الإمام الخميني والقضية العراقية

2007-08-21

بيان جبر

حين نريد تنقيح طبيعة علاقة الإمام الراحل الخميني العظيم (رض) بالشعب العراقي وقضاياه المركزية ومحطات تاريخ ارتباطه بالحركة الإسلامية في العراق وفي مقدمتها مرجعية الإمام الحكيم (رض) فسنجد:

أولاً: المعرفة الدقيقة بأحوال الشعب العراقي عبر معايشة دائمة ودائبة ومستمرة لمحطات صراعه مع الأنظمة الطارئة التي مرت في حياته، خصوصاً الفترة الممتدة ما بين 1963 ـ 1979 أي حين خروجه من العراق قبل انتصار الثورة الإسلامية.

ثانياً: الالتحام الحقيقي بالمحطات الحرجة التي مرت على المرجعية الدينية في صراعها مع النظام الحاكم في العراق بعد مجيئه عام 1968 إلى السلطة، والمواقف التي اتخذها في العراق ضد السلطة وهي تخوض تجربتها الأولى في الصراع مع الحوزة العلمية في النجف الأشرف والحركة الإسلامية.

ثالثاً: العلاقة المميزة التي أنشأها الإمام الخميني مع طلبة العلوم الدينية العراقيين، وأكثر من ذلك كان الكثيرون يحضرون دروس بحث الخارج في جامع الترك، خصوصاً محاضراته في الحكومة الإسلامية التي كان يلقيها في النجف، ليتبين الباحث بعد ذلك حجم حضور الطلبة العراقيين وهم من مختلف المحافظات العراقية ومن المناطق الجنوبية بشكل خاص في الدروس السياسية التي كان الإمام اختار الزمان والمكان العراقيين لأجل اطلاق مادته ومشروعه التغييري.

رابعاً: الدور المرجعي والقيادي الذي قام به الإمام الخميني ومن العراق بالذات في دعم القضايا العربية والإسلامية، سواء في هزيمة العرب في 1967 وحرب تشرين 1973، أو في محطات الصراع مع الصهيونية عبر دعم العمل الفدائي الفلسطيني والعلاقة بالقيادات الفلسطينية في العراق أو في بلدان العالم العربي.

وأخيراً، وليس آخراً، أقول بأن العراق لم يشهد مرجعية قائدة عاشت قضاياه وتعرفت على محنته وأزماته كمرجعية الإمام الخميني (رض)، وسبقتها في هذا الاطار من المعايشة الحقيقية والذود عن القضايا المركزية في العراق والعالم الإسلامي مرجعية الإمام الحكيم (رض) التي كانت على صلة كبيرة مع الإمام الخميني، سواء في إيران قبل نفي الإمام، أو في العراق بعد استقرار الإمام في النجف الأشرف، الأمر الذي يؤكد ثنائية العلاقة التاريخية بين الإمام الحكيم والإمام الخميني، وهي ثنائية ساهمت في تطوير الحوزة ومناهجها وتعبئة الشارع العراقي وزجه في معركة الصراع الإسلامي وتحدي الأنظمة الكافرة، التي كانت تتخوف صعود هذه الثنائية في الحياة العربية والعراقية والإسلامية، إذ بصعودهما ينطلق المارد الإسلامي ويتعزز رصيد الظاهرة الدينية السياسية، وتسمو الأمة بأهدافها إلى حيث الارتقاء بمفاهيم الإسلام وتحويلها بجرأة القيادة المرجعية من رفوف المكتبات إلى الحاكمية والدولة.

وهنا أسأل: كيف يمكن أن تتعامل سلطة غاشمة ارهابية معتدية جاءت إلى الحياة السياسية العراقية بانقلاب أسود على ظهور الدبابات مع شعب يكن الاحترام والتقدير لمرجعية قائدة شجاعة كمرجعية الإمام الخميني وقيادته؟

منذ مجيء هذه السلطة وإلى حين مغادرة الإمام الأراضي العراقية تعاملت الحكومة العراقية بمبدأ فك الارتباط بين الشعب العراقي ونخبه المتدينة والوطنية وقطاعاته الشعبية الواسعة وبين الإمام الخميني. وأكدت ذلك في أكثر من مناسبة، عبر أساليب التضييق والمحاصرة التي مورست ضد الإمام وحاشيته وطلبته ومريديه، وآخرها دس السم لنجله آية الله السيد مصطفى الخميني بالتعاون مع جهاز "السافاك" الإيراني نهاية السبعينات في النجف الأشرف. وأكدت ذلك أيضاً في الاعتقالات والمطاردة التي طالت الطلبة العراقيين في النجف الأشرف من الذين كان لهم باع طويل في العلاقة مع الإمام وحضور دروس البحث الخارج التي كان يلقيها الإمام عن الحكومة الإسلامية في جامع الترك.

ولازلت أتذكر ان الحركة الإسلامية في العراق وبعد اتساع رقعة انتشار مؤلفات الإمام الخميني وقيادته للتحرك الجماهيري المليوني في إيران (15 خرداد) 1963 الذي سقط فيه أكثر من أربعة آلاف شهيد برصاص "السافاك" والجيش، أصدرت هذه الحركة مجموعة بيانات دعت فيها الشعب العراقي وشخصياته الإسلامية إلى تقليد الإمام الخميني باعتباره مرجعاً إسلامياً دعا إلى ثورة إسلامية تتبنى مفاهيم الإسلام والفكر الإسلامي الأصيل وتحمل مشروع اقامة حكومة إسلامية، هذا اضافة إلى أن الأمة في العراق كانت تتوق إلى قيادة دينية ترفع لواء التجديد في الفكر الإسلامي وتغير لون الحياة السياسية بعد أن طرأ عليها التشويه والتحريف والتغريب بفعل الاستعمار وأنظمة ما بعد الاستعمار.

الشعب العراقي تعامل مع الإمام بوصفه القائد الذي فجر أكبر ثورة إسلامية شعبية حضارية في التاريخ الحديث، واقام بناء أول نموذج إسلامي قادر على قيادة الحياة بعد قرون من الضياع والغربة عن الهدف الأسمى، والتشتت الاستراتيجي في السياسة الغربية المعادية لتطلعات الشعوب المحبة للحرية والعيش بعيداً عن الهيمنة الاستكبارية. فالنظام العراقي اشتغل بعد انتصار الثورة بخطة استراتيجية، اضافة إلى أوامر وقرارات كبيرة تلقاها من القوى التي أوصلته إلى السلطة، والخطة تقضي:

أولاً: الهاء الثورة، لإتاحة الفرصة أمام القوى الخاسرة المرتبطة بالخارج لطعن النموذج السياسي الوليد وقتل الأهداف التي راح ضحيتها مئات الآلاف من الشهداء، والعودة على نظام التبعية والاستلاب، واعادة طهران بوابة للمشروع الغربي ـ الصهيوني في المنطقة العربية والإسلامية مثلما كانت في زمن الشاه محمد رضا بهلوي.

ثانياً: زج الشعبين الإيراني والعراقي في حرب دامية تهلك الحرث والنسل وتدمر البنية الاقتصادية والبشرية والاجتماعية والصناعية وتعيق التنمية، وتستقدم السفن والأساطيل الغربية للخليج للحضور الدائم في المنطقة، وفوق هذا وذاك الأهداف الرخيصة التي سعى نظام بغداد إلى أرسائها وفي مقدمتها اشعال حرب طائفية وقومية وتصوير الحرب الدائرة، لا باعتبارها تحمل أبعاداً غربية وأوامر بتدمير نموذج الثورة الإسلامية وقيادتها الخمينية، بل بوصفها حرباً موغلة في التاريخ ما بين العرب والفرس، فيما العرب العراقيون والايرانيون يرتبطون منذ مئات السنين بأواصر المحبة والعتبات المقدسة والدين والعقيدة والشريعة الإسلامية الواحدة، الأمر الذي أكد بما لا يدع مجالاً لمريب، أن النظام يرى مقتله في بقاء الثورة الخمينية. فما دام المنطق الخميني حاكماً في المنطقة ويسمو على منطق التآمر والحياكات الامبريالية فإن رحيله عن الحياة العراقية يقترب بشكل وآخر وكأنه يعرف مسبقاً أن حركة التأريخ وسنن البقاء هي مع الثورة وليست مع الذين يعيثون في الأرض فساداً وانحرافاً وحرباً وأزمات.

ورغم التطبيل الاعلامي الهائل بأساليبه التقنية والتعبوية المتقدمة في العراق ومحاولات الطرق على ثغرة النزاع العربي ـ الفارسي إلا أن الشعب العراقي جسد أروع أمثلة الوقوف مع الثورة في محنة الصراع مع الدكتاتورية في بغداد، حين سلم الآلاف أنفسهم إلى القوات الإسلامية أثناء الحرب، أو حين أبطلت الصواريخ المدمرة الموجهة إلى الأراضي الإيرانية الإسلامية.

ولم يكن الشعب العراقي وهو يتعامل مع القائد الخميني يتوق إلى استبدال قيادة بقيادة، أو استبدال مدينة علمية بأخرى، بقدر ما اختار المرجع الذي يصبر على البلوى ويجاهد في سبيل الله تعالى ومن أجل شعبه لكي يقيم على تراب سيادته الدولة التي يريد، الأمر الذي حدا بالشعب العراقي إلى التعامل مع هذه الشخصية الإسلامية الفذة بالشكل الذي حدا بالسلطة إلى ضرورة تفكيك ملامح قوته ومعالم توجهاته، لأنه لو بقي هذا التوجه والعلاقة بين الشعب العراقي الأصيل في ارتباطه بمرجعياته القائدة وفقهائه المجاهدين، فإن المستقبل لن يكون للسلطة بالتأكيد، لأن الشعب العراقي جذري في التأكيد على هويته الثورية وقدرته على تحدي السلطة ورفضها لمجرد أن تأتي سلطة مرجعية تشكل له نظريته في التحرك وأسلوبه في الثورة ولون البديل الذي يختار.

لهذا اعتقد أن السلطة وجدت في ترحيل الإمام بداية اندلاع الثورة المظفرة في إيران، خارج العراق، المحطة الأولى التي تستطيع من خلالها تفكيك جذور العلاقة بين الشعب والإمام الخميني، لكن أنى لهذه الأساليب أن تمنع أفكار الإمام وروحية المشروع الذي يحمله من ان تصل إلى الشعب العراقي؟! فالأفكار لها أجنحة ـ كما يقولون ـ ولن تستطيع كل الامكانات الارهابية أن تحجب نور الشمس عن أن يصل إلى الكوى والخفرات بين أكواخ الجنوب في العراق أو ما بين قم ومشهد وطهران.

وحين تصور النظام الحاكم في العراق أن العرى الوثيقة تفككت وان الإمام ابتعد عن دائرة التأثير بالشعب العراقي والتالي يمكن لهذا الأسلوب أن يؤتي ثماره في تغييب نموذج الإمام في الشارع العراقي، بهذا الوقت فاجأ الإمام الجميع في العراق والعالم عندما هزّ الشارع الإيراني في الثاني والعشرين من بهمن (11 شباط 1979) وفجر الثورة الإسلامية التي زادت من رعب السلطة في العراق وجعلتها تتأكد أن الخميني قادم إلى أرض المقدسات عبر فكره ومفهومه الإسلامي ومشروع الحرية الذي يقوده نحو العراقيين المقموعين منذ أكثر من ثلاثين عاماً تحت سلطة القهر والطاغوت.

وبعد مرور سنة على انتصار الثورة الإسلامية وإقامة الجمهورية الإسلامية في أكثر استفتاء على نظام الجمهورية الإسلامية شن النظام أشرس حرب عدوانية ـ ارهابية بالنيابة عن قوى الكفر في العالم ضد الجمهورية الإسلامية ليؤكد من جديد (رغبته) في تقديم الخدمات المجانية لهذه القوى التي تتحين الفرص للقضاء على الجمهورية ودورها.

الإمام الخميني (رض) كان يدرك حجم حضور الثورة في نفوس أبناء الشعب العراقي والحركات الإسلامية التي أعلنت تأييدها المطلق لولايته الشرعية والتأريخية منذ اليوم الأول لانتصار الثورة، وكان يعرف حجم التضحيات الكبيرة التي قدمتها قطاعات الشعب العراقي لأجل تطبيق انموذج الثورة الإسلامية في إيران، لهذا كان الإمام الراحل الأب الرؤوف للعراقيين جميعاً والقلب الذي اتسع لمعاناتهم وحرمانهم عبر اللقاءات المستمرة بهم وبقياداتهم الإسلامية ورموزهم القيادية، وكان يعبر في جميع خطبه وكلماته عن اعتزازه بهذه التضحيات والبطولات، ويشيد بنظافة جهودهم وقداستها في سياق العمل للإسلام والشريعة واقامة نظام العدالة في العراق، لكنه في الوقت نفسه كان يولي أهمية كبيرة للوحدة وتوحيد كلمة الفصائل العراقية الإسلامية، ويؤكد دائماً أن من بين أهم اشارات الانتصار الإسلامي الذي حصل في إيران وأخرجها من دائرة خدمة السياسات الامبرالية وادخلها في حيز العمل من أجل القضايا المركزية في المجتمع والتاريخ الإسلامي الراهن، هو الوحدة بين الفئات الإيرانية ووحدة كلمة الشعب الإيراني المسلم، وكان يردد هذه العبارة "لو اجتمع الأنبياء جميعهم من آدم إلى سيدنا محمد (ص) في أرض واحدة وعملوا لأجل تحقيق مطلب العدالة الاجتماعية الإلهية واقامة الحكم الإسلامي لما اختلفوا أبداً".

إن هذه المقولة التاريخية للإمام الخميني في جموع غفيرة من المعارضة الإسلامية العراقية وقطاعات من العراقيين المهاجرين إلى إيران أواسط الثمانينيات في حسينية جماران، ما كان الإمام (رض) يطلقها لو لم يكن يعتصر ألماً على العراق ودوره العربي والإسلامي ومعاناته في سياق القضايا المركزية للعالم الإسلامي، إذ بهذه المقولة يمكن أن يكتشف المرء مطلب الإمام للعراقيين بالوحدة والتكاتف ونبذ الخلافات وارساء منهج يتساوى فيه الجميع من أجل خدمة القضية الإسلامية والوطنية في العراق والقضية الإسلامية العامة، نظراً للدور الذي يلعبه العراق والأهمية التي يعيها الإمام الخميني وتقديره وقراءته الدقيقة لمكانة العراق في أولويات المشروع الإسلامي المعاصر.

أخيراً أقول: إن القضية العراقية بشقيها المعروفين، السلطة والمعارضة، ومعاناة العراقيين المستمرة مع النظام الحاكم في بغداد كانت في قلب أولويات الإمام (رض) وفي مركز اهتماماته الأساسية، وستبقى هذه القضية في قلب اهتمام الجمهورية الإسلامية مادام هناك مقدسات تنتهك وشعب يذبح في ليل الجريمة الدولية والمحلية.