تقرير لجنة تقصي الحقائق:

 

اللجنة التي أعلنت عن تقريرها جاء اختيارها من جانب النظام الرسمي وبمحض إرادته، ولا دخل للشعب في اختيارها، ويترتب على ذلك فإن كل ما يتضمن التقرير الصادر عنها من تسجيل انتهاكات لحقوق الإنسان مما ارتكبته أجهزة الدولة في حق المواطنين، وأي لون من ألوان التعذيب والقتل خارج القانون وتعدٍ على الحرمات فهو بمنزلة اعتراف من النظام نفسه بكل ذلك، ولا معنى لإعادة النظر فيه ودراسته بعد أن تم اعتماده من قبل لجنة التحقيق التي أقامها النظام وكيلاً مفوضاَ وشاهداً مرضياً من محض إرادته.

 

لأي جهة أخرى أن تبدي اعتراضها على التقرير فيما ترى أنه يصح الاعتراض عليه فيه، أما النظام نفسه فلا موضوع لاعتراضه ولا خيار له في رفض شيء من نتائجه المسجلة عليه وموارد الإدانة له[1].

 

وبغض النظر عن موارد القصور والتقصير التي قد وقع فيها التقرير في تغطيته الانتهاكات التي مارستها الأجهزة الرسمية في حق المواطنين، وما كان منه في بعض المواضع من عدم تسمية المسميات بأسمائها الحقيقية، وما كان أهمله من تحميل المسئولية في مقام الإدانة لكبار المسؤولين بأسمائهم الوظيفية، فإنه جاء رداً واضحاً من خلال ما تم له توثيقه من انتهاكات لحقوق المواطنين تصل إلى القتل والتعدي الجنسي والتعذيب على ما كانت تردده الحكومة وأجهزتها الإعلامية والموالاة التابعة لها من الالتزام بالدستور والقانون وتكذيبها لكل ما كانت تعلنه المعارضة من هذه الانتهاكات.

 

وتكذيب النظام الانتهاكات إلى ما قبل صدور التقرير بصورة علنية، إما عن عدم علم بالواقع ـ وإذا كان كذلك ـ فمع هذا الفرض ليس له أن يكذب من علم، على أن عدم علمه أمرٌ مستحيل، عدم علم النظام بالانتهاكات قبل مجيء اللجنة وقبل إعلانها تقريرها أمرٌ مستحيل لا يمكن التصديق به. وإما أن يكون إنكاره المتكرر للانتهاكات مع علمه بها وهذا جرم كبير وفضيحة بالغة.

 

وسجل التقرير أن الحركة المطلبية الإصلاحية وطنية لا صلة لها بالخارج، وأن أسبابها محلية، وهذا تكذيب آخر لما كانت تحاوله الجهة الرسمية من ربط الحراك الشعبي ـ الذي جاء في سياق الحركة الإصلاحية والتغييرية التي غطت الساحة العربية ولم تعرف الانحسار ـ لجهات ودول من الخارج.

 

ما جاء في التقرير من انتهاكات عديدة للحقوق ومن النوع البشع، كافٍ جداً لإدانة أي حكومة يرتكب هذا الكم من الانتهاكات تحت نظرها وعلمها فضلاً عن أن يكون ذلك سياسة معتمدة لها، وإذا كان التقرير يرى أن ليس من اختصاصه الخوض في المسألة السياسية، فإن ما أثبته من انتهاكات واسعة وخطيرة لحقوق الإنسان لا يترك شكاً في ضرورة الإصلاح السياسي الجذري بصورة مستعجلة قبل التدهور الكامل للأوضاع وانفلات زمام الأمور والامتناع على الحل.

 

ومن نتائج التقرير لما أفصح عنه من إخفاقات شديدة متعددة لحفظ حقوق الإنسان وأمانة ممارسة الحكم، أنه في أي بلد يحظى فيه الشعب باحترام من حكومته تستقيل الحكومة فوراً ومن غير تردد، ولا تحتاج استقالة الحكومة في بلدٍ كذلك إلى إثبات هذا الكم الهائل من الانتهاكات والسحق لكرامة الإنسان وحقوق المواطنين.

 

وفيما أثبته التقرير من ممارسة التعذيب في حق الموقوفين لانتزاع الاعترافات المطلوبة للجهة الأمنية، واعتمادها عنصرا للإثبات في المحاكمات ـ فضلاً عن التعذيب الانتقام ـ ما يسقط أي قيمة للأحكام الصادرة في تلك المحاكمات، وفي أي محكمة كانت.

 

وفي ضوء التقرير صار لابد للنظام الذي رضي بلجنة تقصي الحقائق فيما انتهت إليه من أحكام، أن ينصف كل المظلومين لأي جهة من جهات الدولة، وأن يحاسب كل المسئولين عن الجرائم التي ارتكبوها في حق المواطنين لينالوا جزاء جرائمهم، وان يتخذ كل التشريعات والإجراءات العملية التي تمنع من تكرار مثل هذه الانتهاكات، على أن شيءً لا يغني عن الإصلاح السياسي وتنفيذ المطالب السياسية للمعارضة كاملة، وهي مطالب لا يمكن التراجع عنها أو التنازل عن شيءٍ منها على الإطلاق، وليس من مصلحة الوطن أن يكتفي بمهدءات وقتية ومسكنات للألم، لا يلبث أن يعود بعدها بصورة متفجرة وبأضعاف ما كان عليه من قبل.

 

ومعالجة مسألة الحقوق لن تتم على يد فريق مشكل من موظفين حكوميين في الداخل، وهل الشكوى إلا من الحكومة؟، ولن تتم كذلك على يد فريق مشترك من أفراد من الحكومة وأفراد من المؤسسات السياسية أو أفراد آخرين، لأن هذه التشكيلة ستأتي من نوع تشكيلة ما سمي بالتوافق الوطني الذي ضاعف من المشكلة بدل حلها، هذا الأمر يحتاج إلى لجنةٍ أممية تعتمدها الأمم المتحدة وتتمتع بصفة الحياد التام، ومن دون ذلك يستبعد جداً أن يكون إنصاف وأن تحل مشكلة الحقوق ولو بصورة وقتية.

 

ويتسائل عن موقف السلطة من قضية التسليم بالتقرير والأخذ بمقتضاه، من تصحيح الوضع الحقوقي، والعودة إلى الاعتراف بحقوق المواطن، وإنصاف المظلومين، ومحاسبة المسئولين من التابعين لها عن الجرائم والتعديات التي ارتكبوها في حق أبناء الشعب. وما يثير هذا التساؤل برغم الكلمات التي تعلن التسليم صراحة بالتقرير، وما يعنيه تشكيل لجنة حكومية لدراسة التقرير، مما قد يعني الحاكمية لكلمة هذه اللجنة على ما تضمنه التقرير نفسه.

 

وأما مسألة تنفيذ توصياته، واتخاذ مواقف عادلة من قضية حقوق الشعب ومظلوميته، فمصيرها مصير كل الوعود المعسولة المضيعة، والمشاريع الإصلاحية التي لم تجد طريقها إلى النور، وبقيت حبراً على ورق وكلمة منسية.

 

وهنا مسألة، وهي أن حكومة البحرين شريك في العمل علي استبدال "علي صالح" ورسم خارطة طريق لانتخابات حرة كما يدعى، وهي شريك في حمل سوريا على القبول بانتخابات حرة لاختيار الشعب النظام الحاكم الذي يراه، فكيف تواجه هذه الحكومة ـ وهي تشارك في استبدال "علي صالح" وفي تصحيح الوضع في سوريا ونقله إلى الديمقراطية الكاملة ـ كيف تواجه المطالبة بالإصلاح في البحرين بالحديد والنار وبكل ما حدث من انتهاكاتٍ ومآسٍ على يدها؟!

 

وتبقى ملحوظة، إذا كان هناك ميلٌ نفسي عند الأخ رئيس لجنة تقصي الحقائق، فهو للحكومة لا للحراك الشعبي، حسب ما يقرأ من تصريحاته في أكثر من مقابلة وأكثر من موقع، وهذا يفيد بصورة قطعية مصداقية الانتهاكات التي ارتكبت في حق أبناء الشعب على يد الجهات والمؤسسات الرسمية، التي تضمنها التقرير ويؤكد يقينيتها، لأنها لا يمكن أن تتهم في ظل هذا الميل بمحاباة الحراك الشعبي والتحامل على الحكومة التي تشف التصريحات المُشار إليها عن محاولة التماس الأعذار لها في ممارساتها المدانة، وهي انتهاكات كافية لمبادرة الحكومة للاستقالة.

 

ونسأل رئيس لجنة تقصي الحقائق: هل لا يكفي لإدانة حكومة إلا سقوط ألوف القتلة من أبناء شعب قليل العدد؟ هل يطلب أن يجزر من أبناء البحرين وشعبها قليل العدد بقدر ما سقط من قتلة في مصر ذات السبعين مليون ليتحرك الضمير الإنساني؟ أليس من قتل نفساً بغير حق كمن قتل الناس جميعا؟ أليس التقصير في حفظ نفوس أبناء الشعوب كافياً وحده لإسقاط الحكومات فضلاً عن تعمد إزهاق النفوس؟ هل في علم الحقوق أن الثلاثين والأربعين قتيلاً لا تمثل جرماً للقاتل؟

 

خطبة الجمعة 28/12/1432ﻫ 25 نوفمبر 2011م

 

ــــــــــــــــ

 

 [1] كلام لجنة التحقيق ملزم لطرف غير ملزم لطرف آخر، من جاء بلجنة التحقيق شاهدا ورضيها حكما بمحض إرادته، فكل ما تدين به اللجنة هذا الطرف يلزمه، أما الطرف الذي لم يكن له اختيار في ذلك فهو أجنبي من المسألة، أجنبي عن كل إدانة، هذه الإدانة متبرع بها من شاهد غير مرضي، قد أرضاه وقد لا أرضاه، من الشعب من قد يرضاها ومن قد لا يرضاها، ومن الشعب من قد يرضاها في أمرٍ وقد لا يرضاها في أمرٍ آخر.