسوء التعامل، والقوانين الجائرة التي تنتصر للقويّ على الضعيف، وعلى المظلوم للظالم.

 

والعلاقة بين الشعوب وحكوماتها لها فروضٌ ثلاثة:

 

أوّلاً: سياسة القمع والشدّة والعصا الغليظة وما يدعمها من قوانين تعسّفية جائرة، وهي سياسة لا بدّ لها من توليد ردود فعل ساخطة مبكّرة أو متأخّرة، وقد تنتهي إلى تفجرات خطيرة كما شهده أو يشهده عدد من الساحات العربية هذه الأيام، إذ الشعور بالذات لا يموت، وصوت الحرية في الكثيرين وعند الكثيرين لا يُقبر.

 

ثانياً: سياسة المراوغة والوعود الحالمة الكاذبة والتسويفات المستمرة والتسويقات الزائقة، وهذه سياسة إن خدعت بعض الوقت فإنها تسحب الثقة في الأخير، وتنتهي إلى نفس النتيجة التي تنتهي إليها السياسة الأولى.

 

ثالثاً: سياسة الإصلاح والصدق والإخلاص للشعب ومصالحه، واحترام رأيه ووجهة نظره، والعمل على رفع مستواه وتوحيد صفوفه وتلاحمه، وهي سياسة تعطي تلاحماً بين الشعب، وتلاحماً بينه وبين حكومته، وتوفّر كل الجهود لتصبّ في صالح الوطن كله وإثرائه وارتقائه وتقدّمه، وتخلق حالة من الأمن المتبادل، وأن يكون كل واحد من الطرفين حارساً للآخر، محافظاً على أمنه الذي هو من أمن نفسه وعلى مصلحته التي لا تنفصل عن مصلحتها.

 

والحكومات في الأغلب لا يقع اختيارها على هذا الفرض، وتضيّع الطريق، وتدخل الأوطان في المتاعب والمتاهات، وتذلّ نفسها بالحاجة إلى الاستقواء بالخارج وطلب الأمن والدعم منه ضد شعوبها، وبذلك ترتكب ظلماً في حقّ الشعوب وخطأً في حقّ نفسها، ولكن المعتبر قليل.

 

-----------------------------------------------

 

[1] الأحقاف: 20.

 

[2] النساء: 97-98.

 

[3] هتاف جموع المصلين: هيهات منا الذلة.

 

[4] الآية: ?وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ? الأنفال: 60.

 

[5] وإذا كان هناك عدو لله فهو ظالم، بطّاش، مفسد. هذه القوّة ليست في مواجهة الإصلاح، ليست في مواجهة الخير، إنها قوّة من أجل الخير وضد الشر.

 

[6] ليس إرهاباً بالمفهوم المطروح الآن، وهو أن تكون هناك قوّة فتّاكة تبطش من غير حساب، وتقتل الأبرياء، وتفجّر في الأسواق وفي دور العبادة. الإرهاب الذي تتحدّث عنه الآية الكريمة هو بمعنى آخر.