محطات جهادية من حياة الإمام الخميني

2007-08-21

 

من هو الإمام الخميني؟

ولد السيد روح الله الموسوي الخميني بتاريخ 20 جمادي الثانية 1320هـ (حوالي 1902م) في مدينة خمين وسط إيران، وكان والده السيد مصطفى الموسوي يعد من علماء عصره والمرشد الروحي لأهالي هذه المدينة. وفيما كان عمر الإمام الخميني ستة أشهر تعرض والده لحادث اغتيال استشهد على أثره على يد أعوان رضا خان وبتخطيط ومساندة من الاقطاعيين حيث أصيب بعيارات نارية في الطريق بين خمين وأراك وكان عمره آنذاك (47) سنة. هذا الحادث المدبر جاء على خلفية مواقف حازمة وشديدة اتخذها والد الإمام الخميني ضد سياسات رضا خان الظالمة التي كانت تطلق أيدي الاقطاعيين في استغلال واضطهاد الفلاحين. أما والدته فقد ودعت الحياة هي الأخرى سنة 1336هـ.

بدأ دراسة العلوم الدينية وهو في سنة الخامسة عشر على يد أخيه آية الله بسنديدة بعد أن أكمل المرحلة التعليمية الابتدائية رغم ظروف التعليم الصعبة آنذاك. وفي عام 1339هـ هاجر إلى مدينة أراك لمواصلة دراسته العلمية في مدرسة آية الله الحائري، وبعد سنة من ذلك وعندما انتقلت الحوزة العلمية إلى مدينة قم انتقل الإمام الراحل مع آية الله الحائري وسكن في مدرسة (دار الشفاء) حتى عام 1345هـ حيث أنهى مرحلة السطوح العالية.

سار الإمام الراحل على خطى والده في مقارعة الظلم وتحفيز الناس على المطالبة بحقوقهم من السلطات الحاكمة. فبعد أن أصبح مدرساً لعلم الكلام بدأ بتدريس الأخلاق، فاجتمع حوله نخبة من الشباب اليقظ من ذوي المعنويات العالية، وكان يجتهد في تربيتهم وينمي فيهم روح التضحية والشجاعة والاستقامة، وهو ما أغاظ رضا خان الذي كان يعتبر نفسه الحاكم العسكري الاول والأخير والقيّم على مصير الشعب الإيراني، فأمر بمنع محاضرات ودروس الإمام في الأخلاق لعدة مرات، بيد أن الإمام الراحل الذي كان يدرك الظروف وحساسيتها استمر في طريقه بدقة وهدوء بعيداً عن الانظار حتى انتهى عهد رضا خان، فأعاد إلقاء دروسه الأخلاقية والتربوية على نطاق أوسع وهذه المرة في المدرسة الفيضية التي كانت تعتبر الحوزة العلمية الرئيسية في إيران. وفي هذه الفترة بالذات نشر الإمام الراحل كتابه (كشف الأسرار) باللغة الفارسية فضح فيه جانباً من جرائم رضا خان.  

الانطلاقة الجهادية

الحياة السياسية للإمام الخميني حافلة بالمواقف والعبر الفريدة، وهنا يجب التذكير ونحن نقوم باستعراض سريع لحياة الإمام الراحل وسيرته الذاتية بأن الإمام وبالرغم من أنه تصدى للقضايا السياسية في وقت مبكر من حياته إلا أنه كان يحترم كثيراً وجود المرجعية الدينية العليا المتمثلة آنذاك بآية الله البروجردي الذي كان موجوداً في مدينة قم، إلا أن تتابع الأحداث والتطورات وخطورتها على مستقبل الإسلام في إيران دفع الإمام الراحل للتصدي وقول كلمة الحق بوجه السلطان الجائر وبصوت عال يسمعه الملايين. إذ كان منذ سنوات الشباب ينظر بقلق على مصير الشعب الإيراني المسلم وكرامته في ظل نظام الشاه الذي كانت تسيره أميركا بشكل واضح مما كان يزيد من حرص الإمام على اشاعة الوعي والثقافة في أوساط المجتمع.

لقد كان عام 1962 بالنسبة للإمام الخميني عام النهضة والانطلاق في التصدي لسياسات نظام الشاه، ففيما كان الشاه يسعى لفرض ارادته على الساحة السياسية وهو شاب حديث السن، وذلك من خلال المشاريع والبرامج ذات الصبغة الاجتماعية التحديثية لتظليل الرأي العام انتفض الإمام الراحل في وجهه معلناً زيف ادعاءاته ونواياه السيئة إزاء الشعب الإيراني، وكان ذلك في قضيتين وقعتا في عام 1962: الأولى الاعلان عن مشروع الاصلاح الزراعي الذي فرضه الشاه على البرلمان بتوصية وضغوط مباشرة من واشنطن وبالتحديد من إدارة الرئيس الأميركي جون كنيدي، وكان هذا المشروع في ظاهره إيجابي ويصب في مصلحة الفلاحين ويحد من سلطة الاقطاع على الأراضي الزراعية، إلا أنه على المدى البعيد ينطوي على نتائج خطيرة على الوضعين الاجتماعي والاقتصادي في إيران، ومن أخطر تلك النتائج تغير النظام الاقتصادي والزراعي في إيران من الاقطاع إلى الرأسمالية المرتبطة بالخارج بحيث تنطلق الشركات الغربية بحرية في استثمارها واستغلالها ثروات الشعب بشكل مباشر.

ويروى أن الشاه قام بزيارة المرجع الديني الأعلى آية الله البروجردي في مدينة قم لكسب تأييده على هذا المشروع والحصول على الشرعية الدينية منه، وكان الإمام الخميني من بين علماء الدين الحاضرين في ذلك اللقاء، وقبل أن يهم الشاه بالانصراف أبدى الإمام الراحل ملاحظاته الشديدة على هذا المشروع الأمر الذي أربك الشاه وأجبره على الانصراف دون رد خوفاً من تفاعل القضية وسط علماء الدين.

والقضية الأخرى التي عرفت بلائحة مجالس المحافظات والأقاليم التي قدمتها الحكومة إلى البرلمان وتمت المصادقة عليها في تشرين الأول 1962 وتنص على اسقاط شرط الإسلام والقسم بالقرآن عن الفائزين في الانتخابات. هذه القضية التي كانت تمس مباشرة القيم والمبادئ الإسلامية جعلت الإمام الراحل يأخذ وضع الاستعداد الكامل لخوض المواجهة الشاملة مع نظام الشاه الذي بدأ من هذه القضية حملاته الاستفزازية والعدائية ضد القيم والتعاليم الإسلامية.

وعلى أثر بيانات وبرقيات التهديد والتحذير التي أرسلها علماء الدين بتوصية من الإمام الراحل شهدت عدة مدن في إيران تظاهرات احتجاجية على هذه اللائحة الأمر الذي اضطر الحكومة لأن تعلن الغاء اللائحة بعد شهر من ذلك. وعندما وصلت برقية الحكومة إلى علماء الدين كان الإمام الخميني الوحيد الذي لم يبد فرحته وسروره لمعرفته بمكر ودهاء الحكومة، فطلب من الجماهير الا تتوقف عن المواجهة إلا بعد أن تعلن الحكومة قرارها الغاء اللائحة في الصحف الرسمية، وعندما ظهرت الصحف في الأول من شهر كانون الأول وهي تحمل مانشيتات عريضة تعلن الغاء اللائحة، أصبح من المؤكد لدى أبناء الشعب الإيراني أن الإمام الخميني هو القائد القادر على تحقيق طموحاته واستعادة حقوقه.

وكلما كان الشاه يوغل في التنكيل والاضطهاد كانت عزيمة الإمام الخميني تزداد للثورة والتغيير كما كانت تتسع قاعدة الجماهير، ففي عصر يوم الثاني والعشرين من شهر آذار عام 1963 اقتحمت قوات الأمن المدرسة الفيضية ـ الحوزة العلمية ـ فيما كان يقام فيها مجلس عزاء بمناسبة ذكرى وفاة الإمام جعفر الصادق (ع) من قبل آية الله العظمى الكلبايكاني بعد أن أثار العملاء الفوضى داخل المجلس وبعد نزول الخطيب من المنبر، فقد مهد هؤلاء لعملية الاقتحام حيث كان يستعد حوالي الألف من عناصر السافاك ـ الشرطة السرية ـ خارج المدرسة للهجوم، وخلال لحظات تحولت المدرسة إلى حمام دم إذ اقتحم المهاجمون من الباب الرئيسي ومن السطح وفتحوا نيران أسلحتهم باتجاه صدور طلبة العلوم الدينية لا لذنب سوى لأنهم قاوموا الغوغائيين وطردوا مسببي الفوضى من المدرسة، فاستشهد على أثر هذه المجزرة المروعة عدد كبير من الطلبة والناس الأبرياء، وقد استشهد عدد من الطلبة نتيجة القائهم من فوق السطح إلى أرض المدرسة.

وأول موقف للإمام الخميني عند سماعه خبر المجزرة كان فتح باب بيته لاستقبال الناس والجرحى القادمين من المدرسة الفيضية بالرغم من احتمال مطاردة عناصر السافاك للجرحى واقتحام بيت الإمام، ويروى أن أحد المقربين من الإمام حاول غلق الباب فصاح الإمام به مطالباً بابقاء الباب مفتوحاً. وبعد أن قام الإمام بتعزية الطلبة وشد مواقفهم ألقى كلمة موجزة فيهم قال فيها: "لا تقلقوا، أبعدوا عنكم الخوف... إن الجهاز الحاكم فضح نفسه بارتكاب هذه الجريمة".

إن انتفاضة الخامس عشر من خرداد ـ 5 حزيران 1963 ـ التي تعتبر احدى المنعطفات الهامة في تاريخ الثورة الإسلامية في إيران، جاءت في الحقيقة كنتيجة عكسية لما قام به نظام الشاه وهو اعتقال الإمام ظناً منه أنه بذلك سيخمد نار الثورة في نفوس الناس. يذكر أن الإمام الراحل ليلة هجوم عناصر السافاك على بيته في ساعات مبكرة من يوم الخامس من حزيران، كان موجوداً في بيت ابنه الشهيد السيد مصطفى الخميني المقابل لبيته، وعندما سمع أصوات الصراخ والضجيج خرج إلى الزقاق فوراً ونادى بعناصر السافاك: "أنا روح الله الخميني، لماذا تضربون هؤلاء"؟ ولم تمض سوى بضعة أشهر على اطلاق سراحه وعودته إلى مدينة قم حتى اعتقل مرة ثانية في الرابع من تشرين الثاني عام 1964 على أثر البيانات والخطابات الملتهبة التي ألقاها احتجاجاً على قانون الحصانة القضائية المعروف بـ (كابيتاليسيون) والذي كان يعطي الحق للرعايا الأميركيين في إيران في كل الأحوال حتى وإن كانوا مذنبين. وفي صباح ذلك اليوم نقل عناصر السافاك الإمام إلى المطار وسلموه جواز سفره وقالوا له بأنكم تتجهون إلى تركيا. ومن هنا بدأت مسيرة الهجرة والابتعاد عن الوطن، وخلال وجوده في تركيا ألف الإمام الراحل كتابه في الفقه ـ الرسالة العملية ـ وحملت اسم (تحرير الوسيلة).

وفي شهر تشرين الثاني عام 1965 وصل إلى العراق وأقام في مدينة النجف الأشرف وخلال السنوات التي قضاها في العراق والتي تبلغ خمس عشرة سنة كان الإمام الراحل يقود المواجهة ويعبئ الشعب الإيراني للتصدي لسياسات الشاه الظالمة، ومن أبرز ما قام به خلال تلك الفترة هو صياغة برنامج سياسي بديل عن النظام الملكي في إيران وذلك عبر المحاضرات التي يلقيها على طلابه، وظهر بعد ذلك على شكل كتاب حمل اسم (الحكومة الإسلامية). ومن أبرز مواقفه الاحتجاجية على نظام الشاه والتي زادت اليقظة والوعي في أوساط المجتمع الإيراني، الموقف من الاحتفالات الصاخبة والباذخة التي أقامها الشاه بمناسبة مرور (2500) عام على تأسيس الامبراطورية الفارسية.

لم يكن الإمام الراحل يعبأ بالضغوطات والاستفزازات التي كانت تمارسها السلطات العراقية آنذاك والتي كانت تخشى غضب الشاه، فالإمام كان مصمماً على خوض المواجهة مهما كان الثمن. فحادث استشهاد السيد مصطفى الخميني في النجف الأشرف في تاريخ 23/10/1977 في ظروف غامضة ليس فقط لم يؤثر على معنوية الإمام حتى لحظة واحدة وإنما تحول إلى شعلة جديدة زادت في لهيب الثورة الإسلامية في إيران.

وعندما وجدت الحكومة العراقية آنذاك انها أمام جدار عال من الإرادة والتحدي أبلغوه بضرورة مغادرة العراق أو السكوت فكان الخيار الأول هو خيار الإمام فغادر العراق متوجهاً إلى الكويت براً، بيد أن السلطات الكويتية التي كانت هي الأخرى تخشى غضب الشاه، فضلت الحفاظ على مصالحها وصداقتها مع الشاه على استقبال الإمام. ومن الحدود العراقية ـ الكويتية اتجه الإمام مع مرافقيه إلى بغداد ليتجه منها إلى باريس المحطة الأخيرة في مشوار الهجرة. وحتى في مطار باريس اشترطت عليه السلطات الفرنسية السكوت وعدم اتخاذ مواقف سياسية ضد نظام الشاه مقابل السماح له بدخول فرنسا، فقال كلمته الشهيرة: "سأقول كلمتي حتى لو قدر أن انتقل من مطار إلى مطار". وهنا أصبحت الحكومة الفرنسية في موقف حرج واضطرت للسماح للإمام بدخول فرنسا والإقامة في (نوفل لوشاتو) إحدى الضواحي الباريسية.

ومن داره المتواضعة في هذه الضاحية قاد الإمام الخميني الثورة الإسلامية بالرغم من مضايقات الحكومة الفرنسية وسياسة الحديد والنار التي بدأت السلطات الشاهنشاهية باستخدامها لقمع الثورة. وقد اثمرت الجهود والتضحياتي الجسام في نهاية المطاف عن انجاز تاريخي وهو خروج الشاه من إيران، فقد كانت ثمة عروض تقدم للإمام الراحل عبر وسطاء إيرانيين وفرنسيين بانهاء المعارضة السياسية في مقابل اجراء تغييرات شاملة في إيران باشراف الشاه، لكن الإمام كان متمسكاً بموقفه المبدأي وهو اجتثاث جذور الفساد من إيران المتمثلة بالشاه وحاشيته وانهاء النظام الملكي إلى الأبد.

وفي نهاية المطاف عاد الإمام الخميني إلى أرض الوطن ظافراً بعد فترة قصيرة من هروب الشاه، وكانت عودته إلى إيران محفوفة بالمخاطر إذ أن نظام الشاه الذي كان يرأسه بالنيابة رئيس الوزراء شاهبور بختيار قد روح للرأي العام المحلي والدولي بأن ثمة امكانية باغتيال الإمام حال وصوله طهران، وقد حمل مرافقو الإمام في الطائرة التي أقلتهم من باريس إلى طهران هذا التهديد على محمل الجد فدب الخوف والقلق في أوساطهم.

ويروي احد المقربين من الإمام الراحل انه وفي هذه اللحظات الحساسية وفيما الذعر يخيم على مرافقي الإمام في ساعة متأخرة من الليل إذ لم يكن بمقدور أحد أن يفكر في النوم، نهض الإمام من مكانه بكل هدوء ورباطة جأش وتوجه نحو الطابق العلوي في الطائرة لأداء صلاة الليل التي لم تفته ليلة واحدة ـ كما يقول الراوي ـ منذ خمسين عاماً.

وبعد وصوله إلى طهران واستقباله من قبل الملايين من أبناء الشعب وإلقاء كلمته التاريخية في مقبرة (جنة الزهراء) بجوار مرقد الشهداء اعلن انه سيشكل الحكومة الإسلامية رغم انف رجال الدولة الشاهنشاهية.

فقد كان عدد من جنرالات الجيش يخططون للقيام بانقلاب عسكري في التاسع من شهر شباط عام 1979 أي قبل يومين من انضمام الجيش إلى الثورة الإسلامية وانتصارها. ويبدو أن المؤسسة العسكرية آنذاك كانت تراهن على قبضتها الحديدية في ارعاب الناس وكسر شوكتهم فأصدروا أمراً بحظر التجول، بيد أن الإمام الذي كان يقيم بشكل مؤقت في مدرسة (علوي) الدينية وفي قرار سريع وحازم أمر الناس بالخروج وكسر حاجز الخوف، فخرجت الجموع الهادرة وفشلت المؤامرة.

العرفان وصفاء النفس  

وفي الوقت الذي كان الإمام الخميني في قمة هرم السلطة في إيران كان على درجة عالية من العرفان الالهي؛ فالأحداث والتطورات الخطيرة والكبيرة التي شهدتها إيران بعد انتصار ثورتها الإسلامية لم تغير من سلوك الإمام الراحل ونهجه في الحياة؛ فعند كل حدث يطرأ مهما كان وقعه مؤلماً وشديداً كان يذكر الله تعالى ولا تظهر عليه أية علائم تأثر أو انفعال، فأول ما بلغه نبأ استشهاد رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء عام 1981 قال أمام الجموع الباكية: "إذا لم يكن رجائي وباهنر بيننا فإن الله موجود".

ويروي أحد قادة حرس الثورة الإسلامية أنه كان في زيارة للإمام الراحل في بيته برفقة عدد من القادة الميدانيين وكانوا قد وصلوا تواً من جبهات القتال ليستشيروه في قضية مهمة للغاية وكان القلق والاضطراب قد سيطر عليهم، فبادرهم الإمام بالقول بكل هدوء: "لا داعي للقلق، إن ما تقومون به هو ما كتبه الله لكم".

وفي كل الأحوال كان يحث الجميع على التوكل على الله والانابة إليه كما لو أنه يريد أن يجسد الآية القرآنية الكريمة ويرسخها في أذهان المجتمع وهي {له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور}.