التكليف الشرعي وتهذيب النفس عند الإمام الخميني

2007-08-21

مختار الأسدي

يدعو الإمام الخميني في عموم أطروحته الفكرية ورؤيته العرفانية إلى تهذيب النفس، ويؤكد ان التكليف الشرعي أو فهمه لا يتأتيان إلا بعد اجتياز ما اسماه مرحلة (الجهاد الأكبر).. لأن الارتفاع إلى مستوى التكليف لا يأتي عبر "إتقان المصطلحات" كما يقول الإمام الراحل، وانما "عبر البرامج الأخلاقية والدروس التي تهدف إلى تهذيب النفوس وتعليم المعارف الإلهية التي هي الهدف الأساسي من بعثة الأنبياء ـ عليهم السلام ـ". ونراه بعد هذه الإشارة أو التلميحة مباشرةً، وفي مقدمة أعماله وتوجيهاته التي بدأها مع طلابه في النجف الأشرف، يقول:

"ولكن ومع الأسف، ان الاهتمام بمثل هذه المسائل المهمة والضرورية، اصبح قليلاً، وبدأت العلوم الأخلاقية تتضاءل إلى حدّ أنه يخشى ان لا تتمكن مراكزنا العلمية في المستقبل من تربية علماء أخلاق ومربين مهذبين..."

هذا ما كتبه الإمام أو ما قاله في مقدمة كتاب "الجهاد الأكبر" الذي جاء على شكل محاضرات جمعها تلامذته ليكون دليلاً اميناً على منهج الإمام في بناء الشخصية الرسالية المسؤولة التي تريد أو يراد لها ان ترتفع إلى مستوى التكليف الشرعي والنهوض به موضوعاً وسلوكاً، شعاراً وممارسة، فلسفة وترجمة…

بعدها يروح الإمام مندداً بأولئك الذين يتوهمون ان العلم وحده واتقان بعض المصطلحات كافيان لأن يصنعا من الإنسان شخصية رسالية قيادية، فيقول:

"انتم، أيها الذين تدرسون اليوم في هذه الحوزات وتريدون ان تتولوا في الغد مراكز القيادة في الأمة، لا تتصوروا ان واجبكم أو كل واجبكم هو ان تحفظوا أو تتعلموا مجموعة مصطلحات وتتوهموا انها كافية… كلا يجب ان تبنوا انفسكم لكي تستطيعوا هداية الناس…". ويضيف: "ولهذا يوجد فرق كبير على صعيد النفع والضرر للإسلام والمسلمين بين العالم والجاهل.. فالعالم المنحرف يمكن ان يضل أمه بأسرها، والعالم المستقيم المتحلي بالاخلاف الفاضلة والمهذّب لنفسه، والملتزم بآداب الإسلام يستطيع ان يصلح ويهذب أمة بأسرها". ثم يعود (رض) ليؤكد ان من السهل ان يكون الإنسان عالماً أو فقيهاً ولكن من الصعب جداً ان يكون إنساناً، بل من الصعب ان يصبح عالماً، ومن المستحيل ان يصير إنساناً ـ حسب تعبيره ـ ويضيف: "انتم ايها الشباب تسيرون نحو الهرم والشيخوخة، ونحن الشيوخ نسير نحو الموت، فإذا لم تصلحوا انفسكم ـ لا سمح الله ـ في مراحل الدراسة ولم تكسبوا الكمال الخلقي والمعنوي، فانكم ـ والعياذ بالله ـ ستضلون الناس وتقدمون لهم صورة سيئة عن الإسلام وعلماء الدين… ان عليكم مسؤوليات جسيمة، فإذا لم تقوموا بمسؤولياتكم في الحوزات العلمية، وإذا لم تهذبوا انفسكم، وكان همكم فقط تعلّم بعض المسائل الفقهية والاصولية، فانكم في المستقبل ستكونون عناصر إضرار بالأمة، ويمكن ان تسببوا ضلالها والعياذ بالله.. ولو ان إنساناً واحداً انحرف بسبب سلوككم وأعمالكم فانكم ترتكبون أعظم الكبائر، وبعيد ان تقبل توبتكم... تماماً كما لو ان شخصاً واحداً اهتدى بكم، فان ذلك خير لكم ممّا طلعت عليه الشمس وغربت…".

وهنا استشهد الإمام الخميني بالحديث المروي عن رسول الله (ص) الذي يقول:

"صنفان من أمتي إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس. قيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال: العلماء والامراء".

حذار من التجارة بالدين!

ولعل اكثر ما حذر منه الإمام الخميني في طرحه لمفهوم التكليف الشرعي هو ان يتحول عالم الدين الذي هو أولى من غيره في فهم التكليف إلى تاجر، أي يتعامل مع النص الديني كما يتعامل التجار، فما جاء لمصلحته عمل به، وما جاء خلافها نبذه أو تركه أو أوّله أو مرّ عليه مروراً.  

يقول الإمام: "إن الاتجار بالدين، والعلم بلا عمل، هو بعينه العفن الذي يتأذى منه أهل جهنم. ان الأعمال السيئة التي يجترحها عالم السوء في الدنيا هي التي تتحول إلى روائح كريهة ومؤذية في الآخرة، بل يضاف إليها شيء آخر فتصبح رائحتها كريهة إلى الحد الذي يتأذى منه حتى المعذبون بالنار…"!

ويعتبر الإمام ان العلم والتربية توأمان يكمل احدهما الآخر عند العالم وأن الهدف من التكليف الشرعي هو اداؤه لوجه الله، وان طلب العلم لا ينبغي ان يكون من اجل تحصيل المركز الاجتماعي والوجاهة الدنيوية، وإذا كان هذا هو الهدف "فانكم لن تحصلوا إلا الوزر والويل والوبال" حسب تعبيراته رضوان الله عليه.

ويقول في إشارة لافتة ومعبرّة:

"ما اكثر الأشخاص الذين كانوا من علماء التوحيد ولكنهم كانوا سبباً في انحراف جموع غفيرة من الناس"! مضيفاً: "إياكم وان يكون هدف احدكم من الدراسة هو الحصول على المقام الفلاني والمركز الفلاني، وان يصبح رئيس المدينة الفلانية أو سيد القرية الفلانية بلا منازع…". ثم يتندر على هذا النوع من الناس ويعلق ساخراً: "ان البعض يقول: دعني ادرس ( اللمعة) وعندئذ اعرف كيف اتصرّف مع مختار القرية…"! (1)

التكليف الشرعي كفاح وجهاد

ولم يكتف الإمام بالوعظ والإرشاد كما يفهم البعض تكليفهم الشرعي، بل كان يوصي دائماً أن التكليف يجب ان يفهم على انه عمل وجهاد وكفاح على مستوى الفرد والأمة. ولهذا لم يترك (رض) فرصة إلا واستنهض الأمة على تحمل مسؤوليتها في أداء تكليفها وطرد حكامها الظلمة، فزاوج بين الجهاد الأكبر والأصغر، وجمع بين الموعظة الحسنة ولغة انتزاع الحق بقوة السلاح وإرادة الرجال، فنراه يقول مثلاً في وصيته التاريخية المعروفة:

"وصيتي لمسلمي العالم ومستضعفيه كافة هي ان لا تقعدوا بانتظار ان يهبكم الحرية والاستقلال حكام بلدانكم والمتصدون للأمور فيها، أو تهبكم ذلك القوى الأجنبية…". ويضيف: "لقد رأينا ورأيتم لاسيما في القرن الأخير الذي شهد توغل القوى الكبرى الناهبة للعالم ودخولها التدريجي للبلدان الإسلامية وعموم البلدان الصغيرة، رأينا ورأيتم، أو قرأنا في التاريخ الصحيح، ان أياً من الحكومات المتسلطة على تلك البلدان لم ولن تفكر بحرية واستقلال ورفاهية شعوبها، بل ان غالبيتها المطلقة بادرت بنفسها لممارسة الظلم والقمع لشعوبها، وكل ما فعلته كان من أجل رفاهية فئة المترفين والاعيان، فيما كانت الفئات المظلومة وسكنة الاكواخ محرومين من كل مواهب الحياة حتى الماء والخبز وما يقام به الأوَد. وهؤلاء المساكين مسخّرون لخدمة تلك الفئة المترفة المنغمسة في الملذات…".

وعلى أساس هذا الفهم لتحمل مسؤولية أداء التكليف، كان الإمام الخميني واثقاً ان المترفين والاعيان لم ولن يفكروا بسكنة الاكواخ والمحرومين، وان انتظار عطفهم أو رحمتهم لا يغير من واقع الحال شيئاً، وان على المحرومين ـ إذا أرادوا خيراً لواقعهم ومستقبلهم ـ التمرد على المستكبرين ورفضهم والوقوف ضدهم وانتزاع حقوقهم، لان الذي ينغمس في لذاته لا يمكن ان يفكر يوماً بواقع الجياع والمحرومين، وان الذي يعيش منتظراً التفاتات هؤلاء ولطفهم وصدقاتهم لا يمكن ان يحصل على حقوقه…

فمادامت النفوس لا تشبع، ومادامت الحاجات غير متناهية، ومادام التسابق على اشباع اللذات لا حدود له، يبقى الصراع قائماً وتبقى الحكومات المستكبرة والنفوس المستكبرة ترى في الآخرين سوقاً لها تؤمّن فيه مصالحها وترفّه أعيانها…

ولم يكن الإمام الخميني غافلاً عن دموية هذا الصراع، بل كان واضحاً لديه انه صراع لابد منه، وان الشطر الأخير من مقولات بعض الاصلاحيين المعروفة "ان تحكيم الدين يأتي اما بنقل الحكم إلى أيدي المؤمنين أو نقل الإيمان إلى قلوب الحكام" لا قيمة له، وان هذا الصراع لا يعالج بالمراهم والمهدئات والعقاقير الوعظية والنصائح وانما بالثورة والدم وانتزاع الحرية بالحق والقوة، فكان يقول:

"وانتفضوا يا مستضعفي العالم، أيتها البلدان الإسلامية، أيها المسلمون، انتفضوا وانتزعوا الحق بقوة السلاح، ولا ترهبوا ضجيج دعايات القوى الكبرى وعملائها، واطردوا من بلدانكم الحكام الجناة الذين يسلمون حصاد كدحكم لاعدائكم وأعداء الإسلام العزيز". ويضيف: "وامسكوا أنتم والمؤمنون العاملون لخدمة الشعب بزمام الأمور، والتفّوا جميعاً حول راية الإسلام المجيدة وانتفضوا مدافعين في مواجهة أعداء الإسلام ومحرومي العالم. وتقدموا باتجاه تأسيس حكومة إسلامية في جمهوريات حرة مستقلة، فإنكم بتحقيق ذلك ستكبحون جماح مستكبري العالم كافة وسيصل المستضعفون كافة لإمامة ووراثة الأرض…".

التكليف الشرعي في خط الإمام

من هذا المنطلق ومن هذه البدايات جاءت ملامح ما سمي اصطلاحاً (خط الإمام) و (منهج الإمام)، ومن هذا الفهم لأداء التكليف جاء هذان المصطلحان مقابل "الإسلام الأمريكي" أو "الخط الأموي" أو "الإسلام السلطاني" الذي كان يطلق على إسلام الملوك والسلاطين الذين كانوا يوظفون الدين ونصوص الدين لتمرير مخططاتهم وتبرير شرعيتهم، أو مشروعية حكمهم، وبتبريك من وعاظهم طبعاً "وعاظ السلاطين" بعد إطلاق بخور فقههم السلطاني "معمداً" بمسوح دينية مزيفة.

ولا يعني هذا بطبيعة الحال ان منهج الإمام أو فهم الإمام هذا جاء شرعاً جديداً، أو خطاً مذهبياً أو عقيدياً جديداً في الإسلام، مقطوعاً أو مبتوراً عن مبادئ الإسلام وقيم الدين العظيم، وانما جاء سلوكاً وتجربة وممارسة. وجاء دعوة صادقة لإحياء المغيب من تعاليم الإسلام، والدعوة إلى إعادة حكومة الشريعة التي غابت أو غُيّبت قروناً طويلة تحت دعوات فصل الدين عن السياسة تارةً، وطاعة الحاكم المسلم براً أو فاجراً، ظالماً أو فاسقاً تارة أخرى. وجاء (خط الإمام) هذا مندداً بدعاة انتظار الفرج بمعنى القعود والانتظار السلبي وليس الإيجابي، كما جاء مشدداً النكير على أولئك الذين يريدون تهميش دور العالم الديني وحصره في التكايا وحلقات الذكر وفتاوى الفقه الفردية المحدودة التي ابتعدت عن الواقع الاجتماعي كثيراً وانهمكت بالكامل بأحكام الطهارة والنجاسات وأحكام الشكوك والمياه، وعموم العقود والايقاعات.

وهذا يعني أن الإمام الخميني استطاع ان يُحدث هزّة عنيفة في ضمير الإنسان المسلم، ويحدث (زلزالاً) في وجدان الشعوب الإسلامية، بعد ان احدث يقظة في نفوس العلماء، وفجر صحوة في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر.

ولعل من أشهر الاشكاليات تعقيداً في فهم الإمام للتكليف وتعريفه له، والتي استطاع (رض) تفكيكها، وادخلها ثوابت أصيلة في نظرية التغيير الاجتماعي والسياسي هذه هي اشكالية النخبة، دور الجماهير ورقابة الأمة، وموقعية عالم الدين في العمل السياسي والثوري، ومسألة (ولاية الفقيه) ومركزية علماء الدين الربانيين في قيادة الثورة وتوجيهها أو الإشراف عليها، وما إلى ذلك…

ولا يخفى ان هذه الإثارات الجديدة لم تكن توأم الثورة ولا وليدتها أو مترشحة عنها، وانما كانت من بواكير نظرية الإمام الخميني ودعوته المعروفة في إقامة الحكومة الإسلامية، والتي ما انفك يدعو لها وينظر، ويندد بكل اولئك الذين يدعون إلى دور الطليعة مثلاً في قيادة الجماهير، أو مصادرة رأي الأمة تحت عناوين (الولاية) أو (الجعالة)، ويفصلون الدين عن السياسة أو السياسة عن الدين، ويدعون إلى التقية المكثفة التي قادت وتقود إلى تصغير العملية الاجتماعية أي إيصالها إلى الصفر، تحت شعار "معرفة الأثر والامن من الضرر" الغائم العائم.

يقول الإمام في هذا السياق:

"من الأخطار التي نشرها الاستعماريون في اوساطنا، قولهم: لا حكومة في التشريع الإسلامي، ولا مؤسسات حكومية في الإسلام، وعلى فرض وجود أحكام شرعية مهمة ـ والقول هنا لهؤلاء الاستعماريين ـ فانها تفتقر إلى من يضمن لها التنفيذ... وبالتالي فالإسلام مشرّع لا غير!!".

إلى ان يقول (رض): "إن هذه الاقاويل هي جزء لا يتجزأ من الخطط الاستعمارية يراد بها إبعاد المسلمين عن التفكير في السياسة والحكم والإدارة، وهذا يخالف معتقداتنا الأولية، إذ نحن نعتقد بالولاية والإيمان، وضرورة تشكيل الحكومة، وان إيجاد تلك المؤسسات جزء لا يتجزأ من الإيمان بالولاية، كما ان العمل الجاد من أجل تحقيق هذا الهدف هو مظهر من مظاهر هذا الإيمان"(2).

وهذا يعني ان خطل التجارب الإسلامية على امتداد التاريخ الإسلامي وتغييب هذا الهدف عن أذهان المسلمين تحت شعار (انتظار الفرج) من جانب أو "الإيمان بالأمر الواقع" من جانب آخر، وعدم ارتفاع المسلمين إلى مستوى إسلامهم، وتحكم الفقه السلطاني في مسيرة المسلمين، كلها قادت إلى هذا الفهم المبتور، وأبعدت الإسلاميين حتى عن مجرد التفكير بالسياسة والعمل السياسي… كما ان هبوط السياسيين، وعقدة السياسة، بمعناها الهابط الموروث هي التي أوهمت بعض الناس إلى القول بان الأخلاق لا تجتمع مع السياسة، وان السياسة تلوّث الأخلاق، وان رجل الدين أو عالم الدين يجب ان يبقى نقياً طاهراً بعيداً عن مستنقعها الآسن وأسماكها الميتة. حتى اضطر أحدهم يوماً إلى القول: "أعوذ بالله من السياسة، من لفظ السياسة ومن معنى السياسة، من كل أرض تذكر فيها السياسة، ومن كل شخص يتكلم أو يتعلم أو يجن أو يعقل في السياسة ومن كل (ساس ويسوس وسائس ومسوس). (3)

  مقياس الإمام في فهم السياسة

مقابل هذا الوهم، أو نصف الحقيقة المرّ، وقبال هذه العقدة وانزلاق السياسيين مع منزلقات السياسة وأساليبها الملتوية، وقبال هذا الألم والمرارة الناشئان من موروث السياسة الهابط فعلاً وتجارب السياسيين الخائبة، وكذلك لمواجهة دجل (مقاولي) السياسة المحترفين، واحترافهم للعمل السياسي الآسن، جاء الإمام الخميني ليقلب المعادلة، ويفككها ويضع ميزاناً جديداً وفهماً جديداً، ومقياساً جديداً، وبلا إفراط ولا تفريط، وبلا عقد أو انفعال أو انفصام، وبلا ردود فعل سلبية أو اسقاطات خائبة لهذه التجربة أو تلك، فقال:

"المستعمرون قبل أكثر من ثلاثة قرون أعدوا أنفسهم وبدأوا من نقطة الصفر، قالوا ما أرادوا، لنبدأ نحن الآن من نقطة الصفر… عرّفوا الناس بحقيقة الإسلام كي لا يظن جيل الشباب ان أهل العلم في زوايا النجف وقم، ويرون فصل الدين عن السياسة، وانهم لا يمارسون سوى دراسة الحيض والنفاس…" ثم راح الإمام متسائلاً: "في عصر النبي (ص) هل كان الدين معزولاً عن السياسة؟ وهل كان يومذاك أناس مختصون بالدين وآخرون مختصون بالسياسة؟ وفي زمن الخلفاء، وزمن أمير المؤمنين (ع) هل فُصلت السياسة عن الدين؟ وهل كان يوجد جهاز للدين وآخر للسياسة"؟!

نعم، السياسة بمعناها التجاري، النفعي، الحرفي، الوصولي، التي يسعى أصحابها لتحقيق مصالحهم الخاصة، هي التي حرمها الإسلام وهي التي تعفف عن الانجرار إليها علماء الدين الأ