نبذة عن حياة الإمام محمد الباقر عليه في ذكرى ميلاده

الاسم: الإمام محمد الباقر (ع)

الأب: الإمام علي بن الحسين (ع)

الأم: فاطمة

تاريخ الولادة: أول رجب سنة 56 للهجرة

محل الولادة: المدينة

تاريخ الاستشهاد: 7 ذي الحجة سنة 114 للهجرة

محل الاستشهاد: المدينة

محل الدفن: المدينة (البقيع)

كانت للإمام الحسن عليه السلام بنتا اسمها فاطمة. وكانت تستحقّ حمل هذا الاسم الكريم عن جدارةٍ، فهي تقيّة طاهرة، فاضلة عابدة، زاهدة صالحة، نشأت في بيتٍ كريمٍ، وتلقّت علوم القرآن الكريم والمعارف الإسلامية في بيت الرسول (ص).

اختار الإمام الحسين عليه السلام فاطمة ابنة أخيه، زوجة لابنه عليّ (ع)، وعاشت فاطمة الثانية مع عليّ الثاني حياة طيّبةً طاهرةً، وأنجبا مولوداً طاهراً عفيفاً أسموه محمداً، ويعرف باسم محمد الباقر، أي الذي يبقر العلوم ويشقّها ويوضّحها ويحلّ ألغازها. ويروى أنّ الرسول (ص) هو الذي أسماه بالباقر، قبل ولادته، مستشفّاً طوايا الغيب. وكان الباقر (ع) شبيهاً إلى حدّ بعيدٍ بجدّه الرسول (ص) ولذلك كان يدعى بـ «شبيه رسول الله».

 

طفولة الإمام وشريط الأحداث

حين قدم الإمام الحسين عليه السلام إلى كربلاء، صحب معه أبناءه وأهله، ومن بينهم زين العابدين وفاطمة وطفلهما محمد عليهم السلام.

كان الباقر يبلغ الرابعة من العمر، وفي طفولته هذه رأي بأم عينيه ما جرى في كربلاء، رأى مقتل جدّه الحسين، ورأى الأصحاب والأهل يتساقطون على الثرى، رأى الدماء والويلات، رأى كيف سيق مع من تبقّى من أهله أسرى إلى الكوفة والشام، رأى رأس جدّه يرفع على سنان الرمح. رأى أعياد وأفراح الناس، رأى طريقة الطاغية يزيد في معاملة أهل بيت الرسول عليهم السلام. وكلّ ما قيل هنا وهناك وهنالك سمعه وفهمه ووعاه. وهكذا بدأت طفولته عليه السلام، وفي غمرة هذا الجحيم من الأحداث المتوالية، بدأ يتلقّى علومه على يد أبيه.

أمّا الحكم الأموي. فقد عانى عليه السلام منه الكثير. فقد عاصر حكم يزيد، وشهد حكم عبد الملك والوليد وهشام ابنيه، كما رأى مسلك الحجّاج ابن يوسف، هذا الذئب من ذئاب جهنم، رأى الحصار الذي فرض على أبيه الجليل، رأى كيف كان الناس يتحرّكون بكامل حرّيتهم؛ فيقولون ما يشاؤون ويكتبون ما يشاؤون، إلاّ أهل بيت الرسول عليهم السلام، فالحرّيّة محظورة عليهم، والناس لا يجرؤون على الاقتراب من بيت الإمام، أو سؤاله عن أيّ مسألة، دينيةٍ كانت أم غير ذلك، لا لشيءٍ؛ إلاّ لأنّ زين العابدين هو ابن الحسين وحفيد علي بن أبي طالب عليهم السلام.

ورغم هذا التضييق الشديد فقد كان هناك رجال صدقٍ، لا يأبهون لأوامر الحكّام، ويحضرون للقائه عليه السلام، وكان جابر بن عبد الله الأنصاري أحد هؤلاء، وجابر هو آخر من بقي من أصحاب الرسول (ص) في تلك الأيام، وقد أصبح شيخاً طاعناً في السن.

سلام رسول الله (صلّى الله عليه وآله)

كان جابر حين يجلس في مسجد الرسول (ص) يردّد: يا باقر العلم، يا باقر العلم. وكان أهل المدينة إذا سمعوه يردّد هذا القول، يتعجّبون ويقولون: إنّ جابراً يهجر (أي يهذي بأقوالٍ غير مفهومةٍ). فكان يجيبهم: والله ما أهجر، ولكنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: «إنك ستدرك رجلاً منّي، اسمه اسمي، وشمائله شمائلي، يبقر العلم بقراً».

كان جابر ذات يوم في بعض طرق المدينة، فمرّ به غلام، فلمّا رآه جابر قال: يا غلام أقبل، فأقبل، ثمّ قال له: أدبر، فأدبر، ثم قال جابر: شمائل رسول الله، والذي نفسي بيده. يا غلام ما اسمك؟ قال: اسمي محمد بن علي بن الحسين. فقام جابر يقبّل رأسه ويقول: بأبي أنت وأمي، أبوك رسول الله (ص) يقرئك السلام، فقال محمد: وعلى رسول الله السلام ورحمة الله وبركاته.

ثم رجع محمد إلى أبيه مذعوراً فأخبره الخبر، فقال له:يا بنيّ، قد فعلها جابر؟ قال:نعم، قال:الزم بيتك يا بنيّ.

ذلك أنّ الإمام زين العابدين (ع) خاف على ولده، لأنّ الحكومة الأمويّة كانت قد فرضت رقابةً شديدةً على الإمام وأهله، فخشي (ع) أن ينالوه بسوءٍ. وفيما بعد.. كان جابر يلتقي ابن زين العابدين، ويتبادل معه الحديث، وقد أدرك أنّ علوم ومعارف رسول الله (ص) قد أودعت عند هذا الغلام. فقال له يوماً: أي بنيّ، إنّك ستعلّم الناس أمور الدين، وستحلّ مشاكل العلوم عند الباحثين، وتردّ على أسئلة السائلين، يابن عليّ بن الحسين بن أبي طالب، إنّك «باقر العلوم» إنّك من الذين أوتوا العلم صغاراً، وقال فيهم الرحمن سبحانه: {وآتيناه الحكم صبيّاً}.

كان قد مضى على هجرة الرسول (ص) ما يقارب المئة عام، حين ودّع الإمام زين العابدين الحياة، بعد أن أوصى لابنه محمد بالإمامة، وكانت سنّ محمدٍ عليه السلام تقارب الأربعين عاماً.

 

عصر الإمام (عليه السلام)وشريط الأحداث

خلال ولاية الإمام الباقر عليه السلام، تعاقب على حكم العالم الإسلامي كلّ من الوليد وسليمان، ابني عبد الملك، ثمّ عمر بن عبد العزيز، ثم يزيد وهشام ابنا عبد الملك أيضاً. وكانوا إذا زار أحدهم المدينة، يحضرون للقاء الإمام الباقر (ع)، مراعاةً لقدره ومكانته بين المسلمين، كما كانوا يوجّهون له الدّعوات أحياناً للحضور إلى دمشق، وكانت غايتهم من ذلك إبعاده عن المدينة، فوجوده فيها كان يسبّب لهم القلق. ويخشون تأثيره على الناس. خاصةً وأنّ الحكم الأمويّ في تلك الفترة كان يميل إلى الضعف، وكانت تقوم جماعات في نواح وأطراف مختلفةٍ من البلاد تنازع الأمويّين وتخاصمهم. الأمر الذي خفّف الضغط عن الإمام (ع)، وأتاح للناس حرّيّة أكبر في زيارته والجلوس إليه والتزوّد من علومه ومعارفه. واستطاع أن يعقد المجالس كلّ صباح، ويقدّم فيها لتلاميذه شتّى أنواع العلوم والتربية الدينية. لهذا فإنّ الروايات التي وصلتنا عنه كثيرة جداً، وقد تقدّمت العلوم والمعارف في عصره حتى سمّي بالعصر الذهبيّ.

كما كان عصره، من ناحية أخرى، عصر يقظةٍ في صفوف المسلمين، وكان الناس قد أدركوا - بعد خمسين سنةً من واقعة كربلاء - أنّ الأموييّن يحكمون باسم الإسلام زوراً وبهتاناً، وأنّ مسلكهم كان بعيداً كلّ البعد عن الإسلام. وأنّ الرّجال العظام الذين قدّموا أرواحهم في سبيل توعية المسلمين وتقويم الانحراف، قد تركوا لهم دروساً بليغة واضحة المدلول، فقام المجاهدون في كلّ مكان، يرفعون لواء الثورة على الظلم والفساد، ومشعل ثورة كربلاء ينير لهم الطريق.

وفي هذا النطاق أعلن كثير من العلويّين الثورة، لكنّ ثوراتهم فشلت ولم تثمر، وحتى ثورة زيد بن عليّ، أخي الإمام الباقر (ع)، كان مصيرها الفشل، فقد تفرّق عنه الناس، وتركوه مع نفر من أصحابه الصادقين، يقارعون الطغاة ببسالة وإيمانٍ، حتى غلبتهم الكثرة، وقتل زيد وأصحابه. كان زيد رحمه الله ورعاً تقيّاً. وكان لمقتله وقع أليم على أخيه الإمام الباقر (ع) وأهله جميعاً.

وعلي أيّ حالٍ، فإلى جانب ما رآه الإمام الباقر (ع) من طغيان الأمويّين، شهد كذلك قيام طغاة بني العباس، وكما رفع أولئك لواء الإسلام كذباً، رفع هؤلاء لواء أهل البيت (ع) زوراً وبهتاناً، وصار أبو مسلمٍ وأبو سلمة وسفاح بني العباسا «مجاهدين ثائرين». حين تولّى عمر بن عبد العزيز الحكم، حاول إصلاح أمور أفسدها من سبقه من حكّام بني أميّة، فأبطل لعن أمير المؤمنين عليه السلام على المنابر. تلك الوصمة السوداء في تاريخ الحكم الأمويّ، كما أمر بإعادة «مزرعة فدك» إلى أهل البيت (ع)، بعد أن انتزعت منهم إلى بيت المال، رغم معرفة الجميع بالحقيقة، وهي أنّ رسول الله (ص) كان قد أعطى هذه المزرعة الصغيرة نحلةً لابنته الزهراء عليها السلام. وهذا التصرّف السليم من جانب عمر بن عبد العزيز يلقي الضوء على وجهٍ من وجوه الإجحاف الكثير الذي لحق بآل الرسول (ص) من بعده. كما أنّه من جانب آخر، أمر بإعادة تدوين الحديث الشريف، بعد أن حضر تدوينه لمدّة مئة عام كاملة، لكنّ عمر بن عبد العزيز كسر هذا الطوق عن أحاديث رسول الله (ص).

 

مع هشام بن عبد الملك

وخلال حكم هشام بن عبد الملك. ونتيجةً للتضييق على آل بيت الرسول (ص) وقف جعفر بن محمد، الابن الأكبر للإمام الباقر عليهما السلام، أمام الألوف المؤلفة من الرجال والنساء، في رحاب بيت الله، وكان فيهم مسلمة بن عبد الملك أخو هشامٍ وقف خطيباً معرّفاً بأبيه وبنفسه وقال:

«الحمد لله الذي بعث محمداً بالحقّ نبيّاً، وأكرمنا به، فنحن صفوة الله في خلقه، وخيرته من عباده، فالسعيد من تبعنا، والشقي من عادانا وخالفنا.. ».

تردّدت كلمات حفيد رسول الله بين الناس، فرفّت القلوب لمعانيها، ولهجت الألسن بمراميها، والتفّت الجموع حول قائلها وأبيه. صلوات الله عليكم يا أهل بيت رسول الله، فأنتم بالحقّ صفوة الله في خلقه، وأنتم خيرته من عباده.

رأى مسلمة بن عبد الملك ما جرى وسمع ما قيل، فراح والحقد يفري أحشاءه، ونقل إلى أخيه كلّ ما رأى وما سمع.

غضب هشام من أقوال جعفر بن محمد، وآلمه أنّ يافعاً حدث السّن يجرؤ على الوقوف أمام الناس، يدعو لنفسه ولأبيه وأهله، ويدّعي أنّهم خلفاء الله في أرضه عجباً لئن كان جعفر هذا وأبوه خليفتين لله، فماذا نكون نحن إذا؟ أمر هشام عامله على المدينة أن يبعث بالإمام الباقر وابنه جعفر إلى دمشق، وكانت دمشق في ذلك العهد مركزاً للحكم الإسلامي، وقد ازدهرت كثيراً، فارتفعت فيها الأبنية الكبيرة، وأقيمت المساجد العظيمة..

اضطرّ الإمام للتوجّه إلى دمشق مع ابنه، وحين وصلاها، تجاهلهما هشام ثلاثة أيام، دون أن يدعوهما إلى لقائه.. وكان يرمي إلى الاستهانة بالإمام، والحطّ من قدره أمام الناس.. وفي اليوم الرابع أرسل يدعوهما إلى مجلسه.

أخذ الإمام وابنه طريقهما نحو دار الحكم، وكانت تبدو في أبهى زينة، وقد حفّت بها الحدائق الجميلة، واصطفّ الحرس على الجانبين، بألبستهم الزاهية، ووجوههم العابسة.. بينما وقف قادة الجيش والوجهاء، وكبار بني أمية يرمون السهام على هدف قد نصب خصيصاً لذلك.

دخل الإمام مجلس هشام، وبادر الحاضرين بالسلام، دون أن يسلّم على هشام بالخلافة (أي دون أن يدعوه باسم أمير المؤمنين). فكان هذا التصرف ثقيل الوطأة على هشامٍ، بينما عقلت الدّهشة ألسنة الحضور..

يقول الإمام الصادق عليه السلام:

«..فلمّا دخلنا، كان أبي أمامي وأنا خلفه، فنادى هشام: يا محمد، ارم مع أشياخ قومك.. ».

فقال أبي: «قد كبرت عن الرّمي، فإن رأيت أن تعفيني.. ».

فصاح هشام: «وحقّ من أعزّنا بدينه ونبيّه محمدٍ (ص) لا أعفيك..».

وظنّ الطّاغية أنّ الإمام سوف يخفق في رمايته، فيتخذ ذلك وسيلةً للحطّ من شأنه أمام الغوغاء من أهل الشام؛ وأومأ إلى شيخ من بني أميّة أن يناول الإمام (ع) قوسه، فتناوله وتناول معه سهماً، فوضعه في كبد القوس، ورمى به الغرض فأصاب وسطه. ثم تناول سهماً فرمى به فشقّ السهم الأوّل إلى نصله، وتابع الإمام الرمي حتى شقّ تسعة أسهم بعضها في جوف بعض.. وجعل هشام يضطرب من الغيظ.. فلم يتمالك أن صاح: «يا أبا جعفر، أنت أرمى العرب والعجم وزعمت أنّك قد كبرت».

ثم أدركته الندامة على تقريظه للإمام، فأطرق برأسه إلى الأرض والإمام واقف، ولما طال وقوفه غضب (ع) وبان ذلك على وجهه الشريف، وكان إذا غضب نظر إلى السماء. ولما بصر هشام غضب الإمام قام إليه واعتنقه، وأجلسه عن يمينه، وأقبل عليه بوجهه قائلاً:

«يا محمد، لا تزال العرب والعجم تسودها قريش، ما دام فيها مثلك، لله درّك من علّمك هذا الرّمي؟ وفي كم تعلّمته؟ أيرمي جعفر مثل رميك؟.. ».

فقال أبو جعفر عليه السلام: «إنّا نحن نتوارث الكمال».

فاحمرّ وجه الطاغية من الغيظ، وقال:«ألسنا بني عبد منافٍ، نسبنا ونسبكم واحد؟».

وردّ عليه الإمام مزاعمه قائلاً: «نحن كذلك، ولكنّ الله اختصّنا من مكنون سرّه وخالص علمه، بما لم يخصّ به أحداً غيرنا ..». وطفق هشام قائلاً: «أليس الله قد بعث محمداً (ص) من شجرة عبد مناف إلى الناس كافّةً، أبيضها وأحمرها وأسودها، فمن أين ورثتم ما ليس لغيركم؟ ورسول الله مبعوث إلى الناس كافّةً، وذلك قول الله عزّ وجلّ: ولله ميراث السموات والأرض. فمن أين ورثتم هذا العلم؟ وليس بعد محمدٍ نبيّ، ولا أنتم أنبياء ..».

قال الإمام: «من قوله تعالى لنبيّه: لا تحرّك به لسانك لتعجل به. فالّذي لم يحرّك به لسانه لغيرنا، أمره الله تعالى أن يخصّنا به من دون غيرنا... ولذلك قال علي عليه السلام: «علّمني رسول الله صلّى الله عليه وآله ألف باب من العلم، يفتح من كلّ باب ألف باب». خصّه به النبي، وعلمه ما لم يخصّ به أحداً من قومه، حتّى صار إلينا فتوارثناه من دون أهلنا..».

والتاع هشام، ولم يدر ماذا يردّ عليه، ثم قال له: «سل حاجتك..».

قال الإمام: «خلّفت أهلي وعيالي مستوحشين لخروجي..».

قال هشام: «آنس الله وحشتهم برجوعك إليهم، فلا تقم وسر من يومك . .».

 

مع العالم النصراني

لمّا كان الإمام (ع) في الشام، التقى بنفر من النصارى كانوا متوجّهين لزيارة كبير علمائهم، وذلك بمناسبة أحد أعيادهم، فسار معهم.. وكان النصارى يعيشون في كنف الإسلام أحراراً، يمارسون طقوسهم وعباداتهم كيفما شاؤوا.

دخل الإمام الباقر (ع) على العالم النصرانيّ، وهو قسّيس كبير، ولمّا استقرّ به المجلس نظر إليه العالم وسأله وهو لا يعرفه:

منّا أنت، أم من الأمّة المرحومة؟

فأجابه (ع): من الأمّة المرحومة.

فسأله: من علمائها أم من جّهالها؟

فأجابه: لست من جهّالها.

سأل العالم: أنتم الذين تزعمون أنكم تذهبون إلى الجنة؛ فتأكلون وتشربون ولا تحدثون؟

قال الإمام : نعم. قال: هات برهاناً على هذا.

قال الإمام: نعم، الجنين يأكل في بطن أمّه من طعامها، ويشرب من شرابها، ولا يحدث.

فبهر العالم وقال: ألست زعمت أنّك لست من علمائها؟

فأجابه الإمام: إنّما قلت: لست من جهّالها.

واستمرّ الأخذ والرّد بينهما طويلاً، حتّى أفحم العالم، وأسقط في يده. فصاح بأصحابه مغضباً: والله لا أكلّمكم، ولا ترون لي وجهاً اثني عشر شهراً.

فقد توهّم أنّهم عمدوا إلى إدخال الإمام عليه، لإفحامه وإظهار عجزه.

وانتشرت قصّة الإمام مع العالم المسيحيّ في دمشق، وعرف الناس قدر الإمام الباقر عليه السلام، وإحاطته بشتّى العلوم والمعارف.

ووصلت القصة إلى مسامع هشام. وميلاً منه إلى مضايقة الإمام؛ أرسل مبعوثين إلى المدن الواقعة على الطريق إلى يثرب، فنشروا أكاذيب مؤدّاها أن ابن علي بن الحسين قد دخل ديراً للنصارى، وأنّه مال إلى شريعتهم.. وصاروا يحرّضون الناس على مقاطعته؛ فلا يحدّثوه ولا يبايعوه، ولا يستضيفوه في بيوتهم، وأمروهم فوق ذلك أن يغلقوا الأبواب في وجهه..

 

آيات العذاب

خرجت قافلة الإمام من دمشق في طريقها إلى المدينة، حتى وصلت إلى بلدة كبيرة، وكان الإمام ومرافقوه على قدرٍ كبير من التعب والعطش، فحطّوا رحالهم قرب البلدة للتزوّد بالماء والطعام قبل أن يتابعوا طريقهم، لكنّ أهل البلدة أغلقوا أبوابها في وجوههم.. والناس أخيراً على دين ملوكهم..

كان أفراد القافلة قد أتوا على كلّ ما معهم من ماءٍ وزادٍ، وقد أغلقت دونهم الأبواب. فحاروا في أمرهم..

اعتلى الإمام عليه السلام صخرةً هناك، وراح يتحدّث إلى أهل المدينة، وينصحهم بصبر ولينٍ، لكنّهم لم يستمعوا إليه، وأصرّوا بعنادٍ على موقفهم، ولمّا يئس منهم رفع صوته عالياً. وراح يتلو آيات العذاب، التي تلاها النبي شعيب على قومه، وقال: "بسم الله الرحمن الرحيم. وإلى مدين أخاهم شعيباً، قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيره، ولا تنقصوا المكيال والميزان، إنّي أراكم بخير، وإنّي أخاف عليكم عذاب يوم محيط. ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين. بقيّة الله خير لكم إن كنتم مؤمنين، وما أنا عليكم بحفيظ".

ثم قال: يا أهل المدينة الظالم أهلها، أنا بقيّة الله..».

فما أتمّ كلامه حتى بادر شيخ من شيوخ المدينة، ونادى أهل قريته قائلاً: يا قوم، هذه والله دعوة شعيب، فاخشوا ربكم وافتحوا الأبواب أمام هذا الرجل الربّانيّ، فإن لم تفعلوا نزل بكم العذاب. يا قوم، إنّي أخاف عليكم، وإنّي لكم ناصح فاستمعوا..

خاف الناس من تحذير هذا الرجل الحكيم، وقد أدركوا أنّهم يخطون نحو العذاب، لأنّهم يقفون في وجه ابن نبيّهم، لا لشيءٍ إلاّ لينالوا رضى هشام.. فبادروا إلى الأبواب وفتحوها، وراحوا يلتمسون من الإمام العفو والغفران.

 

حياة حافلة

كان عصر الإمام الباقر عليه السلام، من أدقّ العصور الإسلامية، وأكثرها حساسيةً، فقد نشأ فيه الكثير من الفرق الإسلاميّة، وتصارعت فيه الأحزاب السياسيّة، كما عمّت الناس ردّه قويّة إلى الجاهلية وأمراضها، فعادوا إلى الفخر بالآباء والأنساب، ممّا أثار العصبيّات القبليّة، وعادت الصراعات القبلية إلى الظهور، وهذا ما شجّع عليه حكام بني أميّة، كما انتشرت مظاهر التّرف واللهو والغناء، والثراء الفاحش غير المشروع.

تصدّى الإمام عليه السلام لكلّ هذه الانحرافات، فأقام مجالس الوعظ والإرشاد، كي يحفظ لدين جدّه نقاءه وصفاءه. كما تصدّى عليه السلام للفرق المنحرفة، فاهتمّ برعاية مدرسة «أهل البيت» التي أنشأها جدّه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، ثم من بعده الأئمة الأطهار من ولده. وقد التفّ حول الإمام الباقر علماء كثيرون، نهلوا من صافي علومه ومعارفه في الفقه والعقيدة والتفسير وعلوم الكلام.

وبعد عمر قضاه في الدعوة إلى الله، ونشر العلوم والمعارف، كما قضاه في مقارعة البغي والظلم والانحراف عن الدّين؛ دسّت له السمّ يد أثيمة، لا عهد لها بالله ولا باليوم الآخر، يد من أيدي أعدائه بني أميّة، الذين خافوا منه سموّ خلقه، وعظيم تقواه، ورفعة منزلته، والتفاف الناس من حوله.

وانطوت باستشهاد باقر علوم الأوّلين والآخرين، صفحة رائعة من صفحات الرسالة الإسلامية، أمدّت المجتمع الإسلاميّ بعناصر الوعي والتطوّر والازدهار.