الإمام الخميني.. هل نعيد اكتشافه؟

2007-08-21

ثمة رجال تاريخيون ارتبطت أسماؤهم ببعض الأحداث، لكن ليس بينهم من يصبح هو نفسه معياراً للتصنيف التاريخي. الإمام الخميني هو من الصنف الآخر الذي لا يمكن العثور عليه في كل قرن: إنه رجل تقاس حقبات التاريخ به، فهناك عصر ما قبل الإمام وهناك عصر ما بعد الإمام، وهما عصران مختلفان تماماً.

عصر ما قبل الإمام هو عصر الطغيان المادي، عصر الجبابرة، والقيم الاستهلاكية، يقابله بعد نهوض الإمام عصر اتصف ببصمات الإمام، عصر الروحانية والقيم الإنسانية الأصيلة، عصر المستضعفين والمسحوقين، عصر الصحوة الإسلامية.

فالإمام الخميني هو الفيصل في تحديد أزمتنا الثقافية، السياسية والاجتماعية الراهنة، إنه ليس رجلاً تأريخياً بالمعنى العادي، إنه رجل يغير بل يصنع التاريخ.

لهذا السبب نبدو نحن المستضعفين في كل الأرض، ونحن المسلمين بالأخص، ونحن المولعين بالإمام بشكل أكثر تحديداً، أكثر حاجة ليس لنتغنى على الأطلال وإنشاد أشعار المديح والرثاء، بل لأن نستلهم الإمام مجدداً، ونغرف من معينه الفياض الذي لم نستكمل سير فكره ومواقفه وسلوكه.

والعودة إلى الإمام ليست من نوع الترف الفكري أو تمجيد الذات. إنها نوع من اعادة اكتشاف الإمام الخميني.

ثمة ما يشدنا إلى هذه التجربة المعطاء ما يتعلق بتكامل الأبعاد في شخصية الإمام الجامعة للفقاهة والفلسفة والعرفان والوعي السياسي والاجتماعي، لكن أيضاً هناك من الجوانب ما هو بحاجة إلى كثير من السبر والتعمق.

من الجوانب البارزة تلك الشفافية التامة في شخصية الإمام بين المعرفة والإرادة والسلوك، فالدارس لا يستطيع أن يجد فارقاً ولو ضئيلاً بين التنظير والممارسة، إنه انسجام كامل بين المستويين النظري والتطبيقي. ولو أخذنا أكثر المسائل تجريداً برأي البعض وهي الإيمان بالله تعالى فإن الباحث لا يمكنه التمييز بين هذا التوحيد النظري والسلوك التوحيدي في حياة الإمام؛ فالسياسة مثلاً تغدو لها سلوك عرفاني تقوده رؤية صافية للأحداث والمستجدات، تصبح اللعبة السياسية سلوكاً تقوائياً ترتفع فيه الممارسة السياسية إلى حدود عبادة الله وخدمة البشر المستضعفين وإذلال الطغاة المستكبرين.

ليس في مثل هذه السياسة المخلصة ذات البعد الإلهي، حجب ناشئة عن الجهل أو الخمول والدعة، أو نزعة شهوانية سلطوية، بل إنها تستند إلى رؤية تخترق كل هذه الحجب النفسية والأدران الدنيوية لترى الحقيقة واضحة. إذ كيف نفسر أن سماحته قد حدد ركني سياسته الدولية والاستراتيجية وهما العداء لـ"اسرائيل" وأميركا، منذ الأربعينيات والخمسينيات.

عندما حدد وأصاب أن "إسرائيل" غدة سرطانية، وأن أميركا هي أم مصائبنا، لم يشوش بصيرته الثاقبة ذلك النزوع المشبوه إلى تكبير خطر "الالحاد الامبريالي" وعلى رأسه الولايات المتحدة إلى حد التنظير الإسلاموي بحتمية التحالف مع أهل الكتاب (الحلف الأطلسي) ضد الإلحاد السوفيتي الكافر.

رفض الإمام مبكراً هذه النزعة ذات التبرير الفقهي السطحي وكان واضحاً في أن خطر أميركا هو أكبر بكثير رغم الموقف من الاتحاد السوفيتي ومخاطره وأطماعه. وها هم اليوم بعض من سوّق لمقولة التحالف الإسلامي ـ الأميركي يكتشفون فجأة أنهم كانوا ألعوبة في يد الشيطان الأكبر، وأن ما قاله الإمام قبل عشرات السنين هو الحق والحقيقة.

كان ذلك ناشئاً من معادلة بسيطة جداً لكنها صعبة التحقق، لقد كان الإمام صادقاً مع الله ومع نفسه ومع الآخرين، آمن بربه فصدق إيمانه في حياته، وعمّ كل سلوكه، مرّن نفسه عقلياً وروّضها روحياً إلى أن أصبحت مطواعة لأوامر الله بحب واقبال وليس خوفاً.

تعامل مع الناس كل الناس ابتداءً من عائلته والمقربين منه إلى أقصى فرد يمكن أن يسمعه بالشفافية نفسها، فليس لابنه أي منصب رسمي لمجرد أنه ابنه، إنما هو مجاهد مثل غيره من المجاهدين.

لم يدع، الإمام للناس إلى التغيير لأن في الثورة نتائج ايجابية على مستقبلهم وحياتهم فقط، بل إن الثورة تحتاج إلى جهاد واستشهاد وتضحيات. كان الإمام واضحاً في دعوة الناس إليها لتنتصر الثورة وبعد ذلك يحرزون نتائجها.

كان صادقاً إلى حد لا يشعر أحد بالفارق بين ما يقوله وما يفعله أو يشعر به، حتى عندما أعلن أنه تجرع السم بقبوله القرار 598، لقد أحس الناس أن الإمام يكاد فعلاً يتجرع السم بهذا القبول، وانه يكاد يسري في احشائه الشريفة وما لبث أن انتقل إلى الرفيق الأعلى بعد مدة قصيرة.

هذا الصدق مع الله والنفس والبشر جعله أقرب إلى الناس من أي شيء آخر، ولهذا قدموا أنفسهم بين يديه شهداء وجرحى ومجاهدين، وهذا سر العلاقة بين الإمام والناس.

بهذا انتصر الإمام، وبهذا انتصرت الأمة وحققت ثورتها المباركة لأنها صدقت مع نفسها ونظرت إلى امكانياتها الهائلة التي تستطيع أن تصنع الشيء الكثير إذا صدقت مع ربها ومع نفسها. انه جانب بسيط في تلك الشخصية العظيمة لهذا الفرع المبارك من الدوحة النبوية، وأهل البيت العظام. والطريق مفتوحة للجميع لإعادة اكتشاف تلك المناحي العديدة التي تحتاج إلى استلهام.