وغربت الشمس ورحل الربيع

2007-08-22

عبد الرحمن العلوي

كان للربيع معنا موقفاً غير هذا .. كانت لنا معه قبل سنوات ذكريات حلوة .. حلوة ورائعة ونابضة بالجمال والحب والانتصار .. جاءنا قبل سنوات في أيام الشتاء .. فحوّل ذلك الشتاء القارص القاسي إلى ربيع مثله .. وتلك الأيام الباردة إلى أيام دافئة كدفئه، وأزاح الغيوم عن الشمس التي اختفت لمدة طويلة .. فظهرت في أحلى حلة وفي أجمل صورة وأبهى منظر .. نعم طل علينا الربيع أنذلك في الشتاء، فزرع الأرض فرحا وحبورا، وعانق القلوب التي أنهكها الشتاء، وأشاع الأمل في النفوس التي كاد يملؤها اليأس، وقرع أجراس الانتصار في كل بيت، وأسرج السرج في كل زقاق، وغرس في كل شارع شجرة الحرية

لم اصدق الخبر. كلا ... لا يمكن أن يكون صحيحا ... انه خبر زائف .. لا حقيقة له .. خبر ملفق .. كاذب .. لا اسمح له أن ينتقل من أذني إلى رأسي .. وكيف اسمح لمثل هذا الخبر الصاعق أن يأخذ له مكانا في ذهني؟ وما أكثر الأخبار الكاذبة في أيامنا هذه! وما أكثر الإشاعات التي تروج!

لكن الخبر يبث من إذاعة ...

كلا .. كلا .. لا تكمل العبارة، أنا لا أدري من أين يبث، ولا أريد أن اعرف من هي الإذاعة التي تبثه، المهم بالنسبة لي أن الخبر غير صحيح وإنه مجرد كذبه .. لكنها كذبة غير عادية .. من النوع الكبير .. كذبة يراد منها ... أوه .. لا أدري ماذا يراد منها، ‌هذا لا يعنيني .. الذي يعنيني بالدرجة الأولى والأخيرة أن لا اصدق ما يقال وما يبث .. وكيف أصدق به وهو ... كفى لا تكمل هذه العبارة ...

لماذا تحاول أن تنهزم من الحقيقة؟

ماذا؟ حقيقه؟ أيه حقيقة؟ لماذا هذا الكذب المركب؟ أنا على ثقة من أمري .. أنا علي يقين أن الخبر لا علاقة له بالحقيقة و لو من طرف بعيد .. كيف تحاول أن تغالطني؟ لماذا تتصيد بالماء العكر؟ لماذا تحاول أن تفرض عليَّ أخبارا كاذبة؟‌ أنت تدري جيدا أن الصدق والكذب قد يقتربان أحيانا من بعضهما بحيث لا تكاد تميز بينهما ..

ولكن هذا الخبر ليس فيه شبهة حتى تحاول ...

أحاول؟ ما هذه الخزعبلات .. انك تحاول أن تجعلني اصدق هذه الأخبار التي لا تمت إلى الحقيقة بصله .. فانا على يقين أن أمرا مرعبا كهذا لم يحدث .. وأن مصيبة مهولة كهذه لم تقع .. تبا لي .. لماذا أتحدث بهذا الشكل وكأن شيئا قد وقع بالفعل؟ آه .. ما هذا الهراء.. إن شيئا لم يقع .. و إن .. و إن ..

لكن الإذاعة .. الإذاعة تذيع ..

إنها لا تذيع شيئا .. لا اعتقد أن هناك شيئا يذاع .. أبدا .. وربما هذا الذي يذاع هو جزء من برنامج تمثيلي، ‌أو برنامج خيالي ... أو أي شئ آخر .. بل ليس هناك ما يدعو إلى القلق أو الاضطراب .. وهل يصدق الإنسان بكل ما يسمعه؟ أبدا ..

ولكنه خبر ليس من سنخ الأخبار التي لا تصدق!

لا ادري لماذا تصر على هذا الرأي الأحمق؟ ولماذا تحاول أن تفتح له طريقا إلى قلبي .. فانا لا اصدق مثل هذه الأخبار مهما كانت صادقه .. أبدا ليست صادقه .. أخبار ملفقه لا معنى لها ولا وجود لها.

يا الهي لكنك تدرك في قرارة نفسك إن الخبر صحيح .. صحيح؟! من قال انه صحيح .. بل ومن قال إنني في حالة يقظة؟ إنني لست يقظا .. إنني نائم .. نعم إنني نائم .. وهذا الذي اسمعه هو جزء‌ من كابوس يجثم على صدري انه كابوس مرعب ومخيف .. كابوس يحاول أن يسمعني أسوا الأخبار وآلمها وأقساها .. والحمد الله أن أدركت أنني في كابوس وأن الخبر كان فقرة من فقراته المروعة .. ولابد لي أن أنتفض،‌ أن أحرك جسمي كي أتخلص من هذا الكابوس الرهيب ...

ولكن لماذا لا ينقطع هذه الكابوس؟ لماذا لازالت الإذاعة تصر على بث هذا الخبر .. ولماذا هذه الصرخات وأصوات البكاء التي ترتطم بطبله أذني؟ فهل هي فقرات أخرى من فقرات هذا الكابوس الأسود؟

أوه .. إنها ليست صرخات أو أصوات بكاء .. أنا لا اسمع شيئا من هذا القبيل .. إنها أوهام و تخيلات من صنع ... لا ادري من صنع أي شيء ربما من صنع الشيطان .. أو من صنع الأرواح الشريرة .. على أي حال فهذا لا يهمني .. المهم بالنسبة لي أن لا اكترث لسماع هذه الوساوس .. بل وأن لا أصغ لها على الإطلاق .. ولماذا أصغي لها وهي بعيدة كل البعد عن الحقيقة ..

لكنك لا تريد أن تعترف بالحقيقة .. لان الحقيقة مرة بل وأشد مرارة من العلقم!

حقيقة؟ أيه حقيقة؟ قلت من قبل إن الحقيقة لم يعد لها وجود في عصرنا الراهن .. ولماذا تحاول أن تقدم لي مثل هذه الحقيقة المؤلمة .. أبدا ليست حقيقة .. إنها افتراء .. ولماذا تحاول أن تقدم لي هذا الافتراء في لباس الحقيقة؟ إنني لست ساذجا إلى هذا الحد حتى اصدق،‌ ولست غبيا حتى استسلم لمثل هذه الإشاعات المغرضة التي تهدف .. لا ادري ماذا تهدف .. لا، بل ادري ماذا تهدف .. تهدف إلى .. يا الهي إن راسي يكاد ينفجر، وعيني تكاد تنفلق،‌ وقلبي يكاد يتشظى .. لا ادري لا ادري لماذا هذا الوضع القلق الذي أعيش فيه؟ ولماذا كل هذه الاضطرابات التي تعصف في دماغي؟ ولماذا .. ولماذا؟

انك تستسلم للخبر شيئا فشيئا!

استسلم؟! مستحيل .. إن مثلي لا يستسلم .. ومثلي لا ينهار أمام صعق أخبار من صنع المخيلات والأوهام .. انك لم تعرفني على حقيقتي إنني ليس ممن يصدق الحقائق بسهولة فكيف يصدق الأكاذيب .. فانا اعلم أن بين الكذب والصدق مسافة أربعة أصابع! أنا اعلم أن هناك من يحاول أن يخلط الصدق بالكذب.. وهناك من ينشرح صدره عندما يضحك على الذقون وحينما يخدع الآخرين ...

لكن هذه القضية ليست ضحكا على الذقون أو خديعة، إنها قضية واقعية.. وقعت بالفعل .. و ها أنت تسمع وترى انعكاساتها!

لا ادري .. لا ادري ماذا أقول .. ماذا أجيب .. إن الدنيا تدور بي والأرض تهتز تحت قدمي .. والفضاء‌ يضيق حولي ... كلا .. كلا .. لا حقيقة لما اسمع .. لا حقيقة لهذه الأخبار .. من يقول أن هذه الإذاعة ليست إذاعة الأعداء .. ربما هي صوت أمريكا أو إذاعة الصهاينة .. لا اعتقد إنها إذاعة طهران .. فالخبر إذا كاذب ومزور .. الأعداء‌ يعلمون ماذا يعني بث مثل هذه الأكاذيب، ويعلمون مدى تأثيرها على الناس .. إنهم يريدون أن يطعنونا بهذه الأخبار في صدورنا وينالون من جبل صمودنا .. الخبر كاذب .. كاذب .. هل فهمت؟

آه .. يا ليت الخبر كاذبا .. ويا ليته يبث من إذاعات الأعداء‌ .. إلا انه يبث من إذاعة طهران، وهذا المذيع الذي يقرأ الخبر بصوت باك أنت تعرفه جيدا .. انه مذيع إذاعة طهران .. وهل هناك حقيقة أجلى من هذه؟

الهي ماذا افعل؟ هل اصدق هذا الخبر؟ هل اصدق انه يبث من إذاعة طهران؟ وهل اصدق هذه الأصوات الناحبة وهذا البكاء ‌المتعالي؟ هل اصدق أن .. أن .. الهي إن لساني لا يجرؤ على تلفظ باقي الكلمات. إن ضغلا شديدا يكاد يقتلع قلبي من صدري و يقذف به في الفضاء المجهول .. إن تيارا عاصفا من الألم أخذ يعصف برأسي ويمزق تلافيف دماغي ويحولها إلى حبات كحبات المسبحة .. لماذا هذه الحشرجة التي أخذت تمسك على نفسي؟ لماذا هذا الاسوداد الذي راح يضرب لونه على الكون؟ لماذا هذا الهلع الذي يجلدني بسياطه؟ لماذا هذا الخوف الكبير الذي يستولي علي؟ لماذا أخذت الدنيا تضيق خناقها علي؟ لماذا تحولت إلى غرفة شبيهة بتلك الزنزانة التي أمضيت فيها سنواتا من عمري؟‌ لماذا أشعر ‌بضيق مؤلم في صدري؟ أين هو الهواء؟ أين هي الشمس؟ لماذا اختفت خلف سحب داكنة سوداء؟ لماذا لا أراها؟ هل غادرت الأرض إلى الأبد؟ لماذا تبدو هذه الأشجار صفراء باهته؟ ولماذا نكست هاماتها وأعلنت الحداد؟ الحداد على من؟ أين هو اخضرارها؟ أين هي ضحكاتها وابتساماتها؟ لماذا هذا النشيج؟ من يبكيها؟ من انتزع نضارتها؟ من حولها إلى أشباح؟

أين الربيع؟ وهل يمكن أن يكون ربيع هذا العام قصيرا؟ لماذا لملم أذياله التي كان قد نشرها على الأرض .. على الطبيعة .. على الأشجار والزهور .. على العشب والصبير .. على الطيور والفراشات .. على الأفنان والأعشاش .. لماذا غادرنا في الليل دون كلمة وداع واحدة .. وتركنا في صيف جاف وقيظ مكفهر لا يطاق؟

كان للربيع معنا موقف غير هذا .. كانت لنا معه قبل سنوات ذكريات حلوة .. حلوة ورائعة ونابضة بالجمال والحب والانتصار .. جاءنا قبل سنوات في أيام الشتاء .. فحول ذلك الشتاء القارص القاسي إلى ربيع مثله .. وتلك الأيام الباردة إلى أيام دافئة كدفئه، وأزاح الغيوم عن الشمس التي اختفت لمده طويلة .. فظهرت في أحلى حلة وفي أجمل صورة وأبهى منظر .. لقد أسفرت عن وجه ذهبي ساحر وانفرجت شفتاها عن ابتسامه مضيئة عذبه .. نعم طل علينا الربيع آنذاك في الشتاء، فزرع الأرض فرحا وحبورا،‌ وعانق القلوب التي أنهكها الشتاء، و أشاع الأمل في النفوس التي كاد يملؤها اليأس، وقرع أجراس الانتصار في كل بيت، وأسرج السرج في كل زقاق، ‌وغرس في كل شارع شجرة الحرية ..

أما اليوم .. فلا ادري لماذا أدار الربيع ظهره لنا، ولماذا غادرنا بهذه السرعة وأطفأ كافة المصابيح التي كانت تضيء‌ الدنيا؟ فهل غادرنا الربيع حقا أم أني وقعت ضحية لسلسلة من الأوهام والتصورات الباطلة؟

الهي .. لماذا لا اسمع خرير هذا النهر الذي كان يحمل معه صوت الخلود وينشد في كل يوم أنشودة الورع والزهد والتقوى .. لماذا هذا التوقف المفاجئ؟ أين تلك الألحان العذبة التي كان يعزفها؟ أين ذلك الهتاف الرباني الذي كان ينطلق من حنجرته المقدسة؟ فهل حدث شيء‌ ما؟ و هل كان وراء هذا الصمت الرهيب واقعة عظيمة؟

يا ليتني لم أفتح المذياع .. بل وليتني مت قبل هذا .. فهل علي أن لا اصدق الخبر؟ وهل أتجاهله؟ وهل أظل أتصور أنني اسمع وأشاهد أحداث كابوس رهيب؟ وهل سيغير تجاهلي و تصوري من الحقيقة شيئا؟ هل ... هل ... إنني لا أقوى على تحمل الاعتراف بالواقع .. لا أجرؤ على تصديق الحدث المؤلم المدمر؟

إذن فأنت قد أذعنت آخر الأمر؟!

ها .. يبدو أن علي الإذعان .. ولكن كيف أذعن؟‌ كيف اصدق؟ وكيف أحاول إقناع نفسي لحقيقة ما وقع .. إنني لا أتحمل الصدمة .. إنها عنيفة .. قاسية .. شديدة الوقع .. ثم كيف سأتصور حياة بدونه .. بدون قلبه النابض بالحب والرحمة .. بدون طلعته البهية التي يشع منها النور .. نور الإيمان والإخلاص والصدق .. بدون عينيه اللتين تفيضان حنانا وشجاعة وإباء‌ .. بدون كلماته الهادئة الحازمة التي تشيع السكينة في قلوب الموالين والرعب في قلوب المعادين .. بدون يديه القويتين اللتين .. يحتضن بهما الأمة ويخنق بهما أنفاس الطواغيت .. بدون أنفاسه المقدسة التي تعبق خيرا ورحمة وبركة؟

كيف تريدني أن اصدق الخبر وأنا أرى فيه الأمل الذي يدغدغ قلوب المحرومين، والحلم الأخضر الذي يداعب أجفان المقهورين والمضطهدين في كل مكان،‌ والشمس التي بزغت هي سماء المستضعفين بعد قرون من الظلام الدامس والعتمة الخانقة،‌ والشجرة الخضراء الوارفة التي نبتت في صحراء الحائرين الذين يبحثون عن ظل يتفيأون به وعن واحة يسكنون إليها، و الصوت المدوي الذي أيقظ النائمين من سبات الغفلة والجهل والخنوع،‌ والزلزال العنيف الذي أماد الأرض تحت أقدام الطغاة والمحتلين والفراعنة،‌ والشبح المرعب الذي طارد ظلمة الشعوب وقتلة الفضيلة وجزاري الحرية، والسيف المشهور في وجوه المستبدين الذين لا يفكرون إلا في مصالحهم .. أهدافهم الشريرة .. كروشهم المترهلة .. نزواتهم الطائشة .. لياليهم الحمراء .. قصورهم التي لا تحصى .. بساتينهم وحدائقهم الغناء‌ .. ثرواتهم وكنوزهم .. جواريهم و عبيدهم .. والذين حولوا بلدانهم إلى سجون وزنزانات .. مشانق ومقاصل .. محاكم ودوائر أمن .. وملئوها بالرعب .. بالإرهاب .. بالقتل .. بالجور .. بالاعتقال العشوائي .. بالتعذيب .. بالتجويع .. بالحروب .. بالأزمات .. بالاضطرابات .. بكم الأفواه .. ؟

كيف اصدق انه قد سافر سفرته الطويلة التي لا يرجع منها؟ كيف استسلم لهذا الخبر الصاعق المذهل؟ لا أكاد اصدق أن إذاعة طهران ستعلن في يوم ما عن خبر قاتل كهذا! وهل بإمكاني أن أقول انه قد مات .. تبا لي كيف جرأت آخر المطاف على تلفظ هذه الكلمة؟ وكيف سولت لي نفسي إطلاق هذه اللفظة؟!

لكنه لم يمت .. انه حي فلماذا هذا الانهيار؟ نعم انه لم .. انه حي .. فعظيم كالخميني لا يموت .. العظماء لا يموتون .. أولياء الله أحيا‌ء عند الله وأحياء في ضمائر الأمم .. انه حي فينا .. بل انه أكثر حياة منا نحن الأحياء الخاملون الذين لا نحرك ساكنا ولا نترك على هذه الحياة أي بصمات .. انه حي بروحه الذائبة في حب الله و بفكره النقي، ونهجه القويم، وخطاه السليمة الرصينة،‌ ومواقفه الحازمة الواضحة، وذهنيته الإسلامية الواسعة التي لم تؤطرها حدود الأرض والقومية والعصبيات الجاهلية.

الوحدة ـ‌ العدد 215