بين الحق والقانون:

 

لا حياة على مستوى الاجتماع بلا قانون، ولا قيمة لقانونٍ بلا تطبيق، ووجود القانون اسميٌ لا غير إذا كان تطبيقه على بعضٍ دون بعضٍ في المجتمع الذي شُرع له. ولا قيمة لقانونٍ لا تكون قاعدته الحق وقصده العدل، وإنما دعت الحاجة إلى القانون لدعوة الحاجة إلى الأخذ بالحق وإقامة العدل، ومن أراد الظلم فلا حاجة له إلى قانون لأن منطلق الظلم الهوى والهوى لا ثبات له على شيء ولا يخضع للضوابط.

 

وإذا نادى ظالم بالقانون فإنما ليتخذه أداةً طيعةً في مقام التطبيق يتصرف فيه هواه، ويستعين به على تحقيق ما تشتهيه نفسه، ويُفعل منه ما اقتضى ذلك تفعيلا، ويُعطل منه ما استوجب ذلك تعطيلا.

 

والقوانين التي تولد ظالمة هي قوة تشريعية تضاف إلى قوة الناب والظفر التي بيد الظالم تثبيتاً لظلمه وترسيخاً له، وتبريراً يزيد من سوءه ومأساته. ومن أظلم الظلم تشريع القوانين الظالمة التي تعطي تأصيلاً للظلم، وتظهره كذباً وزوراً بمظهر العدل وتبرره.

 

وتقبح الصورة بدرجة أشد ويتفاحش الظلم عندما يكون الدستور الذي يعد أصلاً للقوانين الفرعية ظالما، وصوتاً لاهباً لظهور المستضعفين، وما استقل فردٌ بوضع دستور أو قانون لشعبٍ أو أمة إلا وكان نظره فيه إلى ما يراه مصلحة له ولمن هو أقرب من هواه وميل نفسه، وكذلك هو شأن أي هيئةٍ تتولى مهمة وضع دستور أو قانون، فالدستور الذي يخلو من مس الجهل والهوى والقصور مطلقاً إنما هو الدستور المتنزل من السماء لا غير.

 

وإذا أراد مجتمعٌ أن يدير ظهره لشريعة السماء، أو اضطرته الأوضاع أن يعتمد على التجربة الأرضية وخبرتها، فإنه لتجنب الحالة الأسوأ لابد من دستور تعتمد الطريقة الديمقراطية في وضعه بعيداً عن تحكم فردٍ أو جماعة.

 

واستقلال أي حكومة ظالمة بطبيعتها مخالفة للحق والعدل، ملغية النظر للدين والضمير وكل أصل إنساني وخلقي وكرامة الإنسان، ولا ترى إلا ما تتصوره من مصلحتها، ولا تلتفت إلا إلى مشتهاها، ولا تستهدف إلا بقاءها والتأكيد على تميزها، هذا من أكبر ما يبتلي به الشعب أو أمة ومن أشد أسرٍ لهما وأقصى إلغاء لإنسانيتهما.

 

وواضح أنه كلما زاد التمسك بالقانون الظالم وبولِغ في تطبيقه، كلما ازداد الظلم واشتدت ضراوته وضاق الأبرياء بالحياة ذرعا وكانت حياتهم شقاء.

 

وأي قانون ظالم يطالب الناس بالالتزام به، فإنما هي مطالبة بالاستسلام للظلم وإقراره ومباركته.

 

الحق أساس القانون، والقانون الذي لا يراعي الحق ولا يتخذه قاعدة له، في حكم العدم، ولا قيمة له في دين ولا عقل ولا ضمير ولا ميزان المصلحة الحقيقية، حتى المستفيد من هذا القانون الظالم ما يراه استفادة له منه هادمٌ لمصلحته، يعطيه مالاً حراما، كرسياً ظالما، قوةً مختلسة إلا أن ذلك يهدم من ذاته ويأكل من إنسانيته.

 

القانون لا يخلق الحق وإنما يتبعه، وصدق قانونيته من صدق حقانيته.

 

الحرمة والقداسة والاحترام لا لبنود ومواد صيغة بطريقة قانونية - تصوغ لي مواد وبنود بصيغة قانونية، فتقدمه قانوناً!، هذا لا يكفي. السؤال هذه المواد وهذه البنود قاعدتها حقٌ أو باطل، عدلٌ أو ظلم؟ .. سمه قانون، ولكنه الفوضى، وهو الظلم، هو التعسف - وإنما كل ذلك لما تنطق به من الحق وتثبته من العدل إن كانت كذلك، وإلا فهي حبرٌ على ورق، بل باطلٌ لا يصح التسليم به والسكوت عليه ما أمكن الإنكار.

 

هل البحرين خارج السياق؟

 

تحركت الساحة العربية بصورة واسعة لتصحيح وضع العلاقة الظالم بينها وبين حكوماتها، أو التخلص منها نهائياً بإلغاء النظام أو الحكومة كما في بعض هذه التحركات، وقد أُسقط عدد من الأنظمة وطويت صفحته من الواقع تحت ضغط الشعوب.

 

وكل الحكومات والأنظمة التي واجهتها موجة الاحتجاجات والانتفاضات والثورات في الساحة العربية أبدت درجةً من اللين والمرونة والاستجابة لمطالب شعوبها ـ وذلك على مستوياتٍ سياسيةٍ متفاوتة ـ ولازالت الشعوب تطالب بالمزيد لإيمانها بأن الاستقرار الحقيقي لا تحققه الحلول الشكلية والمعالجات الهزيلة.

 

وحتى الجزائر التي لم تتصاعد فيها حركة الاحتجاجات ولم تتسع رقعتها، يعلن النظام فيها عن تبني نوعٍ من الإصلاح للدستور تحسباً لما ينتظره الوضع هناك من تفجرات، وإن كان بعض دعاوى الإصلاح تخديرية وليست ذات مضمونٍ جدي مما يمثل حلاً حقيقياً. وفي الكويت الخليجية تحضيرٌ عملي وخطواتٌ على الأرض لنوعٍ من الإصلاح السياسي المطلوب.

 

فهل البحرين التي عاشت المطالبة بالإصلاح السياسي لسنوات وسنوات، واشتد الحراك الشعبي فيها لهذا الهدف بدايةً من الرابع عشر من فبراير، وبذل الشعب في سبيل ذلك ما بذل من أثمانٍ باهظة، والحكومة على تصلبها، هل البحرين والحال هذا تعتبرها الحكومة خارج السياق العربي كله، وأنها المستثنى الوحيد الذي لن يكون فيه إصلاحٌ لوضعه السياسي، ولن يمس وضعه السياسي تغييرٌ أو تعديل؟

 

استمرار الاستثناء مستحيل، والمماطلة بالإصلاح فيها تصعيد، وتأخيره لا يضاعف الكلفة المدفوعة من الشعب وحده ولا يخفض من سقف المطالب، فحسب كل تجارب الحراك العربي وحسب الحراك المحلي، كلما مضى الوقت تعقدت الأمور، وكلما دفعت الشعوب تضحيات أكثر كلما أرتفع سقف مطالبها حتى استحال الالتقاء في عدد من النقاط من الساحات العربية على نقطة مشتركة، وحسب عدد من هذه التجارب.

 

البحرين كأنها خارج السياق في نظر الحكومة المحلية، في نظر المحيط الخليجي، في نظر الجامعة العربية، في نظر المجتمع الدولي.

 

فهل سيعطي الشعب موافقةً على أنه خارج السياق العربي والثورات العربية، بحيث يخرج الكل بنتيجة ويرجع الشعب البحريني بخفي حنين؟