إذا حصل السبب حصل المُسبب:

 

فلسفياً وخارجياً إذا حصل السبب حصل المُسبب، وهو قانون سارٍ في عالم الطبيعة والاجتماع والسياسة والاقتصاد، ومختلف جنبات الحياة والوجود.

 

والمجتمع الذي ينقسم إلى ظالمٍ ومظلوم، ناهبٍ ومنهوب، سالبٍ ومسلوب، قاهرٍ ومقهور، أمنٍ وخائف، مترفٍ ومحروم، لابد أن يكون منشأً للصراع واحتدامه، ومجتمعات الأرض اليوم ـ إلا ما ندر منها ـ تعيش هذا الانقسام المنتج للصراع المؤجج له، وحالة الانقسام المرضي هذه لابد منها في غياب الدين الحق والقيم الخلقية الأصيلة عن عالم السياسة والاجتماع.

 

وتعاني المجتمعات العربية بصورة فضيعة من هذا الواقع السيئ من الانقسام، وتتقدم على مجتمعات كثيرة في العالم في هذا المضمار، وتكرس هذا الواقع حكومات مستبدة لا تقيم لشعوبها وزناً بمقدار مثقال، ترى أن الأرض لها، ترى الثروة مختصة بها، إنسان الأرض رقاً تحت يدها، لها التصرف فيه كيف تشاء، وليس له في قبالها شيءٌ من حقوق .. طعامه، شرابه، ملبسه، مسكنه، تعلمه، بقاءه حيا دون تصفية جسدية منةٌ منها، إن قصر في شكر هذه المنة، فلم ينحني، ولم يسبح باسم الحكومة المنعمة عليه بها حق عليه العذاب.

 

والظاهرة ليست بنت اليوم، وإنما قد ترسخت طويلا، ومكثها في الأرض عامة وفي الأرض العربية بالخصوص طويلٌ مقيم، لكن لماذا اليوم لا أمس يرتفع صوت الشعوب، وتكثر التحركات والثورات، ويعلو لهب النار، ويحتدم الصراع؟

 

السر،، السر أن من عناصر العلة انتفاء المانع، فحتى مع وجود المقتضي لا يولد المُسبب في ظل ما يعطل فاعليته.

 

فالظلم والنهب والقهر والإساءة، وازدراء الشعوب، والاستخفاف بكرامتها، واستعبادها، وتجهيلها، واستعمارها من قبل الحكومات هو ما اعتادته الساحة العربية منذ قديم، ومنذ تنكرة هذه الحكومات لإسلام الأمة وإنسانيتها.

 

والتخلف الفكري، والهزيمة النفسية، وسحق الثقة في النفس، ومحق إرادة التغيير عند الشعوب بفعل سياسة التجهيل والقمع والإذلال، وتحريف الدين وتحويله إلى آداة تخديرٍ وتدجينٍ واستسلامٍ لإرادة الظالم، كان دائماً هو المعطل لحركة الشعوب من اجل استرداد حقها وكرامتها.

 

كان هذا هو المانع من أن يدفع ـ واقع الظلم والاستبداد والأثرة والقهر الذي تمارسه الحكومات ـ شعوب الأمة للتحرك، وقبول ما يتطلبه من ثمنٍ باهظ، وقد شاء الله عز وجل أن يرتفع هذا المانع بحدوث درجةٍ من الصحوة الإسلامية التي عمت الأمة، فكان لها منها بعثٌ قوي، وحياة فكر وإرادة ومضاء وروح تضحية من جديد.

 

وبهذا المستجد في حياة الشعوب، كان لابد من نهضة، ولابد من إصلاح وتغيير وإن كلف الكثير، وهذا الذي كان حين هب صاحب الحق للمطالبة بحقه، وأصر المأسور على استرداد حريته، وأبى المظلوم أن يقر للظلم في أرضه قرار. فتداعت التحركات والاحتجاجات والمسيرات والثورات في مختلف البلاد العربية، وتنادت صيحات الإصلاح والتغيير هنا وهناك، وجن جنون الحكومات فلجأت إلى كل سلاحٍ فتاك من أجل إسكات صوت الشعوب[1].

 

وإلى أين تتجه الأمور، وترسو السفينة، ويصير الواقع؟

 

عناد حكومات وإصرار شعوب:

 

حكومات لا تريد أن تتنازل عن شيء من استبدادها، وظلمها ونهبها، واستعلائها واستكبارها، أو تعترف بشيء من قيمة الشعوب وحقها في رسم مسار حياتها وتقرير مصيرها، وتمتعها بحريتها وكرامتها، والاعتزاز بإرادتها.

 

وشعوبٌ لم يعد يثنيها عن استرداد هذا الحق صعوبة من الصعوبات، ولا تحدٍ من التحديات، ولا أي آلامٍ تلقاها على الطريق أو سبب منيةٍ يعترضها.

 

عود الأمور إلى ما كان ليس في الإمكان، وليس له أي مكان، والتنازل السهل من الحكومات غير واردٍ في الكثير، والواقع المشهود وما يسجله من استماتة الشعوب رغم كل التضحيات، وتصاعد الروح الثورية في إنسان هذا الجيل ـ يوماً بعد يوم ـ حتى لا يزيده ارتفاع مستوى التضحيات إلا إصراراً وصمودا، ينفي تماماً إمكان أن يحصل تراجعٌ في حركة المقاومة، لظلم الحكومات واستبدادها وما تصر عليه من استعباد الشعوب[2].

 

والمظلوم إذا استرد إرادته أقوى من الظالم، والموجع أشد اندفاعةً للتخلص من آلامه من مترفٍ يهمه أن يحافظ على ترفه، فالنتيجة للصراع حسب المقدمات الموضوعية هو الإصلاح والتغيير، والتراجع لصالح إرادة المظلومين وحقهم، وهو التراجع الذي يدعو إليه العقل والدين والضمير، وهو التراجع الذي يحفظ إنسانية الطرفين ومصلحتهما.

 

 

 

تحية للأطباء:

 

أثاب الله الأطباء الذين غادروا السجن على ما أحسنوا، وعلى ما ابتلوا به وصبروا.

 

وتحيةً لهم وهم يخرجون من امتحانهم الطويل، وتجربتهم القاسية، التي لم يكن يخففها إلا أنها بعين الله وفي سبيله، يخرجون وهم على وفائهم لدينهم ووطنهم، حيث الإصرار على العدل والإنصاف، وتفعيل الإصلاح، والرجوع إلى الشعب في أمر نفسه واحترام إرادته والاعتراف بكرامته، وهذا حقٌ ثابتٌ له لا جدال فيه.

 

وتحيةٌ لكل الصابرين الصامدين في السجون من الشرفاء من أبناء وبنات هذا الشعب، ولكل الأوفياء والمخلصين.