عودة إلى رأي:

 

الشخصية شخصيتان، شخصية حقيقية وشخصية اعتبارية، مثال الأولى أنا وأنت، ومثال الثانية المؤسسة الثقافية أو الاجتماعية أو السياسية أو الدولة. وإذا نُظر إلى الشعب فمرة يُنظر إليه بلحاظ كل فردٍ فردٍ من أفراده، ومرة يُنظر إليه في مجموعه وبما هو كيان اجتماعي موحّد له شخصيته الجامعة الواحدة.

 

هو بلحاظ الأوّل مجموعة من الشخصيات الفردية الحقيقية المستقلّة المتعددة، وبلحاظ الثاني شخصية اعتبارية موحّدة.

 

وشخصيات الأفراد كل واحد منها إنما يمثّل نفسه، ولا يمثّله غيره إلا بإذنه. نعم بالنسبة إلى القاصر أقامت له الشريعة والقانون وليّاً يرعاه ويمثله، والشعب في شخصيته الاعتبارية لا يمثّله شعب غيره ولا عضوٌ من أعضاءه شخصاً كان أو مؤسسة إلا أن يقيم هو نفسه وبإرادته الحرّة من يمثّله، وليس لأحدٍ أن يفرض نفسه عليه وينطق باسمه ويعطي الرأي عنه في أيّ مسألة تهمذه خارج إرادته ومن غير اختياره.

 

وفضولٌ واضحُ، وتعدٍّ صارخٌ، أن يعطي أحدٌ نفسه سواء كان شخصية حقيقة أو اعتبارية حقّ تمثيل الشعب وفرض رأيه عليه، وإن فعل ذلك لم يعتبر تمثيله، وكان بطلان هذا التمثيل من أوضح الواضحات.

 

وتمتّع أيّ شيء بالاستقلالية في التعبير عن نفسه وبمحض إرادته، وحاجة أيّ جهة تريد أن تمثّل الشعب وتنطق باسمه إلى إذنه وموافقته حقٌّ واضحٌ لا غموض فيه، يعترف به كل العالم، ولا ينكر عليه ذو عقل سليم، ولا جديد فيه على الإطلاق.

 

وهذا ما قالته خطبة الجمعة السابقة في هذا الجامع، ولأنه من الحقّ الذي لا غبار عليه ولا مراء فيه، ولا يصحّ لعاقلَيْنِ أن يختلفا عليه، ولا منطلق له غير الإنصاف واحترام إرادة الناس، فإنّي أعود للتأكيد عليه واحترامه والتمسّك به، ولو كنتُ وجدتُ فيه خطأ لما تردّدتُ في الإعلان عن الخطأ فيه والتراجع عنه، ولكنّي لا أجد فيه شيئاً من خطأ أو منفذاً لنقد من أيّ شخصٍ يلتزم الإنصاف ولا يبيع عقله ودينه بثمنٍ من أثمان الدنيا وإن خرج على الحقّ الصراح وخالف كل موازين العلم والعدل علناً وبشكل مكشوف فاضح.

 

ثم إنه لا أدري كيف يقال عمّن أنكر على أيّ تمثيلٍ للشعب والنطق باسمه من غير تخويل منه، أنه يريد فرض نفسه على الشعب ومصادرة رأيه ونصب شخصه وليّاً عليه؟!، ولكن لا عجب من أيّ مغالطة وقلبٍ للحقائق من صحافة إنما اُنشِأت أساساً من أجل ذلك[1]، وتجد ما يأمّلها ومن يأمّنها ولو خالفت كل قيمة دينية وخُلقية، وكل عرف وكل قانون، ونالت من كل مواطن تستحسن السياسة النيل منه وتستهدفه.

 

وأريد التنبيه على شيء، وهو أنّي شخصياً لست في وارد تمثيل الشعب اليوم أو غداً في أيّ لونٍ من المفاوضات في هذه الظروف أو غيرها ولو بتخويل من الشعب نفسه، فضلاً عن أن أفرض نفسي عليه[2]، فضلاً عن أن أفرض نفسي على أحدٍ من الناس وأقول عنهم ما لا يقولون، وأقيم إرادتي مقام إرادتهم التي لا يقوى المتقوّلون على مسابقتي في الاعتراف بها، في الوقت الذي أحترم فيه إرادتي واختياري.

 

ولا أدري فلعلّه قد علم الكثير، أنه سبق أن جمعني في جملة من الأخوة أصحاب السماحة العلماء اجتماع رسميّ رفيع - قبل ما يزيد على السنة أو يقلّ -، وقد رفضت فيه مع الأخوة العلماء التفاوض باسم الشعب، وكان الرأي أن تتولّى الجمعيات السياسية هذا الأمر تمهيداً لعرض نتائجه على من له الحقّ في التعبير عن رأيه، ومن يقول عنه الميثاق وتقول عنه السلطة بأنه مصدر السلطات وهو الشعب كل الشعب، لا عيسى وحده ولا غيره.

 

الشيعة وأهل البيت (عليهم السلام):

 

لأهل البيت (عليهم السلام) مكانتهم الخاصة عند كل المسلمين، ويتميّز ارتباط الشيعة بأهل البيت (عليهم السلام) بفكرهم وإمامتهم ومناسبات فرحهم وحزنهم أيّما تميّز. وأينما كان وجود شيعي إمامي في وطن أو مهجر وجدت مظاهر الاحتفاء بذكريات أهل البيت (عليهم السلام) فيما يخصّهم من مناسبات الأفراح والأحزان، وتجد ذلك في كثير من بلاد العالم الإسلامي وغيره حيث يتواجد أتباع أهل البيت (عليهم السلام) كما تعطي الفضائيات صورةً عن هذا الواقع المشهود[3].

 

وللبحرين تاريخ عريق مرتبط بأهل بيت النبوّة الطاهر ومناسبات أفراحهم وأحزانهم، وبمجالس العزاء والمواكب الحسينية الشريفة. ومن الواضح جدّاً أن رفض الاحتفاء بهذه المناسبات هو رفضٌ للوجود الشيعي نفسه[4]، وأن التصرّف فيه على خلاف ما يراه المذهب[5] هو تصرّف في المذهب نفسه.

 

ولا يعني فرض وجهة نظر معيّنة على ممارسة الشعائر لمذهب معيّن إلاّ هيمنة جبرية على هذا المذهب، وهي هيمنة ينكرها العالم كلّه، وكل المؤسسات الدولية ومنظّمات حقوق الإنسان، هيمنة لا يمكن حسب طبيعتها الاستفزازية أن تسمح بأيّ استقرار سياسي في أيّ بلد تمارس فيه.

 

محاكمات لا تتوقّف:

 

محاكمات أبناء الشعب تتوالى ولسنوات، وقد شملت سنّ ما دون البلوغ، والشباب والمشيب، والنساء والرجال، وعلماء الدين، والأطبّاء والمعلّمين ومختلف المراتب الاجتماعية، وأصحاب المهن والوظائف المتفاوتة، وكل ذلك والوضع حسب الإعلام عادي وإن كثُر المتآمرون والجناة من الطبقات العلمية والاجتماعية المتقدّمة في هذا الشعب!!، والوضع السياسي لا يحتاج إلى إصلاح وكل شيء فيه على ما يرام!!، وعلى الناس أن يصمتوا بل أن يؤيّدوا السياسة القائمة بكل ما فيها لأن ليس فيها إلاّ ما هو حقٌّ وعدلٌ وإنصافٌ وتقدّم!!، عليهم أن يؤيّدوا السياسة الموجعة لهم ولا يطالبوا بالإصلاح ليبرهنوا على أنهم مواطنون صالحون!!.

 

وهذا اللون من الطرح ما زال ولا يزال يقرُب بالوطن من هاوية الدمار المروّع، ما لم يكن تداركٌ سريعٌ بالإصلاح الذي ينال رضى الشعب ويوقف النزيف.

 

وإذا قيل بأن الإصلاح آتٍ، اتّجه نظر الناس إلى ما على الأرض من مقدمات، فلم يجدوا توافقاً بين واقع المحاكمات، واستمرار الفصل من الوظائف والجامعات، وكبت الحرّيات، ومواجهة المجالس الحسينية والمواكب العزائية بالتنكيل، ومطاردة صلوات الجماعة والجمعة، والانتشار الأمني في المناطق المختلفة ونقاط التفتيش، وبين أمل الإصلاح، فكل ما على الأرض يقول لك لا إصلاح، ويدعم ذلك إعلام لا يبرح يثير مشاعر الكبار والصغار ويستفزّها.

 

والمحاكمات منذ سنين وإلى الآن اعتمدت وسيلة واحدة في الإدانة، هي وسيلة الاعتراف في الظلام، وآخرها محاكمة الأطبّاء التي لم تتغيّر هذه الوسيلة فيها عمّا كانت عليه، والتي لا يكون لها إثبات إلاّ في حكم النفي الصريح في ميزان العدالة، فإذا لم يكن غيرها فلا يصحّ عليها أيّ اعتماد.

 

وإذا نُزِّهت هذه الاعترافات من الضغط والإكراه والظروف النفسية القاسية، فعلى من يشهد لها بالنزاهة أن يقبل بلجان التحقيق المحايدة، التي تطالب بها منظمات حقوقية خارجية ليس هناك ما يغريها بالانحياز إلى الشعب أو الخوف منه.

 

إن البحرين لتخسر كثيراً بمحاكمة كل هذه الأعداد الغفيرة من شباب ونخب ممتازة، ورموز كبيرة، ونساء شريفات، ورجال صالحين، تخسر كثيراً من سمعتها، وكثيراً من استقرارها، وكثيراً من كفاءاتها، وكثيراً من تخصّصاتها وخبراتها، والأدوار الإنمائية، والثروة الإنسانية العالية فيها.

 

وهي محاكمات تعقّد الأوضاع، وتزيد من حالة الاحتقان، وتولّد الغليان، وتنذر بالشرور، وليس من مصلحة البحرين بكل اللحاظات أن تمضيَ كل من في هذه المحاكمات وترتّب عليها النتائج السيّئة بما لها من مردودات خطيرة[6].

 

--------------------------------------

 

[1] هتاف جموع المصلّين: لبّيك يا فقيه.

 

[2] هتاف جموع المصلّين: هل من ناصر مقاوم، لبّيك عيسى قاسم.

 

[3] اليوم تقام التعزية ويقام الموكب الحسيني في لندن، في باريس، في كثير من بلدان الغرب وبلدان الشرق.

 

[4] هتاف جموع المصلّين: هيهات منّا الذلّة.

 

     هتاف جموع المصلّين وسماحة الشيخ: لبّيك يا حسين.

 

[5] أيّ التصرّف في هذا الاحتفال.

 

[6] هتاف جموع المصلّين: نطالب بالإفراج عن المساجين.