في المدينة المنورة وقرب المسجد النبوي الشريف ومرقد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، هنالك بقعة شريفة طاهرة أيضاً، هي مقبرة “بقيع الغرقد”‌ المقدسة والتي بها مراقد الأئمة الأربعة المعصومين من أهل بيت النبوّة والرسالة (عليهم السلام)، وهم الإمام الحسن المجتبى ابن أمير المؤمنين (ع)، والإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع)، والإمام محمد بن علي الباقر (ع)، والإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) , وكذلك مراقد كل من: إبراهيم بن رسول الله (ص) وسيدتنا ومولاتنا فاطمة الزهراء بنت الرسول الأعظم (ص) سيدة نساء العالمين (برواية) , وبعض زوجات الرسول (ص) من أمهات المۆمنين وكذلك عمه العباس بن عبد المطلب (س) وعماته , وكذلك إسماعيل بن الإمام جعفر الصادق (ع), ووالدة الإمام علي أمير المۆمنين (ع) سيدتنا فاطمة بنت أسد (س) وكذلك زوجة الإمام علي (ع) سيدتنا أم البنين (س) , ومرضعة النبي (ع) السيدة حليمة السعدية , وجمع من الصحابة وعلى رأسهم الصحابي الجليل جابر بن عبدالله الانصاري (رض) إلى جانب الشهداء والتابعين …

 

البقيع الغرقد .. مقبرة مقدسة وأرض مشرفة وتربة وهي قطعة من الجنة لأنها تضم في طياتها أبدان ذرية رسول الله (ص) وأجساد جمع من أولياء الله (رض).

 

أصل البقيع في اللغة يعني الموضع الذي أرم فيه الشجر من ضروب شتى، وبه سمي “بقيع الغرقد”‌. والغرقد يعني كبار العوسج، فلذا سمي بـ”‌بقيع الغرقد”‌ لان هذا النوع من الشجر كان كثيرا فيه ولكنه قطع .

 

ويروى أن النبي الأكرم (ص) خرج لنواحي المدينة وأطرافها باحثا عن مكان يدفن فيه أصحابه حتى جاء البقيع، وقال (ص):”‌أمرت بهذا الموضع”‌ وكان شجر الغرقد كثيرا، فسميت به.

 

ولقد كانت لهذه القبور قباب أضرحة وبناء, وكان لها صحن وحرم، وغيرها من المعالم التي تدل على قدسية أصحابها، فكانت عظيمة في أعين الناس، شامخة في قلوب المسلمين، محفوظة حرمتها وكرامتها، وقد كان الناس يتوافدون على هذه البقعة المقدسة لزيارة المدفونين فيها، عملاً بالسنة الإسلامية من استحباب زيارة القبور وخاصة قبور ذرية رسول الله (ص) وأولياء الله تعالى .

 

وبتحريك من الاستعمار البريطاني الخبيث وبتأثير من بعض الأفكار المنحرفة والمبادئ الباطلة التي لا تمت للإسلام المحمدي الأصيل بصلة، عمدت زمرة الوهابية التكفيرية المتطرفة وفي الثامن من شوال عام 1344هجري قمري ـ الموافق لـ25 نيسان / إبريل عام 1925ميلادي، عمدت إلى هدم هذه القبور كليّاً وتسويتها بالأرض بزعم حرمة تعلية القبور وحرمة زيارتها عند هذه الفرقة الضالة والمنحرفة، حيث حولوا مقبرة “بقيع الغرقد”‌ إلى تراب ومدر وأحجار بعدما كان مفروشاً بالرخام ونهبوا كل ما كان فيه من فرش غالية وهدايا عالية، وسرقوا المجوهرات واللآلئ التي كانت داخل أضرحة أهل البيت عليهم السلام.

 

والوهابية فرقة ضالة مضللة منحرفة تكفيرية إجرامية دموية قام الاستعمار البريطاني في أواخر القرن الثاني عشر للهجرة الموافق القرن الثامن عشر الميلادي بابتداعها على يد محمد بن عبد الوهاب (1703 – 1792) ومحمد بن سعود حيث تحالفا لنشر الدعوة السلفية، ما نتج عنه قيام الدولة السعودية الأولى، بتأسيسها لتواصل طريق شرخ الصف الإسلامي المحمدي الأصيل الذي يعتبره الاستعمار عدوه اللدود الأوحد وذلك تبعا لسيرة أسيادهم الذين أوجدوا السقيفة في يوم رحيل الرسول الأعظم (ص) واغتصبوا القيادة والسيادة الإسلامية وبدأوا بتحريف الإسلام المحمدي الأصيل.

 

وليس خافياً على أحد ما تقوم به هذه الحركة التكفيرية الضالة والمنحرفة من استباحة دماء المسلمين وهتك حرماتهم ومقدساتهم في جميع ربوع العالم الإسلامي خاصة ما يشهده العراق وشعبه المظلوم كل يوم من انفجارات ارهابية تقطع أوصال المواطنين الشيعة الأبرياء وكذلك ما يعانيه أتباع أهل البيت (ع) على يد هذه الزمرة النفاقية في السعودية ذاتها وفي صعدة باليمن حيث تشن ضدهم الحرب الطاحنة.

 

ولم يتحفظ الوهابيون في تبيان آرائهم، بل شرعوا بتطبيقها على الجمهور الأعظم من المسلمين بقوة الحديد والنار والإرهاب والإرعاد .. فكانت المجازر التي لم تسلم منها بقعة في العالم الإسلامي طالتها أيديهم، من العراق والشام وحتى البحر العربي جنوبا والأحمر والخليج الفارسي غربا وشرقا.

 

ولقد انصب الحقد الوهابي في كل مكان سيطروا عليه، على هدم قبور الصحابة وخيرة التابعين وأهل بيت النبي (ص) الذين طهرهم الله عزوجل من الرجس تطهيرا.. وكانت المدينتان المقدستان (مكة المكرمة والمدينة المنورة) ولكثرة ما بهما من آثار دينية، من أكثر المدن تعرضا لهذه المحنة العصيبة والمأساة النازفة، التي أدمت قلوب المسلمين وقطعتهم عن تراثهم وماضيهم التليد.

 

 * الهدم الأول :

 

 كانت الجريمة التي لا تنسى، عند قيام الدولة السعودية الأولى حيث قام آل سعود بأول هدم جزئي للبقيع وذلك عام 1220 هـ .ق وعندما سقطت الدولة على يد العثمانيين أعاد المسلمون بناءها على أحسن هيئة من تبرعات المسلمين، فبنيت القبب والمساجد بشكل فني رائع حيث عادت هذه القبور المقدسة محط رحال المۆمنين بعد أن ولى خط الوهابيين لحين من الوقت.

 

وفي هذا الاطار يكتب أحد الرحالة البريطانيين حين وصف المدينة المنورة بعد تعميرها بأنها تشبه اسطنبول أو أية مدينة أخرى من المدن الجميلة في العالم، وكان هذا في عام 1877 – 1878م أي قبل تعرض المدينة المنورة المباركة لمحنتها الثانية على أيدي الوهابيين العتاة.

 

 * الهدم الثاني :

 

 بعد ما استولت الوهابية وآل سعود مرة أخرى على مكة المكرّمة، والمدينة المنوّرة وضواحيهما، وذلك بعد قيام دولتهم الثالثة عام 1344 هـ، بدأوا يفكرون بوسيلة ودليل لهدم المراقد المقدّسة في البقيع، ومحو آثار أهل البيت ( عليهم السلام ) والصحابة .

 

وخوفاً من غضب المسلمين في البلاد الإسلامية خاصة الحجاز(شبه الجزيرة العربية)، وتبريراً لعملهم الإجرامي المُضمر في بواطنهم الفاسدة، استفتوا علماء المدينة المنورة حول حرمة البناء على القبور .

 

فكتبوا استفتاءً ذهب به قاضي قضاة الوهابيين “سليمان بن بليهد”‌ مستفتيا علماء المدينة، فاجتمع مع العلماء أولا وتباحث معهم، وتحت التهديد والترهيب وقّع العلماء على جواب نُوّه عنه في الاستفتاء بحرمة البناء على القبور، تأييداً لرأي الجماعة المنحرفة والمتطرفة التي كتبت الاستفتاء .

 

واستناداً لهذا الجواب اعتبرت سلطات آل سعود ذلك مبررا مشروعا لهدم قبور الصحابة والتابعين ـ وهي في الحقيقة إهانة لهم ولآل الرسول (ص) ـ فتسارعت قوى الشرك والتكفير والضلالة والوهابية إلى هدم قبور آل الرسول (ص) في الثامن من شهر شوال من العام ذاته فهدّموا قبور الأئمة الأطهار(ع) والصحابة في البقيع، وسوّوها بالأرض، وشوّهوا محاسنها، وتركوها معرضاً لوطئ الأقدام، ودوس الكلاب والدواب .

 

وبعدما انتشر خبر تهديم القبور، استنكره المسلمون في جميع بقاع العالم، على أنّه عمل إجرامي يسيء إلى أولياء الله، ويحطّ من قدرهم، كما يحطّ من قدر آل الرسول (ص) وأصحابه .

 

ونشرت جريدة أُمّ القرى بعددها 69 في 17 / شوال 1344 هـ.ق نص الاستفتاء وجوابه ـ وكأن الجواب قد أُعدّ تأكيداً على تهديم القبور ـ وحددت تاريخ صدور الفتوى من علماء المدينة بتاريخ 25 / رمضان 1344 هـ، امتصاصا لنقمة المسلمين، إلا أن الرأي العام الإسلامي لم يهدأ حتى يومنا هذا، لا في داخل الحجاز ولا في العالم الإسلامي، وتوالت صدور التفنيدات للفتوى ومخالفتها للشريعة الإسلامية .

 

فأصبح “البقيع الغرقد”‌ ذلك المزار المهيب قاعا صفصفا لا تكاد تعرف بوجود قبر فضلا عن أن تعرف صاحبه.

 

 

 

 *العزم على هدم قبر الرسول (ص):

 

  وتشير الوثائق والقرائن إلى أن الوهابيين لم يكتفوا بتلك الجرائم بل حاولوا مرارا هدم قبر الرسول الأعظم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم وقبته وبدأوا في محاولات مشبوهة للمساس بالقبر النبوي الشريف لكنهم لم يتمكنوا من الاستمرار فيها، حيث أنهم أرادوا هدم قبة الرسول الأكرم (ص) لكن تظاهر المسلمين في الهند ومصر وبعض بلاد أفريقيا والذين هاجوا وماجوا وأقاموا المظاهرات المعادية للدولة قد أثار مخاوف البريطانيين من انفلات الأمر من أيديهم لهذا فقد اوعزوا إلى عميلهم العالم الوهابي أن يقول للناس إني رأيت البارحة رسول الله (ص) في المنام فأمرني أن اترك قبره، فقلت يا رسول الله لماذا ؟ قال: لأن المصلحة في بقاء قبري إلى حين وبذلك أجاب عن الوهابيين الملتفين حوله الذين كانوا يقولون إن كانت القبور بدعة فلماذا بقاء قبر رسول الله (ص) وإن لم تكن بدعة فلماذا هدم تلك القباب الأخر للأئمة وأولاد النبي وأصحابه وزوجاته ومن إليهم ؟

 

وهذه القصة معروفة ومشهورة في أمر توقفهم عن هدم قبر وقبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهم يحنّون إلى العمل على هدمهما إلى الآن, لكن خشيتهم من العواقب الوخيمة لهذا العمل تحول دون ذلك .

 

ولكن محاولاتهم الخبيثة والمشبوهة لا تنقطع فقد أفتوا بحرمة الإسراج (الإضاءة) عند القبور، ومنعوا الإسراج حتى عند قبر النبي الأكرم (ص) في عام 1346 هجرية، ثم تراجعوا عن ذلك بسبب كثرة البلبلة التي كان يحدثها الزوار والمناوشات التي كانت تحدث بينهم وبين الزائرين من مختلف بقاع العالم الإسلامي .

 

ألا إنهم غيروا رأيهم بسبب حدوث ردود فعل إسلامية قوية من مختلف البلدان الإسلامية.

 

 

 

 قل للذي أفتى بهدم القباب انك                سوف تصلى يوم القيامة نارا

 

أو تعلم أي القباب قد هدمتها                   هي للملائكة لا تزال مزارا

 

 

 

 * الجريمة النكراء وتناقضها مع القيم:

 

 عملية هدم المراقد المطهرة في “البقيع الغرقد”‌ تتناقض مع كل القيم؛ فهي تحمل طابع التناقض مع ذاتها أولاً، ومع القيم الدينية ثانياً، ومع الحالة الحضارية ثالثاً، ومع واقع الأمّة الإسلامية وتاريخها رابعاً.

 

التناقض الذاتي في جريمة هدم المراقد في البقيع: إذا كان هدم القبور واجباً شرعياً، فلماذا هدمت بعضها دون بعضها الآخر؟

 

 

 

التناقض مع القيم الدينية: إن هذه البيوت التي هدموها هي من البيوت التي أمر الله تعالى أن ترفع ويذكر فيها اسمه؛ قال السيوطي ـ وهو من كبار علماء أهل السنة ـ في كتابه (الدر المنثور): عندما نزل قوله تعالى: “في بيوت أذن الله أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدوّ والآصال رجال لا تلهيهم تجارة أو بيع عن ذكر الله و….”‌ قام رجل وقال: يا رسول الله ما هي هذه البيوت؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله: إنها بيوت الأنبياء. فقام أبو بكر وأشار إلى بيت عليّ وفاطمة سلام الله عليهما وقال: هل هذه منها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: نعم، من أفاضلها.

 

وإننا نسأل القوم: هل يكون رفع هذه البيوت ـ التي أمر الله عزوجل برفعها ـ بهدمها وتحويلها إلى يباب؟ وهل يعتبر هدم قبور هذه الصفوة تعبيراً عن المودّة التي أمر الله تعالى المسلمين لأصحابها حيث قال: “قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودّة في القربى”‌؟! أم هو التعظيم الذي أشارت إليه الآية الكريمة في قوله تعالى: “ومن يعظّم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب”‌.

 

إنه من الواضح جداً أنّ هذه العملية تتناقض مع القيم الدينية والثوابت القرآنية أيضاً.

 

 

 

  التناقض مع الحالة الحضارية:إذا لاحظنا الأمم المتقدمة وكذا الحضارات الحاكمة اليوم، لرأيناهم يهتمّون بتاريخهم اهتماماً كبيراً ويحاولون الاحتفاظ بأيّ أثر من عظمائهم.

 

وهذا ديدن الأمم المتحضّرة كلّها، في الغابر والحاضر، فهي تهتمّ بآثار عظمائها وتحاول تخليدها والاحتفاء بها. فمما ينقل في هذا المجال أن المسيحيين بنوا كنيسة وسمّوها كنيسة الحاضر فوق أرض يزعمون أن حافر دابّة عيسى لامستها.

 

لاشك أنّ التعامل مع أحفاد رسول الله صلى الله عليه وآله بهذا النحو وهدم مراقدهم والمنع من زيارتها، يعبّر عن حالة غير حضارية.

 

التناقض مع واقع الأمّة وتاريخها: لقد كانت المراقد موجودة في مكة المكرمة والمدينة المنوّرة حتى في أيّام حكم الرسول صلى الله عليه وآله ولم نسمع أنه أمر بهدمها أو نهى عن زيارتها، بل عدّت جزءاً من الشعائر المهمّة، ففي مكة قبر لهاجر زوجة النبي إبراهيم سلام الله عليهما وكذلك قبر ابنه إسماعيل سلام الله عليه، وفوقه بناء وهو المسمى اليوم بحجر إسماعيل، وهكذا قبور كثير من الأنبياء سلام الله عليهم.

 

يقول ابن تيمية ـ وهو من كبرائهم حيث اتخذوه إماماً لحركتهم الضالة ـ في كتابه “الصراط المستقيم”‌:(عندما تمّ فتح القدس كانت لقبور الأنبياء هناك أبنية، ولكن ـ يدّعي أنّ ـ أبوابها كانت مغلقة حتى القرن الرابع الهجري).

 

ونحن نسأل: إذا كانت هذه الأبنية ـ كما تزعمون ـ بدعة وضلالة فلماذا لم يهدمها المسلمون؟ ولماذا لم يأمر عمر أو صلاح الدين مثلاً بهدمها؟

 

وهل هذا إلا تناقض مع الواقع التاريخي لهذه الأمّة طيلة ألف عام؟

 

جميل ظاهري