18

الشهادة على الأمة (النهضة الحسينية في شخصية الإمام)

النهضة الحسينية في شخصية الإمام الخميني   يشدد الإمام الخميني في معظم المناسبات التي التقى فيها العلماء والمبلغين والمفكرين والأساتذة من داخل إيران وخارجها على أهمية عاشوراء والمجالس الحسينية ودورها في تحقيق الثورة ضد الشاه وفي ثبات الشباب الإيراني أثناء الحرب واندفاعه للتضحية والدفاع عن الإسلام. وقد يكون لافتاً وغريباً هذا التشديد من الإمام وكذلك الربط الذي يقوم به بين انتصار الثورة الإسلامية في القرن العشرين وما حصل قبل أكثر من ألف عام في مدينة تدعى كربلاء في العراق، علماً بأن ما يظهر من أوجه الشبه في مقاييس المقارنة بين الثورتين يكشف كثيراً من الاختلاف لا في التفاصيل فحسب وإنما في النتائج أيضاً. فقد أدت نهضة الإمام الحسين (ع) إلى استشهاده ومن معه من أصحابه وأهل بيته، وقد سبق ذلك انسحاب المؤيدين والمبايعين وتقلص عددهم من آلاف إلى بضع عشرات، مما أدى إلى الانكسار العسكري لتلك النهضة وانتصار الطرف المقابل؛ بينما لم يحصل مثل ذلك مع الإمام الخميني. فقد استمر التفاف الشعب حوله بمئات الآلاف قبل الثورة وبعدها، ولم يتخلفوا عن تلبية نداءاته على الرغم من القمع والتعذيب والدماء التي سالت. كما انتصرت ثورة الإمام الخميني ومن معه من العلماء وجماهير الشعب وهُزم الطرف المقابل، الشاه وجنده وأعوانه والقوى الخارجية التي كانت تدعمه. لِمَ إذن هذا التشديد من جانب الإمام الخميني على دور عاشوراء في انتصار الثورة في إيران؟ ربما يُفسر بعضٌ ذلك باستخلاص العبر من الهزيمة كي لا تتكرر؛ أو قد يكون الأمر دعوة للاعتبار بما تحققه التضحية في سبيل الهدف، أو هي دروس في القيادة والشجاعة.. لكن ذلك كله على الرغم من أهميته قد لا يكون خاصاً بنهضة الإمام الحسين في كربلاء. وقد نصادف بعض تلك الدروس أو العبر في ثورات أخرى حصلت في العالم. ومن المشكوك فيه، بل من غير المحتمل ـ نظراً لشخصية الإمام الخميني الفقهية والسياسية والعرفانية، ونظراً لطبيعة النهضة الحسينية في المنظور الشيعي ـ أن يكون تشديد الإمام الخميني على ربط انتصار الثورة في إيران بما حصل في عاشوراء للأسباب التي أشرنا إليها. فالشهادة لها عند الشيعة خصوصية مصدرها الإمامة التي يعتقدون بها ويعتبرونها جزءاً من النبوة وامتداداً لها وأصلاً من أصول الدين إلى جانب العدل والتوحيد والمعاد. وما يميز المجتمع الديني عند الشيعة وكذلك الفقه الذي أنتجه علماؤهم وفقهاؤهم على امتداد قرون هو في هذا الاعتقاد بأن الرعاية الإلهية للعالم، وبأن الرسالة النبوية استمرت بعد وفاة الرسول (ص) عن طريق الأئمة، حاضراً كان الإمام أو غائباً، خلافاً لمذاهب أُخَرَ تُقِرَّ بوجود إمام منقذ لكنه لم يولد بعد. ولهذا السبب يعتبرالشيعة أن الإمامة في الأصل نصّ إلهي، ثم نص من الإمام وصولاً إلى الإمام الغائب المنتظر صاحب العصر والزمان، وتأتي عصمة الإمام نتيجة منطقية وطبيعية للدور الذي يؤديه على مستوى الشهادة بين الرسول والناس في المجتمع البشري عامة. فهو نموذج الدين، وقدوة تحتذى، ولا يكتمل الدين إلا بمعرفته، ولن يقوم العدل في الدنيا إلا باكتمال الدين؛ أي عند ظهور الحجة المنتظر (عج)، الذي "يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً". وفي تفسير الميزان أن الشهادة في الآيات التي يذكرها القرآن حول هذا الموضوع، لا تكون إلا للأئمة والرسل. فليس لكل إنسان أن يكون شهيداً على الناس وفيهم من لا يؤتمن على ما هو أدنى من ذلك بكثير. ولهذا السبب يرى الشيعة استحالة العدل في غَيبة الإمام. ويذهب بعض فقهائهم إلى رفض أي نهوض أو احتجاج أو ثورة لكي يستفحل الظلم والجور الذي سيعجل في ظهور الإمام صاحب العصر والزمان، أي أن هؤلاء الفقهاء يرفضون القيام بدور الشهداء بين الرسول والناس على مستوى التغيير الاجتماعي والسياسي لأن ذلك منوط ـ بنظرهم ـ بوجود الإمام. وتتحول شهادتهم إلى المستوى العبادي الفقهي بعيداً عن دوائر التأثير الاجتماعية أو السياسية. ويذهب بعض الباحثين إلى تفسير سلوك الشيعة في مسيرة التاريخ الإسلامي من خلال عقيدتهم في الإمام ومشروعية الشهادة على الناس ارتباطاً به. ويتأرجح هذا السلوك بين التقية ومعارضة السلطان غير الشرعي، لأن الحكم ينبغي أن يكون للإمام والفقهاء الذين ائتمنهم الإمام على ذلك. وبسبب هذا "التأرجح" بين التقية والمعارضة اتّهم الشيعة بالانكفاء واللامبالاة حيناً، وبالرفض والثورة والخروج على الحاكم أو السلطان حيناً آخر. وقد اتجه الإمام الخميني إلى حسم هذا التأرجح مبكراً منذ يفاعته وقبل الثورة وبعدها، لا بل يعود إلى هذا الحسم سر استمراره في الثورة على الرغم من نداءات كثيرة صدرت من أنحاء العالم الإسلامي لوقف "حمامات الدم" في طهران. فقد وضع الإمام الخميني كتابه الشهير "الحكومة الإسلامية" أو "ولاية الفقيه"، وهو مجموعة دروس ألقاها على طلابه، يدعو فيها استناداً إلى الأحاديث والروايات عن النبي (ص) والأئمة (ع)، إلى ضرورة قيام علماء الدين والفقهاء، حتى في غَيبة الإمام، ليس بالثورة أو الاحتجاج فقط، وإنما بمهام الحكم وإدارة دولة الإسلام، لأنهم هم الأولياء والأوصياء وورثة الأنبياء. يقول الإمام في كتابه: "فَرضَ الأئمة (ع) على الفقهاء فرائض مهمة جداً وألزموهم أداء الأمانة وحفظها. فلا ينبغي التمسك بالتقية في كل صغيرة وكبيرة؛ فقد شُرعت التقية للحفاظ على النفس أو الغير من الضرر في مجال فروع الأحكام. أما إذا كان الإسلام كله في خطر، فليس في ذلك متسع للتقية والسكوت". ويتابع الإمام قائلاً: "إذا كانت التقية تُلزم أحداً منا بالدخول في ركب السلاطين، فهنا يجب الامتناع عن ذلك حتى لو أدى الامتناع إلى قتله، إلا أن يكون في دخوله الشكلي (التقية) نصر حقيقي للإسلام والمسلمين". هكذا نستطيع أن نفهم لماذا عبأ الإمام العلماء والفقهاء وخلفهم آلاف الناس، وكيف كان الشاهد معهم على نظام الشاه الفاسد الذي انتهى إلى السقوط بعد أن انتُزعت شرعيته ومصداقيته. وهكذا نفهم أيضاً كيف أصر الإمام الحسين (ع) على الذهاب إلى كربلاء ليكون الشاهد بدمه على الناس وشهيداً بينهم ومبلغاً رسالة النبي والإسلام ومنقذاً لها من الحكم الفاسد والمنحرف. ولا يُفهم من اصطحاب الإمام الحسين لأهل بيته إلى كربلاء وهو متيقن من الموت إلا لتكون الشهادة أعظم أثراً، وإبلاغ الرسالة أشد وقعاً. إنها حركة التواصل في الشهادة على الناس لتكون الأمة وسطاً. وما إحياء الشيعة لمراسم الحزن والعزاء لما حصل في كربلاء منذ مئات السنين إلا استمرار لهذا التواصل. وهذا، فيما نعتقد، باطن التشديد على الربط بين انتصار الثورة في إيران وعاشوراء الذي كان الإمام الخميني يكرره دائماً: "لو لا نهضة سيد الشهداء لما استطعنا تحقيق النصر في ثورتنا هذه"، "وسيد الشهداء هو سر بقاء الإسلام". إن الدافع المشترك في كلا النهضتين كان الشهادة؛ الشهادة بمعنى إبلاغ الرسالة إلى الناس وإلى الأمة في فضح الحاكم الفاسد ونزع الشرعية عنه. لكنها أدت في النموذج الأول إلى أقصى ما يمكن بلوغه وهو بذل النفس، وفي النموذج الثاني إلى الانتصار، دون أن يعني ذلك أن النموذج الأول قد هُزم، لأن الشهادة وإبلاغ الرسالة قد تمّا. فما حصل للإمام الحسين، وهو من هو في قرابته لرسول الله، أحدث ضجة مدوية في أنحاء العالم الإسلامي امتزج فيها الندم بالخوف والرهبة، بل بالتشفي والانتقام، لكنها ضجة أخرجت مشكلة النظام الفاسد والحاكم الفاسد من الإطار الضيق إلى أرجاء العالم الواسع، وكشفت مدى ما يمكن أن يبلغه مثل ذلك النظام في التعدي والقتل. ولو لم يقرر الإمام الحسين (ع) أن يكون شاهداً وشهيداً، وبمثل تلك الطريقة المأساوية له ولأصحابه، لما أمكن لأي كان فيما بعد أن يكتشف الحدود التي تفصل بين الإسلام الأصيل والإسلام الملكي أو إسلام السلاطين. ولربما أصبح توريث الحكم في الإسلام شرعة لها ما يسندها في التاريخ وليس لها من يعارضها أو يقف في وجهها. بهذا المعنى، ولكل ذلك، تحول الانكسار العسكري للإمام الحسين (ع) إلى اتقادٍ لجذوة الإسلام، وإلى تنبيه لضمير الأمة، وإلى تثبيتٍ لحدود لا تمحى بين الحكومة الشرعية والحكومة غير الشرعية في الإسلام، وإلى تأكيد أهمية التضحية من أجل كل ذلك. تلتقي نهضة الإمام الخميني وثورته مع هذا البعد العميق لإحياء الإسلام في ثورة الإمام الحسين (ع) قبل أكثر من ألف عام. فقد كانت سياسات الشاه، تخفي تحت مسميات الثورة البيضاء والإصلاحات الزراعية وبعض مظاهر الاحتفالات أو الشعائر الإسلامية، منهجاً من الفساد ومن التفكيك المنظم للمؤسسات وللعقيدة الإسلامية لدى أفراد الشعب الايراني وجماعاته، ناهيك عن إطلاق يد القوى الكبرى في نهب ثروات البلاد وفي التآمر على الدول العربية والإسلامية، وفي دعم "الكيان الإسرائيلي" المغتصب لأرض فلسطين والمعادي للعرب. وكادت سياسة الشاه هذه، التي استخدمت العنف والقمع والاغتيال والتهديد، أن تدع الإسلام نسياً منسياً، أو تحوله مجرد أذكار وصلوات تُتلى في المساجد والحسينيات. كما أن الوضع الدولي في ذلك الوقت والتنافس بين جباري العالم (الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية) لم يفسح المجال لمجرد التخيل لأي عقيدة أخرى خارج الشيوعية والرأسمالية. وربما يذكر الكثيرون كيف كانت كل حركات التحرر في العالم وكذلك كل الأحزاب والمنظمات تتفاخر بالانتماء إلى الماركسية أو القومية عقيدة ومنهجاً؛ في الوقت الذي كانت بعض القوى أو الحركات الإسلامية، إذا وُجدت، تخجل من إعلان هويتها أو شعائرها حيناً، أو تتعرض للاضطهاد والاستخفاف حيناً آخر. كانت الماركسية والأفكار الأخرى المتأثرة بها تقدمية في ذلك الوقت على الرغم من أنها كانت محصورة في نُخَب ضيقة، وكان الإسلام، دين الأغلبية العظمى، رجعياً وأفيوناً ومتهماً بتخدير الشعوب، يمنع نهضتها ويدفعها إلى الطاعة والاستسلام للحاكم وللظالم! هكذا كانت الصورة في العالم عشية الثورة في إيران؛ فما الذي حصل بعد نهضة الإمام الخميني وانتصار الثورة التي قادها؟ قد لا يتسع المقام لا يراد كل ما ترتب على تلك الثورة من آثار؛ على مستوى الفقه الإسلامي، والحكومة الإسلامية، وعلى مستوى التبدل في وظيفة إيران الاستراتيجية من دولة تخدم المصالح المباشرة للولايات المتحدة وإسرائيل، إلى دولة تقف على نقيض ذلك تماماً، ومن قلعة للتجسس على المنطقة العربية الإسلامية تهدد بجيشها الأقوى حركات التحرر والأنظمة فيها، إلى دولة تقدم الدعم والتأييد لتلك الحركات وتبحث عن سياسات للأمن والتعاون مع دول المنطقة والاستقلال عن مصالح الدول الكبرى وسياساتها. أما على مستوى القيادة والشجاعة والتصميم أو دور التنظيم وأهميته، فتلك أمور قد تشترك فيها أيضاً ثورات أخرى. لكن الأثر الأهم الذي أنتجته نهضة الإمام هو إعادة الروح إلى الإسلام بعدما أوشك أن يتحول إلى تقليد لا يعيش إلا بعيداً عن حركة المجتمع أو عن حركة التغيير فيه. لقد سلط الإمام الضوء على الإسلام، فقد حصلت الثورة باسمه ومن أجله؛ ولأن الثورة انتصرت، فقد دفعت بهذا الإسلام إلى اختراق الثنائية العالمية في ذلك الوقت، متخذاً مكانه بينهما، ديناً ومنهجاً، داعياً الشعوب إلى استلهامه في التغيير والاستقلال. وكما عملت كثير من الدوائر المعادية في بلاد كثيرة، على دراسة هذا التحول الإسلامي لفهمه ومحاصرته، فقد تعاطفت معه بالمقابل دوائر أخرى من الباحثين والمفكرين ومن الأحزاب والحركات والمنظمات؛ وعملت على استخلاص دروسه وفهم مناهجه. كما أن الانتقال الذي حصل لدى حركات وأحزاب إسلامية كثيرة من الجمود والتقليد إلى الانخراط في المواجهة السياسية المباشرة، والعنيفة أحياناً، كان أيضاً من نتائج تلك الثورة التي شجعت ـ على المستويات الفردية والجماعية ـ على إعادة اكتشاف ما كان منسياً أو محجوباً في الإسلام على مستوى التغيير أو على مستوى ذلك الربط بين الدين والسياسة. لقد أدرك الإمام الخميني الباطنَ السياسي العميق للظاهر الديني الذي دفع بالإمام الحسين (ع) إلى كربلاء، كما أدرك أن عظم التضحيات يدفع الأمور إلى الذروة، وأن الهدف المنشود لا يُقاس بحجم الدماء أو الشهداء، ما دامت النهضة وجوباً في سبيل الإسلام وشهادة في فضح السلطة السياسية والدينية التي أوشكت القضاء على الدين بسبب الفساد الشخصي والاجتماعي الذي مارسته. ولا يمكن أن نفهم هذا التشديد على عاشوراء واستلهام دروسها من جانب الإمام الخميني إلا من خلال إدراكه لهذا الترابط العميق بين ظاهرها الديني وباطنها السياسي؛ بين النهضة في سبيل الإسلام، والنهضة في سبيل فضح السلطة وكشف زيفها، وهو لهذا يقول: "سيد الشهداء هو سر بقاء الإسلام". ويقول أيضاً "ولولا نهضة سيد الشهداء (ع) لما استطعنا تحقيق النصر في ثورتنا هذه". وهذا هو، فيما نظن، المحتوى العميق لما يمكن تسميته بثقافة عاشوراء في وعي الإمام الخميني وفي حركته السياسية والعلمية، بل في مواصفاته الشخصية من حزم وعزم وصلابة وتقوى وفكر ثاقب وشجاعة نادرة؛ وهي صفات جعلت له ـ مبكراً منذ يفاعته ـ منزلة خاصة بين أقرانه وعند أساتذته. لقد اهتم الإمام في سن مبكرة بشؤون البلاد السياسية والاقتصادية والثقافية، وكان يتابع سياسات النظام الحاكم الداخلية والخارجية، ولا يترك أي مناسبة للتشهير بتلك السياسات أمام الشعب. لكن ذلك لم يجعله يغفل عن القضايا الأخرى الثقافية والتاريخية لإيران والعالم. ومن خلال قراءة السيرة السياسية للإمام الخميني، إضافة إلى ما جُمع عن حياته الشخصية وعن آرائه، يمكن أن نلاحظ عنده وجود منهج أو رؤية شاملة تربط بين دور علماء الدين وتعبئة الشعب وفضح النظام، وبين الحزم والجرأة والتقوى من جهة، والمحافظة على الثقافة الإسلامية والاستفادة من تجربة من سبق من العلماء، ومن القوى الاستعمارية في إيران وخارجها من جهة أخرى. ان الجرأة التي اتسمت بها شخصية الإمام، في كل المراحل التي واجه بها سياسة الشاه، وكذلك قراره الحازم بمغادرة العراق ثم منفاه الفرنسي والعودة إلى طهران مع أن كفة الثورة لم ترجح بعد، يعيد إلى الأذهان ـ في عملية المقارنة بالنهضة الحسينية ـ ذلك القرار الحاسم الذي اتخذه الإمام الحسين (ع) في ذهابه إلى كربلاء وهو يعلم يقيناً أن كفة الحرب في غير مصلحته، خصوصاً وإن الإمام الخميني كان يردد دائماً في كل مراحل جهاده أن غاية الثورة ليست سوى الإسلام، وأن بناء الدولة ينبغي أن يكون على قاعدة الإسلام. كما استمر في موقفه الداعي إلى استمرار الإضراب والتظاهر في شوارع إيران رغم المذابح اليومية التي أقلقت الكثير من القادة والعلماء. لقد شدد الإمام الخميني في المراحل المختلفة من الثورة وبناء الجمهورية الإسلامية ـ وكذلك أثناء الحرب مع العراق ـ على طبيعة النهضة التي يقودها وعلى هدف التضحيات التي يقوم بها أبناء الشعب، معتبراً أن ذلك لا يراد منه سوى وجه الله سبحانه وتعالى، وأن مَن يقوم بتكليفه الإلهي لا يهمه ما سوى ذلك من آثار: "عليكم أن تدركوا منذ البداية، مثلما نهض الإمام الحسين (ع) وثار في وجه كل تلك الأعداد المدججة بالسلاح حتى استشهد، أن علينا نحن أيضاً أن نثور وأن نوطن أنفسنا للشهادة، وإننا مستعدون لذلك". إن الإمام يكرر ما رفعه الإمام الحسين (ع) في مواجهة يزيد الذي كان يرأس آنذاك حكومة متسلطة لا تقيم وزناً للإسلام ولا للعدل ولا للقيم أو الضوابط الأخلاقية والشرعية. إن الإمام لم يفعل، وفقاً لمنطقه الفقهي، سوى الاستجابة لما أمر به الفقهاء من أجل الولاية والحكومة بعد أن أعلن التقية ماضياً لا رجوع إليه. وهو لم يفعل ذلك من أجل النصر الأكيد، بل من أجل الشهادة على الأمة أو الشهادة أمام الأمة، على غرار الشهادة التي قدمها الإمام الحسين قبل أكثر من ألف عام. إنه التواصل الذي يشدّ الشيعة إلى خط الإمامة. إن اهتمام الإمام الشديد بثقافة عاشوراء والتأكيد الدائم على إحياء مراسمها هو أيضاً ثمرة ذلك البعد العرفاني الخاص في شخصيته الذي جذب قلوب الملايين إليه في إيران والعالم، والذي لم يفهم من النهضة الحسينية والدماء التي بُذلت في سبيلها سوى "التقرب من المحبوب" والعودة إليه. إنها العقيدة التي ترى أن الرعاية الإلهية لم تنقطع لأن الإمام موجود دائماً، غائب لكنه مُنتظَر.