ارتباط العرفان بالواقع

2007-08-21

الشيخ محمد توفيق المقداد

لقد كان من المتسالم عليه عند مجمل سالكي الخط العرفاني الابتعاد عن الحياة الاجتماعية العامة، نظراً لما تحتويه من انحرافات شتى باعتبارها من معوقات بناء الذات والوصول بها إلى مراتب الصفاء والمكاشفة.

ويقوم مسلك العرفان على توجّهين: سلبي: ويتمثل بمجاهدة النفس وترويضها عبر تعذيبها وحرمانها من أكثر النعم الدنيوية المباحة، والاقتصار على أقل القليل في هذا الجانب. وإيجابي: ويتمثل بالرياضات الروحية كالصلاة والصيام وقراءة القرآن والأذكار والأوراد والأدعية.

وهذه العملية بلا شك هي عملية شاقة ومضنية وتحتاج إلى صرف أوقات طويلة من العمر، وقد لا يستطيع البعض إكمال السير في هذا الطريق، وعند الوصول يتجنب سالك خط العرفان الحياة العامة والقضايا العامة للأمة على المستوى السياسي والاجتماعي، لأن هذه القضايا خارج اهتماماته، وهي عمل الذين لم يصلوا في تربية نفوسهم إلى ذلك المقام.

ولهذا كنا نرى التقديس والاحترام للعرفانيين من قبل الجميع، "حاكمين" باعتبار أنهم مرتاحون من تدخل هذه الفئة في الشؤون العامة، و"محكومين" باعتبار أن مقام العرفانيين يشكل مرجعاً مهماً للناس على مستوى البركة من خلال التردد عليهم واستلهام النصائح منهم في القضايا التي تهم الأفراد.

إن هذا النهج المتعارف للمسار العرفاني كان محل رفض عند الإمام (قده)، وهذا الرفض لم يكن من غير سالكي هذا الخط، وإنما هو رفض الخبير بهذا المسلك وبكل طرقه وأساليبه التي كان مطلعاً عليها بدقة عكسها في الكثير من خطبه وبياناته التي ينتقد فيها هذا التوجه السلبي لأهل العرفان، وترك الساحة العامة للمنافقين والانتهازيين والوصوليين.

من هنا نراه يقول بوضوح: "يعمدون بخبث وشيطنة إلى الدفاع عن قداسة الإسلام فيقولون إن الإسلام وسائر الأديان الإلهية يهتمون بالمعنويات وتهذيب النفوس والتحذير من المراتب الدنيوية والدعوة إلى ترك الدنيا والاشتغال بالعبادات والأذكار والأدعية التي تقرب الإنسان من الله، والحكومة والسياسة وفن الإدارة أمور مناقضة لتلك الغاية وذلك الهدف الكبير والمعنوي.. حيث إن هذه جميعاً لبناء الدنيا وذلك مناقض لسيرة جميع الأنبياء العظام".

ان الأساس الذي انطلق منه الإمام (قده) لسلوكه العرفاني هو ما قاله في وصيته لولده السيد أحمد وهو "ما هو أساس نجاة البشرية واطمئنان القلوب، هو التحرر والانقلاب من الدنيا وتعلقاتها، ويحصل ذلك بالذكر الدائم لله".

إلا أنه (قده) كان يرى أن هذه الحالة العرفانية هي التي ينبغي أن تكون في مقام خدمة الدين والأمة نظراً لمؤهلات أبنائها وسالكي طريقها، ولذا نراه يستشهد بالأنبياء والأئمة (ع) وأنهم جاهدوا وقاوموا الطغاة من مواقعهم العرفانية فيقول: "سيرة الأنبياء العظام (ع)، والأئمة الأطهار (ع) الذين هم صفوة العارفين بالله والمتحررين من كل قيد وغل والمتعلقين بالساحة الإلهية هي القيام ضد الحكومات الطاغوتية (فراعنة الزمان)، وقد عانوا الآلام من أجل اجراء العدالة في العالم وبذلوا الجهود التي تلقننا الدروس.. وإذا كانت لنا عين بصيرة وأذن سميعة فسنجد فيها ما يفتح أمامنا الطريق... من أصبح ولهم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم".

وكان الإمام (قده) يريد أن يضع قواعد للمسلك العرفاني تخالف ما كان عليه، ويقوم عنده على الأسس التالية:

أولاً: التحرر من كل العلائق الدنيوية للارتباط بالله ارتباطاً صادقاً مخلصاً.

ثانياً: العرفان هو سلوك خط الأنبياء والأئمة (ع)، أي المرتبط بأصول الشريعة، وليس كل تلك الطرق التي ابتكرها وابتدعها الكثيرون ممن سلكوا هذا الخط.

ثالثاً: إن العرفاني هو الذي يسخر تلك الحالة المعنوية لخدمة الدين والأمة عبر جهاده بالكلمة واليد ضد الانحراف والفساد، وليس العرفاني هو المنعزل عن الحياة العامة.

لهذا نرى الإمام (قده) يعطي الميزان والحد الفاصل بين الخط العرفاني الموافق للإسلام والمخالف له فيقول: "لا الاعتزال الصوفي دليل الارتباط بالحق، ولا الدخول في المجتمع وتشكيل الحكومة شاهد الانفصال عن الحق؛ فالميزان في الأعمال هو دوافعها. فكثيراً ما يكون العابد والزاهد مبتلى بشرك ابليس وهو يوسع ذلك الشرك بما يناسبه من الأنانية والغرور والعجب والتكبر وتحقير خلق الله والشرك الخفي وأمثال ذلك مما يبعده عن الحق ويؤدي به إلى الشرك. وكثيراً ما يكون المتصدي لشؤون الحكومة ذا دافع الهي فيحظى بمعدن قرب الحق كداود النبي وسليمان النبي (ع) وأعلى منهما وأسمى كالنبي الأكرم (ص) وخليفته الحق علي بن أبي طالب (ع) وكالإمام المهدي أرواحنا لمقدمه الفداء...".

وهكذا فتح الإمام (قده) باب العرفان على الواقع ومزجه به بطريقة إيجابية يسعى فيه العرفاني من موقعه الايماني إلى الاندماج بالحياة الاجتماعية العامة في محاولة لتصحيح المسار الإنساني واستقامة السلوك نحو الحق المطلق تبارك وتعالى.