سلطة واحدة لا سلطات ثلاث:

 

طلباً للتوازن، وتخفيفاً للقبضة الحديدية المشددة للسلطة الواحدة البعيدة عن قاعدة القيم الدينية ورادع التقوى من الله، وتقليلاً للتحكم المطلق لهذه السلطة في مصائر الناس ومصالحهم، وللحد من غلوها وتغوّلها أُخذ بفكرة السلطات الثلاث التي تستقل كل واحدة منها عن الأخرى. مع رقابة السلطة التشريعية على السلطة التنفيذية التي تتجمع بيدها القدرات الهائلة للبلد الذي تتولى إدارة شئونه العامة بما يمكنها من التلاعب بحياة الناس ومصالحهم متى أرادت فيما لو ترك لها الأمر وأمنت من المراقبة والمحاسبة مع فقد الضمير.

 

ويوجد في البحرين مصطلح السلطات الثلاث على مستوى التسمية فنسمع عن السلطة التنفيذية والقضائية والتشريعية، أما على مستوى الواقع فلا وجود إلا لسلطة واحدة، الوجود الفاعل هنا للسلطة التنفيذية لا غير.

 

ما يسمى بالمجلس النيابي بغالبيته العظمى تابع للسلطة التنفيذية، مشجع لها على سياستها، متخندق معها ضد الشعب وحريته وأمنه وحتى لقمته.

 

ويظهر التقرير الصادر عن لجنة تقصي الحقائق وما بعده حقيقة تبعية السلطة القضائية للسلطة التنفيذية في توجهها وما تقتضيه سياستها من تشدد أو تخفيف، وتبرئة أو إدانة.

 

ويختفي في البحرين تماماً اليوم طريق الانتخاب الحر ومرجعية الشعب وكونه مصدر السلطات، وكأن هذا الوطن ليس من عالم اليوم ولا صلة له به. ولا إصلاح لهذا الوضع الفاسد حسب ما استقر عليه عالم اليوم إلا بأن يكون الشعب هو مصدر السلطات ولا تعبير عن ذلك بصدق من غير دستور من وضع الشعب لا من وضع النظام.

 

وغريب وضع البحرين كل الغرابة، فكيف يستحق هذا الشعب أن يشارك قبل أربعين سنة بدرجة من المشاركة بوضع دستور بلده، ثم بعد القفزة العالية التي حققها في مستواه الفكري والثقافي والإرادي، وبعد تطلعاته النامية الكبيرة، وبعد القفزة العالمية في تحرر الشعوب وتقدم الوضع الديمقراطي، وبعد الربيع العربي والصحوة العامة لأبناء الأمتين الإسلامية والعربية، يفرض عليه أن يحكم بدستور من وضع إرادة منفردة لم تشارك فيه إرادته بحرف واحد؟!

 

منطلق الإصلاح اليوم إنما هو دستور تضعه الإرادة الشعبية الحرة، لا مجموعة من الإجراءات الشكلية البعيدة عن روح الإصلاح ووظيفته وأهدافه.

 

مستقبل البحرين:

 

ما هو المتوقع لمستقبل البحرين السياسي؟ تجربة أول مجلس تأسيس في البحرين أتاحت فرصة لمشاركة شعبية في رسم الخط السياسي لها، وأنتجت دستوراً فيه بعض بصمات للإرادة الشعبية، وجاءت من بعدها تجربة المجلس الوطني وكانت للإرادة الشعبية حضور فيه، مما اضطر الحكومة عندما اصطدمت إرادة نواب الشعب بإرادتها في تمرير قانون أمن الدولة المضر بالمواطنين والمصادر لإرادتهم أن تتخلى عن دعوى ديمقراطيتها علناً وتحل المجلس، من غير أن تستطيع أن تمرر كل ما تريد باسم النواب كما هو متاح لها اليوم في عملية تزوير مفضوحة لإرادة الشعب.

 

أي قانون تريده الحكومة اليوم من السهل جداً أن يمرر باسم إرادة الشعب المزورة من خلال المجلس النيابي القائم، وهذا كان ممتنعاً في المجلس الوطني الذي كان لأول مرة.

 

والبحرين اليوم تعيش واحدة من أسوء أوضاعها، وحالة من أشد الحالات في تاريخها ظلماً وقهراً وإرعابا وإقصاء للشعب وتنكيلاً به. فماذا عن المستقبل السياسي لهذا البلد ـ والوضع السياسي هو الذي يحدد اتجاه بقية الأوضاع ـ؟!

 

صور المستقبل السياسي أربع:

 

1) أن يكون متراجعاً عن ماضي تجربة المشاركة الشعبية الأولى.

 

2) أن يكون صورة من تلك التجربة وفي حدودها.

 

3) صورة من الحاضر بما هو عليه من ظلم وقهر.

 

4) صورة جديدة ناطقة بالإرادة الحرة للشعب.

 

لا مكان لتوقع الصور الثلاث الأولى في المستقبل، ولا توقّع إلا للصورة الرابعة طال الزمن أو قصر، وذلك لأن التاريخ من صناعة الإنسان، من غير أن يعني ذلك أن إرادة الإنسان قادرة على فرض نفسها على إرادة الله، حيث أنه لا إرادة لمريد إلا بإقدار من إرادة الله سبحانه، وإذا كان التاريخ من صناعة الإنسان فهو تابع في مستواه وتقدمه وتخلفه لمستوى الإنسان مستوى علمه، وعيه، إيمانه، رؤيته، طموحه، نشاطه، إرادته.

 

وإنسان اليوم في هذا الوطن في تقدم مطرد ـ إن شاء الله ـ علمه في ازدياد، إيمانه في تعمّق، صحوته في انفتاح، رؤيته في توسع، طموحه في تصاعد، نشاطه في حيوية، إرادته في اشتداد، عزمه في توثب، بذله في سخاء.

 

وهذا الطريق لا يمكن أن يرجع بالأوضاع إلى الخلف، ولا يمكن أن يقف بها عند حد من التطور الإيجابي، هذا الطريق هو طريق التصحيح والإصلاح والتغيير الإيجابي والتقدم والبناء والإبداع والإعمار، ولا يمكن أن تأتي نتائجه عكسية على الإطلاق، وحركة الشعوب كلها اليوم إلى الإمام ولا حركة للخلف.

 

كل الأنظمة الجائرة عليها أن تعدل، كل الحكومات المفسدة عليها أن تصلح، وإلا فلا مكان لها في المستقبل، هذا هو منطق الواقع الجديد لإنسان الأمة وشعوب الأمة وكل شعوب العالم، وهذه هي الحتمية المترتبة على الصحوة والثورة العارمة في وعي الأمة وإرادتها والمتولدة من وحي الحياة الجديدة في إيمانها بربها وإسلامها.

 

لا دين هكذا:

 

يعتدي مسلم على مسيحي في بلد مسلم أو مسيحي، أو يعتدي مسيحي على مسلم في بلد من البلدان، فيثأر هؤلاء أو أولئك في البلد نفسه أو غيره في صورة انتقام عام من أهل الدين الآخر، وإن كان أهل الدين الآخر أبرياء ولا يرضون بالجريمة.

 

يثأرون بروح جاهلية جهلاء بعيدة كل البعد عن موازين الدين ومقرراته ومنطق العدالة، انه ليس من دين الإسلام ولا المسيحية ولا اليهودية عدى ما افترى الإنسان على دين الله أن تزر وازرة وزر أخرى وأن تؤاخذ نفس بما كسبت نفس آخر.

 

وصورة أحق من هذه الصورة، أن تتوسع حكومة في العقوبات الجماعية لأن البعض قد عبر عن رأيه في الظلم وطالب بالحقوق، أو أن تزرع جماعة باسم الإسلام الموت المفاجئ لجماعات المسلمين والمؤمنين الأبرياء في الطرق والمستشفيات والجامعات والأسواق والمساجد والمشاهد لأغراض سياسية دنيوية دنيئة أو بلا غرض إلا ما كان استجابة لدافع الجهل والحقد الأسود الذي يرقد في الصدور. انه اختراق لقيم الدين ونسف لموازين الشرع واستخفاف بما حرم الله وما قضى عدله برعايته.

 

والإجرام الذي يرتكب باسم الدين من أكبر الظلم له، ومن أفتك سلاح بقدسيته، وأشد أساليب الحرب التي تواجهه، وأقضى ما يقضي عليه، لا يفعل ذلك إلا جاهل انقلب فهم الإسلام عنده رأسا على عقب، أو من لا يساوي الإسلام عنده قلامة ظفر، أو مريدٌ سوءً بالإسلام.

 

خطبة الجمعة: 19 صفر 1433هـ 13 يناير 2012م