القرآن وبناء القبور: لو تتبعنا القرآن الكريم ـ كمسلمين ـ لرأينا أنّ القرآن الكريم يعظّم المؤمنين ويكرّمهم بالبناء على قبورهم ـ حيث كان هذا الأمر شائعاً بين الأُمم التي سبقت ظهور الإسلام ـ فيحدّثنا القرآن الكريم عن أهل الكهف حينما اكتشف أمرهم ـ بعد ثلاثمائة وتسع سنين ـ بعد انتشار التوحيد وتغلّبه على الكفر .   ومع ذلك نرى انقسام الناس إلى قسمين: قسم يقول: ( ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا ) تخليداً لذكراهم ـ وهؤلاء هم الكافرون ـ بينما نرى المؤمنين ـ (القسم الثاني) التي انتصرت إرادتهم فيما بعد ـ يدعون إلى بناء المسجد على الكهف، كي يكون مركزاً لعبادة الله تعالى، بجوار قبور أُولئك الذين رفضوا عبادة غير الله. قال تعالى: (قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا) ( الكهف: 21.) أن سيرة المؤمنين الموحّدين في العالم كلّه كانت جارية على البناء على القبور ، وكان يُعتبر عندهم نوعاً من التقدير لصاحب القبر ، وتبركاً به لما له من منزلة عظيمة عند الله، ولذلك بني المسجد وأصبحت قبور أصحاب الكهف مركزاً للتعظيم والاحترام . فلو كان بناء المسجد على قبور الصالحين أو بجوارها علامة على الشرك ، فلماذا صدر هذا الاقتراح من المؤمنين ؟! ولماذا ذكر القرآن اقتراحهم دون نقد أو ردّ ؟! أليس ذلك دليلاً على الجواز ، (قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِداً) . (الكهف: 21) فهذا تقرير من القرآن الكريم على صحّة هذا الاقتراح ـ بناء المسجد ـ ومن الثابت أنّ تقرير القرآن حجّة شرعية . ولا زالت هذه الحالة موجودة حتّى في وقتنا الحاضر، لقبور العظماء والملوك والخالدين، فهل توجد أخلد وأطهر من ذرّية رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرّهم تطهيرا . قال تعالى :ـ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى .. (البقرة 125.) وقال عزوجل :ـ ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَاناً...قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِداً . (الكهف: 21.) وورد في زيارة الإمام الحسين(عليه السلام): (وفي قلب من يهواك قبرك) . وهناك أحاديث شريفة كثيرة وردت في فضل زيارة القبور والتبرك بأولياء الله تعالى منها:ـ ـ من أتى قبر أخيه ثم وضع يده على القبر وقرأ (إنا أنزلناه سبع مرات أمن يوم الفزع الأكبر) ـ، وإذا ضاقت بكم الصدور فعليكم بزيارة القبور. ـ جاور القبور تَعَتبرْ... ودأبت الأمم على تقديس عظمائها ومصلحيها، وكل من وضع نفسه في خدمة كيانها وهويتها بل من شكل هويتها وحضارتها .. يرافق هذا التقديس من إفرازات أينعت ثمارها في تشكل شخصيات، حاولت أن تكمل الطريق من منطلق التأثر والتأثير، بما يؤصله معرفياً، علماء الاجتماع والسياسية أو سلوك وطبائع البشر، فهناك وجود حالة توجه لا شعوري تتركز في كيان الفرد ومجتمعه نحو مثل أسمى والتشبه به، لذا تكون قضية التواصل مع هذا المثل ـ ضرورة في استمرار التشكل الحضاري وديمومة دورتها ـ قراءة لأفكاره، لسيرته، واستذكاره.. وزيارة كل ما يذكر به، الأمر الذي يوفر له الانشداد إلى الأسس والمنطلقات التي سار عليها ذلك المثل الأسمى بغية تدشينها وتكميلها. أين كان علماء المدينة المنوّرة عن منع البناء على القبور؟ ووجوب هدمه قبل هذا التاريخ ؟! ولماذا كانوا ساكتين عن البناء طيلة هذه القرون ؟! من صدر الإسلام، وما قبل الإسلام ، وإلى يومنا هذا! ألم تكن قبور الشهداء والصحابة مبنيّ عليها؟ ألم تكن هذه الأماكن مزارات تاريخية موثّقة لأصحابها ; مثل مكان: مولد النبي (صلى الله عليه وآله)، ومولد فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وقبر حوّاء أُم البشر والقبّة التي عليه، أين قبر حوّاء اليوم؟ ألم يكن وجوده تحفة نادرة؟ يدل على موضع موت أوّل امرأة في البشرية؟ أين مسجد حمزة في المدينة؟ ومزاره الذي كان؟ أين ...؟ وأين... ففي المدينة المنورة هنالك بقعة شريفة طاهرة هي البقيع. قرب المسجد النبوي الشريف ومرقد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) . وفيها مراقد الأئمة الأربعة المعصومين من أهل بيت النبوّة والرسالة (عليهم السلام) عليها قبب وأضرحة ومعالم تدل على قدسيتهم. وقد كانت على هذه القبور قباب وبناء، وكان لها صحن وحرم، فكانت عظيمة في أعين الناس، شامخة في قلوب المسلمين... محفوظة حُرمتها وكرامتها، وكان الناس يتوافدون على هذه البقعة المقدسة لزيارة المدفونين فيها ـ عملاً بالسنة الإسلامية من استحباب زيارة القبور وخاصة قبور ذرية رسول الله وأولياء الله تعالى.   كان البقيع قبل هدمه هكذا: الأئمة الأربعة(عليهم السلام) في قبة، وتزار فاطمة الزهراء(سلام الله عليها) في بقعتهم حيث من المحتمل أنها دفنت هناك، فلا بأس بزيارة الصديقة الطاهرة(سلام الله عليها) في البقيع، وفي المسجد، وفي بيتها وذلك لخفاء القبر الشريف، وسيظهر إن شاء الله تعالى عند ظهور ولدها الإمام المهدي(عجّل الله تعالى فرجه الشريف) وإن كان من المحتمل إخفاء قبرها (سلام الله عليها) إلى يوم القيامة ليبقى سنداً على مظلوميتها طول التاريخ. وكان في نفس تلك القبة مدفن العباس عمّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم). وكانت خارج القبة بفاصلة قليلة قبةٌ مبنية تعرف ببيت الأحزان، حيث كانت الزهراء (سلام الله عليها) تخرج إلى ذلك المكان وتبكي على أبيها. وكانت تشتمل مقبرة البقيع على قباب كثيرة، مثل أزواج النبي وأولاده وبناته ومرضعته(صلى الله عليه وآله وسلم) «حليمة السعدية» وكانت هناك قبة «فاطمة بنت أسد» (سلام الله عليها) والدة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقبة أم البنين (سلام الله عليها) زوجة الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) وقبتها قرب قبة عمات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكانت أيضاً قبة «جابر بن عبد الله الأنصاري» وغيرهم مما هو مذكور في التاريخ. وكما دفن في البقيع فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهم السلام) جوار الأئمة الأربعة سلام الله عليهم. قال السمهودي: وفي الكبير والأوسط بسند فيه روح بن صلاح وثّقة ابن حباب،‌ والحاكم. وعن أنس بن مالك قال: لما ماتت فاطمة بنت أسد (ع)، دخل عليها رسول الله (صلي الله عليه وآله) فجلس عند رأسها فقال: رحمك الله يا أمي بعد أمي. وذكر ثناءه عليها وتكفينها ببرده، إلى أن قال:‌« فلما بلغوا اللحد حفره رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيده وأخرج ترابه بيده، فلما فرغ دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاضطجع فيه ثم قال:‌ الله الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت، إغفر لأمي فاطمة‌ بنت أسد (ع) ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي؛ فإنك أرحم الراحمين. وقال السمهودي أيضاً: توفيت صفية بنت عبد المطلب فدفنت في آخر الزقاق الذي يخرج إلى البقيع. قال المجلسي في البحار: وفيها ـ أي في سنة حجة الوداع ـ توفي إبراهيم ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله). ولد في ذي الحجة من سنة ثمان وتوفي في ربيع الأول من هذه السنة، ودفن بالبقيع. قال السمهودي في وفاء الوفاء ص 893 ج2: وعن قدامة، قال: دفن رسول الله (صلي الله عليه وآله) إبراهيم ابنه إلى جنب «عثمان بن مظعون» وقبره حذاء زاوية دار عقيل بن أبي طالب (عليهما السلام) من ناحية دار «محمد بن زيد». ووصف البقيع «عون بن هاشم» حين هجم الوهابيون على الطائف بقوله: (رأيت الدم فيها يجري كالنهر بين النخيل، وبقيت سنتين عندما أرى الماء الجارية أظنها والله حمراء. ( نجد وملحقاته، أمين الريحاني، ص256. ). ووصف البقيع الرحالة السويسري (لويس بورخات) بقوله: (هي عبارة عن مربع كبير تبلغ سعته مئات من الخطوات، محاط بجدار يتصل من الجهة الجنوبية بضاحية البلدة، وبساتين النخيل الأخرى. وتبدوا المقبرة حقيرة جداً لا تليق بقدسية الشخصيات المدفونة فيها. وقد تكون أقذر وأتعس من أية مقبرة موجودة في المدن الشرقية الأخرى التي تضاهي المدينة المنورة في حجمها، فهي تخلوا من أي قبر مشيد تشييداً مناسباً، وتنشر القبور فيها وهي أكوام غير منتظمة من التراب يحد كل منها عدد من الأحجار الموضوعة فوقها (..) وقد خّرب الوهابيون قبورهم وعبثوا بها). ( حمزة الحسن، الشيعة في المملكة السعودية، ص211..)   جريمة آل سعود : الوهابيون وكما هو معروف قد ورثوا الحقد الدفين ضد الحضارة الإسلامية من أسلافهم الطغاة والخوارج الجهلاء فكانوا المثال الصادق للجهل والظلم والفساد فقاموا بتهديم قبور بقيع الغرقد مرتين:   الأولى عام 1220هـ كانت الجريمة التي لاتنسى، عند قيام الدولة السعودية الأولى حيث قام آل سعود بأول هدم للبقيع وذلك عام 1220 هـ وعندما سقطت الدولة على يد العثمانيين أعاد المسلمون بناءها على أحسن هيئة من تبرعات المسلمين، فبنيت القبب والمساجد بشكل فني رائع حيث عادت هذه القبور المقدسة محط رحال المؤمنين بعد أن ولى خط الوهابيين لحين من الوقت.   الثاني: عام 1344هـ استولى آل سعود على مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة وضواحيهما عام 1344هـ، وقاموا في اليوم الثامن من شوال بهدم قبور أئمة البقيع (عليهم السلام)وهم: • الإمام الحسن المجتبى ابن أمير المؤمنين. • والإمام علي بن الحسين زين العابدين. • والإمام محمد بن علي الباقر ابنه. • والإمام جعفر الصادق ابن الإمام الباقر (عليهم السلام). وبعد استفتاءً علماء المدينة بيد قاضي قضاة الوهابيين «سليمان بن بليهد» (لعنة الله عليه) والتهديد والترهيب وقع العلماء على جواب نُوّه عنه في الاستفتاء بحُرمة البناء على القبور، تأييداً لرأي الجماعة التي كتبت الاستفتاء. فنشرت جريدة أم القرى بعددها 69 في 17 / شوّال 1344 هـ نص الاستفتاء وجوابه ـ وكأن الجواب قد أعدّ تأكيداً على تهديم القبور. واعتبرت الحكومة السعودية ذلك مبرّراً مشروعاً لهدم قبور الصحابة والتابعين ليقدموا إهانة لهم ولآل الرسول (صلى الله عليه وآله) . فتسارعت قوى الشرك والوهابيّة إلى هدم قبور آل الرسول (صلى الله عليه وآله) في الثامن من شوّال من نفس السنة ـ أي عام 1344 هـ ـ فهدّموا قبور الأئمة الأطهار والصحابة في البقيع، وسوّوها بالأرض، وشوّهوا محاسنها، وتركوها معرضاً لوطئ الأقدام ، ودوس الكلاب والدواب.. وكان ممن قتل في هذه الهجمة التاريخية المشهورة التي تدل على همجيتها على البعد البعيد للوهابية عن الإسلام ووجههم المزري والمشوه للإسلام ـ الشيخ الزواوي مفتي الشافعية وجماعة من بني شيبة (سدنة الكعبة)... وكانوا قد بدأوا في تهديم المشاهد والقبور والآثار الإسلامية في مكة والمدينة وغيرهما.. ففي مكة دُمرت مقبرة المعلى، والبيت الذي ولد فيه الرسول (صلى الله عليه وآله) . (أمين الريحاني، نقلاً عن حمزة الحسن، الشيعة في المملكة السعودية، ج2، ص271 .) كما قاموا بفعلة شنيعة في سنة 1216هـ (1801م) بالاعتداء على مباني مدينة كربلاء، فهدّموا المساجد والأسواق، والكثير من البيوت التراثية المحيطة بالمرقدين وعبثوا بالمراقد المقدسة وهدموا سور المدينة.. (دراسات حول كربلاء ودورها الحضاري، وقائع ندوة علمية عقدت في لندن، دار الصفوة.ط1، ص607.) كما أنهم أرادوا هدم قبة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لكن تظاهر المسلمون في الهند ومصر ولعل غيرهما أيضاً، أوقفهم عن ذلك في قصة معروفة، وهم يحنّون إلى ذلك إلى الآن، حتى أن عالمهم (بن باز) لا يزور مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قائلاً: ما دام هذا الصنم (أي قبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم) هناك لا أزوره، لكن الزمان مرّ عليه ولا يأبه بكلامه أحد. (عبد العزيز بن باز(1330- 1420هـ) مفتي السعودية) .   لِمن القبور الدارسات بطيبة   **     عفّت لها أهل الشقا آثارا قُل للّذي أفتى بهدم قبورهم ** أن سوف تصلى في القيامة نارا أعَلِمتَ أيَّ مراقد هدمتها     **   هي للملائك لا تزال مزارا