الإمام علي (عليه السلام) في فكر القائد

فهرست العناوين:

1- الإمام علي (عليه السلام) في فكر القائد.

2- عِلمُ الحِساب عند الإمام علي (عليه السلام). 3- المقام المعنوي لأمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام الإمام الخميني (قدس). 4- سينما هوليود تعجز عن تمثيل دور الإمام علي (عليه السلام). 5- ما أعظم أمير المؤمنين (عليه السلام) ... 7- الإمام علي ابن أبي طالب (عليه السلام).

*

*

2007-08-18

النظر الى علي

الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لجمع من أصحابه : «من أراد أن ينظر الى آدم في علمه والى إبراهيم في حلمه والى موسى في هيبته والى عيسى في عبادته، فلينظر الى علي بن أبـي طـالب». أي انّ علم آدم الـذي ورد عـنه فـي القرآن قـولـه تعـالى : { وعلّم آدم الأسماء كلّها }، وحلم إبراهيم الذي قال تعالى عنه في القرآن: { انّ إبراهيم لَحَلِيم أوّاه منيب } ، وهيبة موسى التي كانت سطوة فرعون وعظمته ضعيفة أمامه، وعبادة عيسى الذي كان مظهراً للزهد والإخلاص والتعبّد للّه، وفي بعض الروايات المنقولة من غير الشيعة أيضاً، اُضيفت عبارة اُخرى وهي: زهد يحيى بن زكريا. كلها جمعت في هذا الإنسان العظيم الذي نعتبر أنفسنا من شيعته. وهذا الكلام يمكنه أن يوضح لنا ـ الى حدٍّ ما ـ صورة عن شخصية ذلك الرجل العظيم.

ماهية الاعتقاد بالامام أمير المؤمنين (عليه السلام)

انّ أميرالمؤمنين إمامنا وإمام جميع المسلمين، أي انّ الجميع يعتقدون به كإمام، ولكن ما معنى (الإمام)؟ ، يعني أن نلحظ أبعاد هذه الشخصية كالنموذج الرفيع الذي نضعه أمامنا، ثمّ نحاول بناء شيء شبيه به.

كيف يمكن لأحدٍ أن يدّعي انّه من شيعة أميرالمؤمنين لكنّه لا يجرؤ على الاعتراض على أعداء اللّه خوفاً من سطوتهم وتجبّرهم.

انّ الذين حاربهم أمير المؤمنين في أيام خلافته وقبل ذلك كانوا أعداءاً للدين وكانت لديهم سلطة سياسية وعسكرية، وكان لدى بعضهم قاعدة شعبية ونفوذ ويدّعون الايمان والتقدّس. كان البعض مثل الخوراج شبيهين ببعض المتطرّفين المتظاهرين بالثورية، والذين لم يعترفوا بأحدٍ غيرهم، كالذين لم يعترفوا في بداية الثورة بالإمام كشخصٍ ثوري. كان أميرالمؤمنين (عليه السلام) قد واجه اُولئك وشتّتهم وقال بأنّه لو لم يحاربهم لما تجرأ أحد على محاربتهم.

هناك من يدّعون بأنّ الإمام هو إمامهم ولكنّهم غير مستعدّين لأن يقولوا كلمة واحدة تزعج الاستكبار وأمريكا والذين يظلمون اليوم مئات أضعاف ظلم المقتدرين الفسدة في صدر الاسلام، ويرتكبون من الظلم في يوم واحد ما يعادل الظلم الذي ارتكبه اُولئك في عدّة أعوام. يقول هؤلاء أنّهم شيعة علي وانّه (عليه السلام) إمامهم!! فماذا يعني الإمام؟ ، هذا هو أميرالمؤمنين (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذه هي شموليته، وطبعاً لا يمكن توضيح شموليته بهذه الكلمات.

اننا مثل ذلك الرسّام الطفيلي الذي يريد أن يرسم وجهاً جميلاً لكنّه يرسم هيكلاً جامداً، انّه (عليه السلام) أرفع كثيراً من هذا الكلام ، الاّ انّ هذه الصورة الناقصة التي نرسمها ـ أيّها الاخوة والأخوات ـ جميلة ورفيعة وشاخصة الى درجة انّها تحيّر الناس، يجب علينا التحرّك في هذا الاتجاه.

مقام علي (عليه السلام)

لا يتوقع أحد أن يصل حتى على بعد فرسخ من مستوى أميرالمؤمنين (عليه السلام)، وهذه حقيقة، وقد قلت قبل عدّة أعوام في صلاة الجمعة : انّنا لانقدر أن نكون مثل أميرالمؤمنين (عليه السلام)، فكتب أحدهم اليَّ قائلاً : نعم لقد أَرَحْتم أنفسكم بهذا الكلام لأنّكم ليس بإمكانكم أن تكونوا كأميرالمؤمنين (عليه السلام)، كلاّ ليس الموضوع هذا، فقد ذكر أميرالمؤمنين (عليه السلام) نفسه في حديث له : «ولكنّكم لا تقدرون على ذلك» فهو في القمّة، تصوّروا قمّة عالية، علينا أن نصعد إليها، ولا نقول انّنا لا نصل اليها، بل يجب التحرّك.

انّ أمير المؤمنين (عليه السلام) هو اسوة للمسؤولين في المؤسسات الحكومية، في أيِّ جهاز إداري وحكومي كانوا، سواء كانت مسؤوليتهم صغيرة أو كبيرة.

لقد أراد منّا أن نؤدّي العمل بإخلاص، نؤدّيه للناس دون مِنّة، ونحترم مراجعينا ولا نحقّرهم، ونحن نتمتع بسلامة اليد والبصر واللسان، بل ونملك قلباً سليماً. لقد عمل أميرالمؤمنين (عليه السلام) لإحياء الناس، ولا بأس أن اُشير هنا الى مسألة التعليم، حيث يحضر في هذا المجلس جمع من الاخوات العاملات في نهضة محو الاُمّية.

من وصايا أمير المؤمنين (عليه السلام)

هناك وصية قصيرة للإمام (عليه السلام) أوصى بها من بعد أن جُرِح في ليلة التاسع عشر من شهر رمضان المبارك أودّ تبيانها لكم. والسبب في أهمّية هذه الوصية هو أنّ الإنسان في اللحظات الأخيرة من عمره يسعى أن يبيّن حقيقة أفكاره وآراءه ومكنونات قلبه الى أفضل الناس وأكثرهم أمانة لديه. وأميرالمؤمنين (عليه السلام) هو اُعجوبة الخليقة والشخص الثاني بعد النبي الأكرم (صلّى اللّه عليه وآله) والمسلم المجاهد في سبيل اللّه (جاهد في اللّه حقّ جهاده) والزاهد والحاكم والسياسي من الطراز الأوّل ومنزلته في السماء أشهر ممّا هي في الأرض، ومحبّيه من ملائكة السماء أكثر من محبّيه من أهل الأرض.

إنّ مثل هذا الإنسان المرتبط بالملكوت الأعلى والعارف بكلّ المعارف الإلهية المتعالية ويمتلك كلّ هذه السجايا والخصال عندما يشعر باقتراب أجله يرى أنّ الوقت يمرّ بسرعة، فيجب عليه أن يبادر الى تبيان الأمور المهمة.

وعندما ضُرب (عليه السلام) في المسجد كان يعلم أنّ حياته مشرفة على الانتهاء فأراد أن يُوصي أولاده وأهل الكوفة وجميع المسلمين الحيارى في ذلك العصر ويصدر بياناً مقتضباً يبقى خالداً على مدى التاريخ، وقد تمّ انتخاب فقرات هذا البيان بدقّة متناهية من قبله (عليه السلام).

وقد يشعر الإنسان بعدم التجانس بين فقرات هذه الوصية عندما تكون نظرته إليها سطحية.

فتارةً يوصي بأمرٍ غايةً في الأهمّية من وجهة نظرنا يُتبعه فجأة بآخر ليس لهُ نفس المستوى من الأهمّية، ولكن نظرة علي (عليه السلام) للأمور كنظرة اللّه لجميع الموجودات في العالم نظرة إلهية وصائبة. والأمور الصغيرة والكبيرة تختلف في المقياس الإلهي والمقياس العَلَوي عما هي عليه في مقاييسنا نحن.

ونحن قاصرين عن الوصول الى هذا المستوى ولكن حينما نقوم بتحليل تلك العبارات ـ ولو من بعيد ـ فسنجد أنّها متناسقة كلّ التناسق ونُظِّمت بصورة دقيقة جدّاً. فلنستمع إليها بدقّة وإمعان.

ومن وصيّة له (عليه السلام) للحسن والحسين (عليهما السلام) لما ورده ابن ملجم (لعنه اللّه)، فقد دعا الحسن والحسين (عليه السلام) وأوصاهما بتلك الوصايا على الرغم مما كان يعانيه من ألم وحمّى على أثر نفوذ السم الى بدنه الطاهر. وقد تكون الآلام مانعة للإنسان الاعتيادي عن أن يقوم بتأدية واجبه إلاّ أنها لا تستطيع أن تمنع شخصاً كعليٍّ (عليه السلام) من ذلك، فأراد (عليه السلام) أن يبادر الى استغلال تلك الساعات القليلة التي أعقبت ضربته وحتى استشهاده (عليه السلام) والتي لم تتجاوز 48 ساعة لإنجاز الأعمال الضرورية وأهمّها كانت وصيّته (عليه السلام) «اُوصيكما بتقوى اللّه» فبدأ وصيته بدون أي مقدّمة بالدعوة الى تقوى اللّه سبحانه وتعالى.

وكنتُ قد تحدّثت في الجمعة الأولى من شهر رمضان بشكلٍ مجمل عن مسألة التقوي.

فالتقوى تعني كلّ شيءٍ للإنسان، وهي دنيا الأمّة وآخرتها والزاد الحقيقي في هذا الطريق الطويل الذي لابدّ للبشرية أن تقطعهُ، فالتقوى هي كلام أميرالمؤمنين (عليه السلام) الأوّل والأخـير وهي مقدّمة على كل شيءٍ في حيـاة الإنسان، فكأنّه (عليه السلام) يريـد أن يقول يجب عليكم يا أولادي مراقبة أنفسكم وأعمالكم ووزنها بالمعيار الإلهي الحق.

وليس كلامه (عليه السلام) في مسألة الخوف من اللّه، كما فُسِّرت التقوى من قبل البعض بأنّها الخوف من اللّه وخشيته سبحانه وتعالي. صحيح انّ الخشية والخوف من اللّه تعالى لها قيمة وتُعتبر من أنواع التقوى إلاّ أنّ التقوى الحقيقية تعني مراقبة الإنسان المستمرة لأعماله كي تكون منطبقة مع المصالح الإلهية التي يقدِّرها المولى سبحانه وتعالى له. وهذا أمر لا يمكن للإنسان أن يستغني عنه بأيِّ حالٍ من الأحوال.

وإذا حاولنا الاستغناء عن هذه الحالة فالطريق أمامنا مليء بالأخطار والوادي عميق تحت الأقدام وسننزلق بلا ريب إلاّ أنّه قد نعثر على حجرٍ أو شجر نتشبّت به لعلّه يعيننا على الصعود الى الأعلى من جديد { إنّ الذين اتّقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكّروا فإذا هو مبصرون }.

فالإنسان المتّقي عندما يشعر بمسّ الشيطان له يتذكر اللّه ويعود الى نفسه حالاً بالمراقبة والمحاسبة. وعلي (عليه السلام) يعلم انّ الشيطان لن يتركنا أبداً فلابدّ أن تكون الفقرة الأولى من الوصية هي تقوى اللّه سبحانه وتعالى.

وأخذ بعد ذلك يوصي بالأمور المهمة الأخري. فقال: «وأن لا تبغيا الدنيا وإنْ بغتكما»، هذه هي الفقرة الثانية وهي من مستلزمات التقوى وكلّ الأعمال الصالحة هي من مستلزمات التقوي، ومن جملة هذه الأعمال هو الأمر الذي ذكره (عليه السلام)، فلم يقل اتركوا الدنيا بل أوصى بعدم اتّباع الدنيا وبالتعبير الشائع عدم الركض وراء الدنيا. فماذا تعني هذه الدنيا التي لا ينبغي السعي وراءها؟ هل تعني إعمار الأرض وإحياء الثروات الطبيعية؟ وهل هذه هي الدنيا التي ذمّها أميرالمؤمنين وحذّر منها؟ لا، ليس الأمر كذلك. فالدّنيا التي لا ينبغي اللهث وراءها تعني طلب اللّذات والسعي وراء الشهوات. أمّا إذا كان الهدف من إعمار الأرض خير البشرية وصلاحها، فهو الآخرة بعينها وهو أمر يجب السعي إليه.

أمّا الدنيا المذمومة والتي نُهِي الإنسان من السعي وراءها فهي الأعمال التي تصد عن السير في طريق الخير والصلاح وتسلب منه إرادته وتستهلك قواه وسعيه وهمّته وهي تعني الأنانية وحبّ الذات والسعي وراء جميع الأموال والسعي وراء اللّذات. وهذه الدنيا على قسمين فمنها المباح ومنها الحرام، فليس كلّ ما يطلبه الإنسان لنفسه من اللذات حرام بل انّ ما فيه المباح أيضاً.

ولكن أهل البيت (عليهم السلام) أوصوا بالابتعاد حتى عن اللذات المباحة عندما يصبح هدف الإنسان من الدنيا طلب اللذات والشهوات فقط. فأجهدوا أن تسير مظاهر حياتكم المادية والمعنوية في المسير الإلهي المرسوم لها. انّ كلّ الأعمال الدنيوية يمكن وضعها في هذا المسار إذا كان الهدف منها هدفاً مقدّساً. فحتّى التجارة «مثلاً» يمكن أن تُجعل في سبيل اللّه عندما يكون الهدف منها تحسين الوضع الاقتصادي للمجتمع وليس ادخار الأموال الطائلة فقط.

إذن كانت الفقرة الثانية من وصيته (عليه السلام) هي عدم السعي وراء الدنيا بالمعنى الذي ذكرناه آنفاً. وقد كان أميرالمؤمنين (عليه السلام) هو المصداق الأكمل لتلك الوصايا وقد جسّدها بشكل كامل في حياته وسلوكه. فإذا ألقينا نظرةً على حياته (عليه السلام) فسنجدها تجسيداً حيّاً لكلّ ما أوصى به (عليه السلام).

الفقرة الثالثة «ولا تأسفا على شيءٍ منها زُوِي عنكما» أي لا تأسفا على ثروةٍ أو لذّة أو منصب لم تحصلوا عليه، لا تتأسّفوا لأنّكم لا تملكون وسائل الراحة والرخاء ولا تأسفوا على أي شيء فانّكم من هذه الدنيا الدنية أبداً.

الأمر الرابع «وقولا للحق» أو في نسخة أخرى «وقولا الحق» ولا فرق بينهما، ومعناه لا تكتموا شيئاً عندما تعتقدون انّه حقّ فيجب عليكم إظهاره حينما تدعو الضرورة لذلك. انّ جميع المصائب حلّت بالمجتمعات عندما قام الذين يعرفون الحق بكتمانه وعدم السعي لإظهاره بل سعوا لإظهار الباطل أحياناً أو جعلوا الباطل حقّاً أحياناً أخرى. وما كان الحق ليُظلم لو بادر الذين عرفوه لنشره وإظهاره ولما طمع أهل الباطل في القضاء عليه.

الفقرة الخامسة: «واعملا للأجر» يعني الأجر الحقيقي والإلهي. فلا تعمل عبثاً أيّها الإنسان، انّ عمرك وعملك وحتى أنفاسك هي رأس مالك الوحيد والحقيقي فلا تفرّط به.

وإذا أردت أن تعمل عملاً أو تتنفّس نفساً أو تصرف قواك في شيء فليكن ذلك من أجل الحصول على أجرٍ يتناسب مع ذلك. فما هو هذا الأجر الذي يجب أن نحصل عليه؟ هل هو دراهم معدودة نحصل عليها؟ هل هو جلب رضا فلان وعلاّن من الناس؟ هل هذه الامور هي الأجر الحقيقي لضياع عمر الإنسان؟ من المؤكّد انّ الجواب على ذلك سيكون بالنفي.

أتذكّر أنّ رواية عن الإمام السجاد (عليه السلام) يقول فيها: «فليس لأنفسكم ثمن إلاّ الجنة، ألا فلا تبيعوها بغيرها». فكما يكون الأجر أقل من ذلك فانّ الغبن سيكون من نصيبنا فلتكن أعمالنا من أجل الأجر الحقيقي وهو الأجر الأخروي.

الفقرة السادسة: «أو كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً» الخصومة غير العداوة؛ فبغض الظالم ومعاداته غير كافية لأنّ الخصومة تعني الأخذ بتلابيب الظالم وعدم تركه.

لقد اكفهرّ وجه البشرية منذ وفاة أمير المؤمنين (عليه السلام) وحتّى اليوم بسبب عدم إظهار الخصومة للظالمين. ولو أنّ الأيدي المؤمنة كانت تضيّق الخناق على الظالمين لما سنحت الفرصة للظلم كي ينتشر بهذا الحجم الواسع في العالم بل كان ذلك يؤدّي الى انحصاره وإسقاطه والقضاء عليه.

وما يريده أميرالمؤمنين (عليه السلام) هو «كن للظالم خصماً»، فأينما يوجد ظالم يجب على الإنسان أن يضع نفسه موضع الخصومة له.

وليس من الضروري إبراز هذه الخصومة دوماً، ولكن عندما تحين الفرصة فلابدّ من إبراز تلك الخصومة والأخذ بتلابيب الظالم ولو من بعيد إذا تعذّر ذلك عن قرب. واليوم نرى انّ العالم يغطّ في مستنقع الرذيلة نتيجةً لتركه لهذه الفقرة من وصية أميرالمؤمنين (عليه السلام).

فأيّ ذلٍّ وامتهانٍ تعيشه البشرية اليوم وأيّ ظلم ذلك الذي تمرّ به الشعوب الإسلامية المعاصرة لابتعادها عن الإسلام.

ولو عُمل بهذا الجزء من وصيته (عليه السلام) لما وجدنا اليوم أثراً لكثيرٍ من تلك المظالم ولا المصائب المترتّبة عليها.

ويؤكّد (عليه السلام) على الأمر المهم الآخر فيقول: «وللمظلوم عوناً» يعني إذا وجدت مظلوماً فكن عوناً له، لم يقل كن مؤيّداً له بل يقول أعنه بكل ما تستطيع وكلّ ما يبلغه وسعك.

الى هنا كان الخطاب موجّهاً الى الإمام الحسن والإمام الحسين (عليهما السلام)، طبعاً هذا لا يختصّ بهما فقط، فبالرغم من أنّ خطابه كان موجّهاً إليهما إلاّ أنّ وصيّته عامة تشمل الجميع.

العبارات التالية يقولها أميرالمؤمنين (عليه الصلاة والسلام) بصورة عامة، فيقول: «اُوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي» فحتى نحن الجالسون هنا مخاطبون بهذه الوصية أيضاً. ثمّ يبدأ بالقسم الثاني من وصيته العامة، فيعود من جديد ليؤكّد على أهمية التقوى مرةً أخرى فالتقوى هي الكلام الأوّل والأخير لأميرالمؤمنين (عليه السلام).

وبعد الوصية بالتقوى مجدداً يقول (عليه السلام) «ونظم أمركم» فماذا يعني بنظم أمركم؟ هل يعني أنّ الأعمال التي تقومون بها في حياتكم اليومية يجب أن تكون منظمة ودقيقة؟ من المحتمل أن يكون هذا أحد معاني هذه العبارة، لكنّه لم يقل عليكم بنظم أموركم بل «نظم أمركم». إذن فظاهر هذه العبارة انّ هناك أمر مهم يجب أن يتحقق وفقاً لضوابط ونظم معينة، فما هو ذلك الأمر المهم؟

يُفهم أنّ لهذا الأمر المهم قاسم مشترك عند كل الناس، فيحتمل أن يكون معنى نظم الأمر هو عبارة عن إقامة الولاية والحكومة الإسلامية والنظام الإسلامي. يعني أيّها المسلمون ليكن تعاملكم مع مسألة الحكومة والنظام وفق ضوابط ونظم معينة ومحددة. لا يكن هناك انفلات في تعاملكم مع النظام. فبسبب هذا الانفلات وصلت الأمة الإسلامية الى ما وصلت إليه من انحطاط وتشتت. يُروى عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلم) انّه قال ما معناه (إذا بايعت الأمة إماماً يرضى اللّه عنه فلا يجوز لأحدٍ مخالفته)، فلو انّ الأمة الإسلامية عملت بمضمون هذه الرواية بعد بيعتها للإمام علي (عليه السلام) لما وقعت تلك الحروب المدمرة كحرب الجمل وصفين والنهروان.

وهذا «الإخلال والانفلات» هو ما يقوم به البعض من أجل مصالحه وإرضاءً لميوله النفسية فينشر الرعب في البلاد ويثير القلاقل ويخلّ بالنظام العام ويقتل الناس الأبرياء هنا وهناك، وهذا هو البلاء العظيم الذي حذَّر منه أميرالمؤمنين (عليه السلام) ونهى عنه وأمر بخلافه.

الفقرة الثالثة في القسم الثاني من هذه الوصية «وصلاح ذات بينكم» يعني لتكن قلوبكم خالية من الضغائن، ولتكن كلمتكم واحدة ولا تتفرّقوا وتختلفوا، ولتكن علاقة بعضكم مع البعض أخوية وحسنة. ثمّ يأتي (عليه السلام) بحديث للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) دعماً لوصيّته، وهذا يكشف عن اهتمامه البالغ بهذا الأمر لا لأنّه أكثر أهمّية من مسألة نظم الأمر؛ بل لأنّ مسألة «إصلاح ذات البين» معرّضة للضرر أكثر من مسألة نظم الأمر؛ لذلك فهو يُشفع ذلك بحديثٍ لرسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلم) تأكيداً على أهمّية هذا الأمر، يقول: «فإنّي سمعت من جدّكما يقول صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام» ليس أفضل من كل الصلوات والصيام بل أفضل من كلّ صلاة وصيام، فأنت عندما تريد أن تقوم بأداء صلاةٍ أو صيامٍ، لا بأس، لكن هناك عمل أفضل من هذه الصلاة وهذا الصيام، وهو السعي لإصلاح ذات البين. فعندما ترى تشتّتاً واختلافاً بين أبناء الامة الإسلامية عليك أن تسعى لرفع هذه الفرقة والاختلاف، فانّ عملك هذا أفضل من عامة الصلاة والصيام.

وبعد هذه الفقرات يبدأ (عليه السلام) بوصايا أخرى قصيرة وهادفة ومؤلمة فيقول: «اللّه اللّه في الأيتام فلا تغبّوا أفواههم ولا يُضيّعوا بحضرتكم» إيّاكم أن تنسوهم، أعينوهم بكل ما تستطيعون. إنّ هذا الإنسان العظيم العارف باللّه وصاحب القلب العطوف ينظر الى كلّ الأمور بعين الدقّة. فليست المسألة في نظره مسألة فردية وعاطفة عادية. إنّ الذي فقد أباه هو إنسان فقد أهم حاجة في حياته وهو الاحتياج الى الأب، فيجب السعي الحثيث لملء هذا الفراغ الذي حدث في حياته، طبعاً لا يمكن ملء هذا الفراغ، لكن يجب عليك أن ترعى هذا الطفل وهذا الصبي وذاك الشاب اليتيم لكي لا يصيبهم الضياع. يجب عليك أن توفّر لهم لقمة العيش حتّى لا يذوقوا ألم الجوع والحرمان.

لا تعطوهم يوماً وتمنعوهم يوماً. لابدّ للمجتمع من الاهتمام بشؤونهم المادّية، وإيّاكم أن يصيبهم الضياع على الرغم من حضوركم واطّلاعكم. قد تكون معذوراً إذا كنت تجهل حالهم أو غائباً عنهم ولكن إيّاك أن يُضيّع يتيم أو يُهمل وأنت حاضر ومطّلع، لا ينشغل كلّ واحدٍ منكم بأموره الخاصّة وتتركوا هذا اليتيم وحيداً يصارع مشاكل الحياة.

«واللّه اللّه في جيرانكم» لا تستصغروا مسألة الجوار فأمرها مهمّ جدّاً. انّ ذلك التلاحم الاجتماعي المتماسك الذي أقامه الإسلام طبقاً للفطرة السليمة قد ضاع وللأسف في منعطفات التمدن البعيدة عن الفطرة الإنسانية التي فُطِر الناس عليها.

يوجد من الناس من يقيم في بيت سنوات طويلة وهو لا يعرف من جاره وما يجري عليه ولا يساعده في حاجاته ومشاكله وضروريات حياته. ونحن إذا عملنا بهذه الفقرة من وصية أميرالمؤمنين (عليه السلام) وقام كلّ واحدٍ منّا برعاية جيرانه ليس من الناحية الاقتصادية والمالية التي هي مهمة في ذاتها بل من جميع النواحي الإنسانية، فسنرى مدى التآلف والمحبّة اللذان سيسودان العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع الإسلامي، وسنرى كيف يُشفى المجتمع من أمراضه الإجتماعية المزمنة التي يعاني منها. ثمّ يكمل الوصية بالجيران فيقول: «فانّهم وصية نبيّكم، مازال يوصي بهم حتّى ظننّا أنّه سيؤرِّثهم».

(واللّه اللّه في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم)، إيّاكم أن يسبقكم للعمل بمفاهيم القرآن من ليس له إيمان بها، فيتقدّموا عليكم وتتأخّروا عنهم لترككم العمل بتلك المفاهيم الإلهية.

وهذا عين ما وقع تماماً، فالشعوب المتقدّمة في العالم كان وصولها الى هذا المستوى من التقدم بفضل الجدّية والدقة في العمل ومتابعته والاهتمام بالوقت وبنوعية الانتاج وخصال أخرى يحبّها اللّه سبحانه وتعالى وليس عن طريق الفساد وشرب الخمور والظلم كما يتصوّر البعض. وقد قلتُ كراراً انّ التقدّم العلمي لم يكن ليتحقق لولا امتلاك الدول الغربية التي أوجدته لبعض تلك الخصال الحميدة، وإلاّ لكان الدمار من نصيب تلك الدول نتيجةً لظلمها وتعسّفها. انّ هذه الخصال الحميدة هي التي حفظت تلك الشعوب التي تبنّتها من الانقراض. ولكنّنا تخلّينا وللأسف عن تلك الصفات والخصال فوصلنا الى ما وصلنا إليه.

وإذا تحلّى عمّالنا وفلاّحونا وعلمائنا وأساتذتنا وطلاّبنا وباقي طبقات المجتمع بتلك السجايا والخصال الحميدة لتحوّلت البلاد الى روضةٍ يدخل فيها الجميع بالنعيم، وهذه هي طريقة العمل بمفاهيم القرآن.

وعبارة «لا يسبقكم بالعمل به غيركم» لا تعني أنّ علياً لا يريد لأحدٍ أن يعمل بالقرآن؛ بل بالعكس فلو انّ الناس جميعاً عملوا بما جاء به القرآن، لكان في ذلك مسرّة كبيرة لعلي (عليه السلام)، ولكنّه يقول لا يسبقكم بالمفاهيم القرآنية من لا يؤمن بها فيؤدّي ذلك الى تسلّطهم عليكم وتأخّركم عنهم بسبب عدم عملكم بما جاء به القرآن الكريم.

(واللّه اللّه في الصلاة فانّها عمود دينكم).)«واللّه اللّه في بيت ربّكم لا تُخلّوه ما بقيتم، فإنّه إنْ تُرِك لم تُناوروا)، لا تدعوا هذا البيت يخلّي، فانّ بيت اللّه تعالى لو اُخلي وترك لا يمهلكم سبحانه وتعالي، أو لا يمكنكم العيش بعد ذلك أبداً، وقد فسّرت هذه العبارة بمعاني مختلفة.

(واللّه اللّه في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل اللّه) إيّاكم وترك الجهاد في سبيل اللّه بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم. إنّ الأمة الإسلامية كانت الامة النموذجية في العالم طالما كانت قائمة بالجهاد في سبيل اللّه، ولكنّها اُصيبت بالذلّ والهوان عندما تخلّت عن هذه الفريضة الإلهية. وقد ذكر الكتّاب المسيحيون في إنجيلهم عن المسيح (عليه السلام) انّه قال: «إذا ضربك أحد على خدّك الأيمن فأدِرْ له خدّك الأيسر» يعنون بذلك إنّنا مسالمون ولا نعرف للحرب معنى، وشعارنا الرحمة والسلام، ولايزالوا يردّدون هذا من دون حياء ويطعنون بالمسلمين لأنّهم أهل الجهاد والحرب والسيف وسفك الدماء، وقد كرّروا هذه الافتراءات الى حدٍّ أصبح معه بعض المسلمون يخجل من طرح تلك المفاهيم الإسلامية، مما حدى ببعض العلماء والكتّاب المسلمون أن ينكروا وجود موضوع الجهاد في الإسلام، بل قالوا جهادنا هو دفاع فقط.

ماذا يعني هذا الكلام الهزيل، إنّ اللّه سبحانه يقول جاهدوا في سبيل اللّه، وهؤلاء يقولون لا يوجد عندنا جهاد وإنّما هناك دفاع. اللّه يقول في قرآنه { إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولّوهم الأدبار} و{ قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } وهؤلاء يقولون انّ الجهاد في سبيل اللّه ليس هو الجهاد الابتدائي، وإنّما الجهاد الدفاعي فقط. إنّ هذه الأفكار نشأت على اثر الإعلام والتبليغ المسيحي الذي يكرّر دوماً انّ الحرب وسفك الدماء هو شيء قبيح ولابدّ من الصلح والسلام، وقد صدَّق المسلمون هذه الترهات فأصبحوا أذلاّء جليسي بيوتهم بعد أن كانت راية العزّة ترفرف على رؤوسهم لقيامهم بفريضة الجهاد في سبيل اللّه سبحانه وتعالي.

انّ اُولئك الذين كانوا يدعون الى الصلح والسلام والرحمة ويُشينون على المسلمين جهادهم في سبيل اللّه قاموا بقتل وذبح المسلمين وتشريدهم في شتّى بقاع الأرض، واليوم تشاهدون ما يقوم به هؤلاء في البوسنة والهرسك وما قاموا به من عملٍ شنيع في الحرم الابراهيمي الشريف لمسجد خليل الرحمن في فلسطين المحتلة.

وانّ اُولئك الذين كانوا ينتقدون المسلمين سنين طويلة بأنّهم دعاة الحرب وسفك الدماء، قاموا منذ الحروب الصليبية وحتى اليوم بشنّ الحروب المدمّرة على المسلمين وارتكاب المجازر المروّعة بحقّهم، والتي لا مجال للخوض في تفاصيلها في هذا الوقت المحدود.

وحينما يقرأ الإنسان ما دُوِّن في التاريخ من وقائع وأحداث، فسيبكي دوماً لأجل المظالم التي ارتكبت ومن أجل حالة النفاق التي يعيشها اُولئك الذين يرفعون أصواتهم بالصلح والسلام وهم يخفون خناجرهم لغرسها في صدور الأبرياء.

نعم، يجب أن يكون الجهاد في إطاره الإسلامي الذي شرَّعه اللّه تعالى وضمن الضوابط التي وضعت له في الشريعة، فلا يوجد في الجهاد ظلم ولا تعدٍّ على حقوق الآخرين ولا حجّة لقتل الأبرياء أو القضاء على المسلمين.

انّ الجهاد فريضة إلهية إذا اُقيمت ستؤدّي الى ارتفاع رؤوس المسلمين عالياً، ولهذا أكّد عليها أميرالمؤمنين (عليه السلام) في وصيته المباركة.

ثمّ يقول (عليه السلام): «وعليكم بالتواصل والتباذل وإيّاكم والتدابر والتقاطع، ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيولّى عليكم شراركم ثمّ تدعون فلا يُستجاب لكم»، إذا اعتادت الأمة أن لا تقول للشرير انّك شرير، فإنّها ستفتح الطريق أمام الأشرار والمنحرفين لتولّي زمام أمورها، وعندها لا يُستجاب حتى دعاء الأخيار للخلاص من هؤلاء الأشرار الفاسقين.

هذه هي وصية أميرالمؤمنين (عليه السلام) والتي اشتملت على عشرين فقرة تناولت أهمّ القضايا التي اختارها وبيّنها للأمة.

ثمّ تعرّض بعد ذلك لأمرٍ أساسي ومهم وهو مسألة الانتقام من قاتليه. فيقول: «يا بَني عبدالمطلب لا اُلفِيَنَّكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً تقولون قُتِل أميرالمؤمنين، ألا لا تَقْتُلنَّ بي إلاّ قاتلي، انظروا إذا أنا مِتُّ من ضربته هذه فاضربوه ضربةً بضربة، ولا يُمثَّل بالرجل، فإنّي سمعت رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلم) يقول: إيّاكم والمُثلة ولو بالكلب العقور». فأمير المؤمنين (عليه السلام) العارف باللّه صاحب القلب الإلهي الرؤوف كان يخاف من أن يهجم الناس على ذلك الرجل الخبيث ويقطّعوه إرباً إرباً ويمثّلوا به.

كانت تلك آخر وصايا أميرالمؤمنين (عليه السلام) وإنّنا مخاطبون بها، فيجب علينا أخذها والعمل بمضامينها. ولا أدري كم عدد الساعات التي عاشها أميرالمؤمنين بعد أن أنهى وصيّته.

انّ شوارع الكوفة وأزقّتها ومسجدها كانت مملوءة بكلمات وحِكَم هذا الرجل العظيم وينبوع الحكمة المتدفِّق. وتختزن ذكرياته في قلبها وأسماعها، وقد سُلبت تلك النعمة الإلهية من يد الأمة. في مثل ليلة البارحة، وهناك عبارة أخرى في نهج البلاغة قالها لولده الحسن (عليه السلام) وأودّ أن أذكرها هنا في يوم عزاء أميرالمؤمنين (عليه السلام) لعلّ عيونكم تبتل بالدموع لمصاب هذا الإنسان العظيم، يقول (عليه السلام): «ملكتني عيني وأنا جالس، فسنح لي رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلم) فقلت يا رسـول اللّه مـاذا لقـيت مـن أمّتك مـن الأود واللّدد»، لاحظوا علياً (عليه السلام) يقف أمام رسول اللّه كما يقف الابن بين يدي أبيه، فهو (عليه السلام) نشأ وترعرع في حجر رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلم).

كان النبي بمنزلة أبيه في كلّ أدوار حياته، والآن هو شيخ بلغ الثالثة والستّين من عمره حينما يرى رسول اللّه في المنام يخامره نفس إحساس الطفولة أمام النبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلم)، فيشكو له كما يشكو الطفل لأبيه فيقول: «ماذا لقيت من أمّتك من الأود واللدد، فقال: ادعُ عليهم، فقلت: أبدَلني اللّه بهم خيراً منهم وأبدلهم بي شرّاً لهم مني» يعني: يقول اللّهم عجّل في منيّتي، وقد اُجِيبت تلك الدعوة.

ففي مثل ليلة البارحة أحاط الأصحاب ببيت عليّ (عليه السلام) ويُروى انّ الأيتام جاءوا (وإن كنت لم أرَ هذه الرواية) وأحاطوا بالبيت وبيد كل واحدٍ منم كأس من لبن، لأنهم سمعوا بأنّ أميرالمؤمنين (عليه السلام) كان قد طلب لبناً ليشربه، وعلى الرغم من عدم ذكر هذه الحادثة في الكتب التاريخية إلاّ انّها قد تكون محتملة الصحة. لكن المسلّم به تاريخياً أن بيت عليّ اُحيط بعشّاق عليّ ومحبّيه وهم يبكون وينحبون، ثمّ خرج الإمام الحسن (عليه السلام) وقال للناس: إنّ حال أبي ليست على ما يرام فتفرّقوا، فتفرَّق الناس، وقد أوصى أميرالمؤمنين (عليه السلام) أن يُغسَّل بدنه الطاهر ويدفن ليلاً، ويبدو كأنّ هذه المسألة أصبحت سنّة عند أهل البيت (بكاء القائد) فكما غُسِّلت فاطمة وكُفِّنت ودُفِنت ليلاً، فأميرالمؤمنين أيضاً غُسِّّل وكُفِّن ودُفن ليلاً لأنّه لم يكن مُستبعد من اُولئك الذين سبّوا علياً سنوات طويلة على منابر المسلمين أن يقوموا بنبش قبره (عليه السلام) إذا علموه موضعه، ويهينوا بدنه الطاهر، وقد كان أميرالمؤمنين يعرف ذلك ببعد نظره.

وعندما تناصف الليل أخذوا الجسد الطاهر ودفنوه ورجعوا، ولم يكن المشيّعيون سوى أولاد علي (عليه السلام) وبعض خواص أصحابه. وقد فكّرت في مظلومية الإمام (عليه السلام) في ذلك التشييع المظلوم والدفن البعيد عن أنظار الناس وفي بيت الإمام المظلم، وفي هذه الأيام الصعبة التي مرّت على أهل البيت، فلا أظنّ أنّها مرّت على أحد أصعب كما مرّت على زينب (عليه السلام)، فقد شاهدت اُمّها وهي تدفن ليلاً، ورأت أباها يدفن ليلاً كالليلة الماضية.

الاقتداء بأمير المؤمنين (عليه السلام)

إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) حقيقة مذهلة، والإشكال في المسألة يبدأ من أننا وإيّاكم نُعد من شيعة علي بن أبي طالب، وعلينا أن نقتدي به، فلو جهلنا شيئاً من أبعاد شخصيته فسيحدث خلل في هويتنا. فأحياناً لا يدعي الإنسان شيئاً، إلاّ أننا ندعي ذلك الشيء ونريد أن نكون علويين. فنحن الشيعة في الدرجة الاُولى والمسلمون من غير الشيعة في الدرجة الثانية نواجه هذه المشكلة، طبعاً جميع المسلمين يقرّون بأمير المؤمنين (عليه السلام)، غير أنّ الشيعة ينظرون إلى هذا الرجل الشامخ ويعرفونه بكيفية وعظمة خاصتين.

أمّا الخصوصية التي بدت لي واُحاول اليوم أن أتحدث قليلاً حولها بشأن أمير المؤمنين (عليه السلام)، وإن اتسع الوقت فسأذكر خصوصية اُخرى أيضاً، فهي عبارة عن شجاعة أمير المؤمنين (عليه السلام). فالشجاعة صفة عظيمة ومؤثرة، وأثر الشجاعة في ساحة القتال.

كان أمير المؤمنين (عليه السلام) من أشجع الشجعان في ساحة الحرب، فلم يولِّ العدو ظهره أبداً وليس هذا بالقليل، فقصته في حرب الخندق معلومة حيث تقدم عندما تخاذل الجميع، كذلك قصته في فتح خيبر، وفي وقعة بدر واُحد وحُنين، وكل واحدة من هذه الوقائع لو نظرتم إليها تجدون أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ وله من العمر في بعضها 24 سنة وفي بعضها 25 سنة، وفي بعض المواطن 30 سنة ـ قد نصر الإسلام وهو شاب لم يتجاوز العقد الثالث بشجاعته في ميادين القتال وخلق تلك الأعاجيب، وهذا يختص بالحرب.

ولكنني أقول: يا عليَّ الكبير، يا حبيب اللّه إنّ شجاعتك في ميادين الحياة أكثر بكثير من شجاعتك في ساحة الحرب، وذلك منذ صغرك فقضية السبق إلى الإسلام ـ التي ذكرتها ـ والتي لبّيت فيها الدعوة حين رفضها الجميع ولم يجرؤ أحد منهم، فهذه شجاعة. طبعاً خذوا بنظر الاعتبار حادثة كهذه حيث يمكن أن تكون مثالاً من أبعاد مختلفة لخصوصيات مختلفة، إلاّ أننا الآن ننظر إليها من زاوية شجاعة هذا العمل.

لعلّنا لا نستطيع العثور بين الوجوه المعروفة في العالم، وعلى الأخص بين الشخصيات الإسلامية على شخصية محبوبة لدى الشعوب وأتباع الأديان المختلفة وعلى مر العصور كشخصية أميرالمؤمنين(عليه الصلاة والسلام) ولا حتى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه؛ فحينما تنظرون تجدون حتى وفي ذلك الزمان الذي أوجد سيف عدالته الصارم في القلوب المتمردة والأرواح الأنانية البغض له، وأدى إلى تأليب جبهة واسعة من الخصوم ضده، تجدون خصومه حينما كانوا يراجعون أعماق نفوسهم يشعرون ازاء شخصيته بعقيدة مقرونة بالاجلال والتكريم والمحبّة. واستمرت هذه الحالة حتى في العصور اللاحقة.

كان علي (عليه الصلاة والسلام) أكثر الناس أعداءً، إلاّ انه كان في نفس الوقت أكثر من حاز على الثناء حتى ممّن لا يؤمنون بدينه ومنهجه.

كان آل الزبير في القرن الأول الهجري معروفين على الغالب باظهار البغض والعداء لبني هاشم ولآل علي على وجه الخصوص. وكان مصدر هذا العداء في الغالب هو عبداللّه بن الزبير.

سأل أحد أحفاد الزبير أباه، ما لعلي وآله يلهج الناس بأسمائهم ويعلو ذكرهم كل يوم؛ فيما لا يلقى أعداؤهم غير الافول والزوال السريع مع كل ما يحيطون به أنفسهم من دعايات؟ فقال له ـ ما يقارب هذا المضمون ـ إنّهم دَعوا إلى اللّه وإلى الحق، فلم يستطع أحد اخفاء فضلهم، لكن أعداءهم دعوا إلى الباطل.

وهكذا كان الحال على مر الزمن، أي ان المفكرين الكبار ـ من مسلمين وغير مسلمين ـ يعلنون اجلالهم لأميرالمؤمنين (عليه السلام). إذا نظرتم إلى الأبطال العظام الذين سعوا وقاموا لأجل شعوبهم، تلاحظون أنّ اسم أميرالمؤمنين (عليه السلام) مبجّل ومكرّم لديهم. وإذا نظرتم إلى الشعراء والاُدباء والفنانين ومن يضمرون المحبة لبني الإنسان تجدونهم أيضاً يكرمون اسم أميرالمؤمنين (عليه السلام). وخلاصة القول هي أنّ كل من يدرس تاريخ الإسلام ـ شابّاً كان أو شيخاً، عالماً كان أو من العامة ـ وتناهى إلى سمعه اسم وأخبار أميرالمؤمنين (عليه السلام)، فهو يشعر ازاءه بالمحبة والتعطّش والولاء.

***************

عِلمُ الحِساب عند الإمام علي (عليه السلام)

2007-08-18

 بقلم: أحمد محمد جواد محسن

مقدمة

ليس غريباً أن يكون الإمام علي، عالماً متمكناً في العلوم الفقهية واللغوية وأوليات علم الحساب التي تخص عمليات توزيع الإرث وتحصيل الزكاة وحل بعض المسائل الحسابية المتضمنة كسوراً، وهو الذي تربى في أحضان النبوة ونهل علمه منها، حيث يقول الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وآله): " أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأت بابه " [1]. وفي هذا المقام يقول عباس محمود العقاد: فقلَّ أن سمعنا بعلم من العلوم الإسلامية أو العلوم القديمة لم ينسب إليه (أي للإمام علي)، وقَلّ أن تحدث الناس بفضل لم ينحلوه إياه، وقلّ أن يوجه الثناء بالعلم إلى أحد من الأوائل إلاّ كانت له مساهمة فيه [2]. ويقول أيضاً: تبقى له (للإمام علي) الهداية الأولى في التوحيد الإسلامي والقضاء الإسلامي والفقه الإسلامي، وعلم النحو العربي وفن الكتابة العربية. مما يجوز لنا أن نسميه أساساً صالحاً لموسوعة المعارف الإسلامية في العصور أو يجوز لنا أن نسميه موسوعة المعارف الإسلامية كلها في الصدر الأول في الإسلام. وتبقى له مع هذا فرائد الحكمة التي تسجل له في ثقافة الأمة الإسلامية على تباين العصور [3]. وهنا نحب أن نشير أنه حتى أبي العلاء المعري يقول عن الإمام علي (عليه السلام) [4]:

وعلى الأفق في دماء الشهيد      ين علي ونجله شاهدان

فهما في أواخر الزمان فجرا     ن وفي أولياته شفقان

وإضافة إلى ما يمتلكه الإمام علي (عليه السلام) من علم ونفاذ بصيرته فإنه ما فتئ يحثّ على طلب العلم ويذكر أهميته فيقول على سبيل المثال: تعلّم العلم فإنه إن كنت غنياً زانك، وإن كنت فقيراً صانك. ثروة العلم تنجي وتبقي، وثروة المال تهلك وتفنى. ثروة العاقل في علمه وثروة الجاهل في ماله. ويقول أيضاً: كل وعاء يضيق بما جعل فيه إلاّ وعاء العلم فإنه يتسع به [5].

وسنحاول في هذه الدراسة أن نبين مآثر الإمام علي (عليه السلام) وبراعته في علم الحساب من خلال النظر في ثلاثة أعمال هامة له وهي:

نهج البلاغة، والمسائل الحسابية التي حلها بسرعة ودقة تامة، والشعر المنسوب إليه.

 أولاً ـ نهج البلاغة:

إن خطب الإمام ورسائله ووصاياه التي وردت في نهج البلاغة تعجّ بمفاهيم حسابية كالأعداد والكسور ووحدات قياس الطول وتعبيرات رياضية، وفيما يلي بعضاً منها:

الأعداد:

لقد وردت الأعداد صغيرها وكبيرها كثيراً في نهج البلاغة، فقد ذكر الإمام علي (عليه السلام) على سبيل المثال:

الأول: في وصية له لابنه الحسن فيقول: أي بني ! إني وإن لم أكن عمّرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم، وفكّرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم، حتى عدت كأحدهم، بل كأني بما انتهى إليّ من أمورهم قد عمّرت مع أولهم إلى آخرهم [6].

و ذكر الواحد والاثنين في وصية له (عليه السلام)، وصّى بها جيشا بعثه إلى العدو بقوله: ولتكن مقاتلتكم من وجه واحد أو اثنين، واجعلوا لكم رقباء في صياصي الجبال، ومناكب الهضاب، لئلاّ يأتيكم العدو من مكان مخافة أو أمن [7].

و ذكر الثلاثة والاثنتين في كلام له في توبيخ أصحابه على التباطؤ على نصرة الحق: ياأهل الكوفة ! منيت بكم بثلاثة واثنتين: صم ذوو أسماع، وبكم ذوو كلام، وعمي ذوو أبصار، لا أحرار صدق عند اللقاء، ولا إخوان ثقة عند البلاء، تربت أيديكم [8].

و قال (عليه السلام) وهو يذكر الرقم أربعة: من أعطي أربعاً لم يحرم أربعا: من أعطي الدعاء لم يحرم الإجابة، ومن أعطي التوبة لم يحرم القبول، ومن أعطي الاستغفار لم يحرم المغفرة، ومن أعطي الشكر لم يحرم الزيادة [9].

و في الرقم خمسة قال (عليه السلام): أوصيكم بخمس لو ضربتم إليها آباط الإبل لكانت لذلك أهلا: لا يرجون أحد منكم إلاّ ربه، ولا يخافن إلاّ ذنبه، ولا يستحين أحد منكم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول " لا أعلم "، ولا يستحين أحدا إذا لم يعلم الشيء أن يتعلمه، وعليكم بالصبر فإن الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، ولا خير في جسد لا رأس معه، ولا في إيمان لا صبر معه [10].

و السبعة ذكرها في كلام له في التبرؤ من الظلم: واللّه لو أعطيت الأقاليم السبعة، بما تحت أفلاكها على أن أعصي اللّه في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت [11].

و من العشرات ورد الرقم عشرة في قوله لما عزم على حرب الخوارج: مصارعهم دون النطفة ! واللّه لا يفلت منهم عشرة، ولا يهلك منكم عشرة [12].

و قد ورد أيضا ذكر العشرين والستين في خطبته وهو يحثّ على الجهاد ويذمّ القاعدين: للّه أبوهم !! وهل أحد منهم أشد لها مراسا وأقدم فيها مقاما مني ؟ لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، وها أنا ذا قد ذرفت على الستين، ولكن لا رأي لمن لا يطاع [13].

و من المئات ذكر المائة في خطبة له، يقول: لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة إلاّ أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها [14].

و من الاُلوف ذكر الألف بقوله: اللّهم مث قلوبهم كما يماث الملح في الماء ! أما واللّه لوددت أن لي بكم ألف فارس من بني فراس بن غنم [15].

و ذكر القرن (وهو مائة عام) في خطبة الأشباح بقوله: ولم يخلهم بعد أن قبضه مما يؤكد عليهم حجة ربوبيته، ويصل بينهم وبين معرفته، بل تعاهدهم بالحجج على ألسن الخيرة من أنبيائه ومتحملي ودائع رسالاته، قرنا فقرنا، حتى تمت بنبينا محمد (صلى الله عليه وآله) حجته، وبلغ المقطع عذره ونذره [16].

الكسور:

والكسور هنا كالخمس والثلث والنصف، الخ... فمثلاً جاء ذكر الخمس في قوله: إن القرآن أنزل على النبي (صلى الله عليه وآله) والأموال أربعة: أموال المسلمين فقسمها بين الورثة في الفرائض، والفئ فقسمه على مستحقيه، والخمس فوضعه اللّه حيث وضعه، والصدقات فجعلها اللّه حيث جعلها[17].

و قد ورد ذكر الثلث في كتاب له إلى أمراء البلاد في معنى الصلاة، بقوله: وصلوا بهم العشاء حيث يتوارى الشفق إلى ثلث الليل [18].

و جاء ذكر الكسر تسعة أعشار بقوله: بلادكم أنتن بلاد اللّه أقربها من الماء وأبعدها من السماء، وبها تسعة أعشار الشر [19]. والنصف جاء في قوله (عليه السلام): الهمّ نصف الهرم [20].

وحدات قياس الطول:

و تقيس هذه الوحدات الأبعاد الصغيرة، كالإصبع والشبر والباع الخ، كما تقيس الأبعاد الكبيرة كالفرسخ مثلاً.

فقد ورد الإصبع في جواب له عندما سئل (عليه السلام) عما بين الحق والباطل. فقال: مسافة أربع أصابع. الحق أن تقول: رأيت بعيني، والباطل أن تقول: سمعت بأذني [21]. والشبر جاء ذكره في كتاب له إلى عثمان بن حنيف الأنصاري، عامله على البصرة، بقوله: فو اللّه ما كنزت في دنياكم تبرا، ولا ادخرت من غنائمها وفرا، ولا أعددت لبالي ثوبي طمرا، ولا حزت من أرضها شبرا [22].

و الشبر كما جاء في لسان العرب هو ما بين أعلى الإبهام وأعلى الخنصر [23] (إذا فتحتهما).

كما ذكر الفرسخ في كتاب له إلى أمراء البلاد في معنى الصلاة بقوله: وصلّوا بهم العصر والشمس بيضاء حية في عضو من النهار، حين يسار فيها فرسخان [24].

و الفرسخ كلمة فارسية ويقول عنها ابن منظور في لسان العرب: إن الفرسخ: السكون من المسافة المعلومة في الأرض مأخوذ منه. والفرسخ ثلاثة أميال أو ستة، سمي بذلك لأن صاحبه إذا مشى قعد واستراح من ذلك كأنه سكن. وهو واحد الفراسخ، فارسي معرب والفرسخ ساعة من النهار [25]. والفرسخ يساوي ثلاثة أميال أو ستة آلاف متر [26].

تعبيرات متصلة بالرياضيات:

ورد العديد من المصطلحات والتعبيرات تتصل بالرياضيات في خطب الإمام وكلامه. كالطول والعرض والعدد والقسمة والمضاعف والذرّة والنهاية والإحصاء والبرهان والفئة والمسافة والحساب وغيرها.

و سنذكر بعضاً منها. ففي كلام للإمام يوصي فيه أصحابه، ذكر فيه تعبيرات مثل: الطول، أطول، أعرض، أعلى، حيث يقول: والجبال ذات الطول المنصوبة، فلا أطول، ولا أعرض، ولا أعلى ولا أعظم منها، ولو امتنع شيء بطول، أو عرض، أو قوة أو عز لامتنعن [27].

و ورد تعبير القسمة في مواضيع كثيرة، مثلا جاء في خطبة له في صفة خلق بعض الحيوانات: وأنشأ السحاب الثقال فأهطل ديمها وعدّد قسمها، فبلّ الأرض بعد جفوفها. وأخرج نبتها بعد جدوبها. وهنا تعديد القسم إحصاء ما قدر منها لكل بقعة [28].

و جاء ذكر المضاعف بأشكال مختلفة كالمضاعفات، وأضعاف، ومضاعفة، ومضاعف الخ. ففي خطبة له بصفّين يقول: ولكنه جعل حقه على العباد أن يطيعوه، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب، تفضلاً منه وتوسعا بما هو من المزيد أهله [29]. والذرّة ذكرها في خطبة الأشباح بقوله: ورجع كل كلمة، وتحريك كل شفة، ومستقر كل نسمة ومثقال كل ذرّة، وهماهم كل نفس هامّة [30]. كما ذكر النهاية في خطبة له حول صفة خلق بعض الحيوانات بقوله: وإليها حاكمها ليس بذي كبر امتدت به النهايات فكبرته تجسيما، ولا بذي عظم تناهت به الغايات فعظّمته تجسيدا، بل كبر شأنا، وعظم سلطانا [31].

و بمقابل النهاية ذكر اللانهاية، وهذه تأتي بمعان عديدة مثلا، بلا عدد، لا يحصى، التعداد الكثير، الأزل الخ. فقد ورد تعبير لا بعدد في الخطبة السابقة بقوله: مستشهد الأشياء على أزليته، وبما وسمها به من العجز على قدرته، وبما اضطرها إليه من الفناء على دوامه، واحد لا بعدد، ودائم لا بأمد وقائم لا بعمد [32].

و جاء تعبير لا يحصى في كلامه لمّا عزم على لقاء القوم بصفّين: ورب هذه الأرض التي جعلتها قرارا للأنام، ومدرجا للهوام والأنعام، وما يحصى مما يرى وما لا يرى [33].

أما التعداد الكثير الذي يعنى اللانهاية، فقد جاء ذكره في خطبة الأشباح أيضاً بقوله: اللّهم ! أنت أهل الوصف الجميل، والتعداد الكثير، إن تؤمل فخير مؤمل، وإن ترج فأكرم مرجو [34].

ثانياً ـ مسائل حسابية:

من الأدلة الاُخرى على عبقرية الإمام علي (عليه السلام)، هي حله لمسائل حسابية معقدة بسرعة ودقة... ولا عجب في ذلك فهو الذي يقول على ملأ من الناس: " سلوني قبل أن تفقدوني " [35]. وفي هذا المقام يقول عباس محمود العقاد عن الإمام (عليه السلام): وفي أخباره، مما يدل على علمه بأدوات الفقه كعلمه بنصوصه وأحكامه. ومن هذه الأدوات علم الحساب الذي كانت معرفته به أكثر من معرفة فقيه يتصرف في معضلة المواريث، لأنه كان سريع الفطنة إلى حيله التي كانت تعدّ في ذلك الزمن ألغازاً تكدّ في حلها العقول [36]. وسنذكر بعض المسائل المشهورة التي قام بحلها، مما يدل على تضلعه بعلم الحساب آنذاك.

و من هذه المسائل المسألة المنبرية والمسألة الدينارية وقصة الأرغفة وغيرها.

المسألة المنبرية:

و خلاصة هذه المسألة [37] أن الإمام عليّاً (عليه السلام) سُئل وهو على المنبر عن ميّت ترك بنتين وأبوين وزوجة، فأجاب من فوره: صار ثمنها تسعا. وسميت هذه المسألة بالمسألة المنبرية لأنه أفتى بها وهو على منبر الكوفة.

و الفريضة هنا (أي المال الذي تركه الميت) هي أربعة وعشرون، للزوجة ثمنها (أي ثلاثة) وللأبوين ثلثها (أي ثمانية) وللبنتين الثلثان (أي ستة عشر). فضاق المال عن السهام (أي نقص المال عن الحصص المفروضة)، لأن الثلث والثلثين تم بهما المال فمن أين يؤخذ الثمن. فإذا جمعنا الثلاثة والثمانية وأنقصناها من المال لكان الباقي ثلاثة عشر للبنتين نقص من سهمهما ثلاثة. ويبدو أن ثمة حلين لهذه المسألة. وهي إما استخدام العول أو عدم استخدامه. (والعول هنا كما جاء في مختار الصحاح. عالت الفريضة، ارتفعت وهو أن تزيد سهاما فيدخل النقصان على أهل الفرائض) [38].

فالعول هو إدخال النقص عند ضيق المال عن السهام المفروضة على جميع الورثة بنسبة سهامهم. لهذا فإن النقص هنا هو ثلاثة فيدخل على الجميع فيزاد على الأربعة والعشرين ثلاثة تصير سبعة وعشرين للزوجة منها ثلاثة وللأبوين ثمانية وللبنتين ستة عشر. والثلاثة هي تسع السبع والعشرين، فهذا معنى قوله صار ثمنها تسعا. وإما من نفى العول قال أن النقص يدخل على البنتين [39].

المسألة الدينارية:

يقال: إن امرأة جاءت إلى الإمام، وشكت إليه أن أخاها مات عن ستمائة دينار، ولم يقسم لها من ميراثه غير دينار واحد. فقال لها: لعله ترك زوجة وابنتين وأماً واثني عشر أخا وأنت ؟ فكان كما قال. وهنا تتجلى قوة علمه وحدسه فبمجرد أن علم بحصتها فقد استنتج عدد أفراد العائلة، وليس فقط ذلك، بل العلاقة فيما بينهم وجنسهم وحصة كل منهم. حيث أن هذه المرأة كانت تتوقع أن أخاها قد ظلمها لذا طلبت الإنصاف وأخذ حقها. لذلك قال لها خلّف أخوك بنتين لهما الثلثان أربعمائة (أي ثلثي الستمائة هو أربعمائة). وخلّف أُماً لها السدس، مائة (أي سدسي الستمائة هو مائة)، وخلّف زوجة لها الثمن، خمسة وسبعون (أي ثمن الستمائة هو خمسة وسبعون). وخلّف معك اثني عشر أخاً لكلِّ أخ ديناران ولكِ دينار قالت نعم. فلذلك سُميت هذه المسألة بالدينارية [40]. ولذلك لو جمعنا هذه الحصص لكان مجموعها ستمائة وهو المبلغ الأصلي.

قصة الأرغفة:

جلس رجلان يتغذيان، مع أحدهما خمسة أرغفة ومع الآخر ثلاثة أرغفة، فلما وضعا الغذاء، بين أيديهما مر بهما رجل، فجلس وأكل معهما واستوفوا في أكلهم الأرغفة الثمانية، فقام الرجل وطرح إليهما ثمانية دراهم، فتنازعا بينهما وارتفعا إلى الإمام علي (عليه السلام) فقصّا عليه قصتهما، فحكم لصاحب الثلاثة أرغفة درهماً واحداً، ولصاحب الخمسة أرغفة سبعة دراهم، لأن الأرغفة الثمانية أربعة وعشرون ثلثاً، لصاحب الثلاثة أرغفة منها تسعة أثلاث (لأن له ثلاثة أرغفة وكل رغيف ثلاثة أثلاث فيكون المجموع تسعة أثلاث)، أكل منها ثمانية (لأن هناك أربعة وعشرين ثلثاً أكلها الثلاثة بالتساوي فكل واحد منهما أكل ثمانية) وأكل الضيف واحداً منها، ولصاحب الخمسة أرغفة منها خمسة عشر ثلثاً (لأن له خمسة أرغفة وكل رغيف ثلاثة أثلاث فيكون المجموع خمسة عشر ثلثا) أكل منها ثمانية وأكل الضيف سبعة [41]. أي أن كلاًّ من الثلاثة أكل ثمانية أثلاث. فالأول أعطى للضيف ثلثا واحدا والثاني أعطاه سبعة أثلاث (والمجموع ثمانية أثلاث). وبما أن الضيف قد دفع لهم ثمانية دراهم، أي قيمة كل ثلث هو درهم واحد، وأنه قد أكل ثلثا واحدا من الشخص الأول، لذا تكون حصة هذا الشخص درهما واحدا. وكذلك أكل من الثاني سبعة أثلاث لذا تكون حصته سبعة دراهم.

مسألة التي ولدت لستة أشهر:

روي أن عمر أتي بامرأة قد ولدت لستة أشهر فهمّ برجمها فقال له الإمام علي (عليه السلام): إن خاصمتك بكتاب اللّه خصمتك إن اللّه تعالى يقول: { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } ويقول جلّ تعالى: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } فإذا كانت مدة الرضاعة حولين كاملين (أي أربعة وعشرين شهرا) وكان حمله وفصاله ثلاثين شهرا، فالحمل فيها ستة أشهر، فخلّى عمر سبيل المرأة وثبت الحكم لذلك فعمل به الصحابة والتابعون ومن أخذ عنهم إلى يومنا هذا [42].

قصة الزُبية:

يقال: إنه رُفع للإمام علي (عليه السلام) وهو باليمن زُبية (وهي حفرة تحفر للأسد سميت بذلك لأنهم كانوا يحفرونها في موضع عال) حفرت للأسد فوقع فيها، فوقف على شفير الزبية رجل فزلت قدمه فتعلق بآخر وتعلق الآخر بثالث وتعلق الثالث برابع فافترسهم الأسد. فقضى (الإمام) أن الأول فريسة الأسد وعلى أهله ثلث الدية للثاني، وعلى أهل الثاني ثلثا الدية للثالث، وعلى أهل الثالث الدية الكاملة للرابع. فبلغ ذلك رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فقال: لقد قضى أبو الحسن فيهم بقضاء اللّه عَزَّ وجَلَّ فوق عرشه.

ورويت هذه الحادثة بصور اُخرى وهي أن الزبية لما وقع فيها الأسد أصبح الناس ينظرون إليه ويتزاحمون ويتدافعون حول الزبية فسقط فيها رجل وتعلق بالذي يليه وتعلق الآخر بالآخر حتى وقع فيها أربعة فقتلهم الأسد. فأمرهم أميرالمؤمنين (عليه السلام) أن يجمعوا ديّة تامة من القبائل الذين شهدوا الزبية ونصف دية وثلث دية وربع دية، فأعطى أهل الأول ربع دية من أجل أنه هلك فوقه ثلاثة، وأعطى أهل الثاني ثلث الدية من أجل أنه هلك فوقه اثنان وأعطى أهل الثالث النصف من أجل أنه هلك فوقه واحد، وأعطى أهل الرابع الديّة تامة لأنه لم يهلك فوقه أحد فأخبروا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فقال: هو كما قضى.

والظاهر أنهما واقعتان، ففي الرواية الاُولى أن الأول زلّت قدمه فوقع ولم يرمه أحد، وفي الرواية الثانية أن المجتمعين تزاحموا وتدافعوا فيكون سقوط الأول بسببهم ولذلك اختلف الحكم فيها [43].

ثلاثة رجال يختصمون:

عن شرح بديعة بن المقري أنه جاء إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ثلاثة رجال يختصمون في سبعة عشر بعيراً. أولهم يدعي نصفها وثانيهم ثلثها، وثالثهم تُسعها. فاحتاروا في قسمتها، لأن في ذلك سيكون كسراً (أي جزء من بعير). فقال (عليه السلام): أترضون أن أضع بعيراً مني فوقها وأقسّمها بينكم، قالوا: نعم، فوضع (عليه السلام) بعيراً بين الجمال، فصارت ثمانية عشر، فأعطى الأول نصفها وهو تسعة، وأعطى الثاني ثلثها وهو ستة، وأعطى الثالث تسعها وهو اثنان وبقي بعير له [44].

ثالثاً ـ الشعر المنسوب للإمام (عليه السلام):

وردت تعبيرات تخص الحساب، كالأعداد والكسور وغيرها في الشعر المنسوب للإمام (عليه السلام)، سنذكر بعضاً منها: فقد جاء ذكر الألف في شعر له [45]، حيث يقول:

عليك بإخوان الصفاء، فإنهم       عماد إذا استنجدتهم وظهور

وليس كثيراً ألف خل وصاحب     وإن عدوا واحدا لكثير

كما ذكر العدد سبعين ألفا في شعر له أيضا [46]:

لأصبحن العاصي ابن العاصي     سبعين ألفا عاقدي النواصي

مجنبين الخيل بالقلاص     مستحلقين حلق ألدلاص

و في حسبة العمر يقول [47]، وقد ذكر العدد ستين والنصف والثلث:

إذا عاش الفتى ستين عاما             فنصف العمر تمحقه الليالي

و نصف النصف يذهب ليس يدري       لغفلته يمينا من شمال

و ثلث النصف آمال وحرص       وشغل بالمكاسب والعيال

فحب المرء طول العمر جهل       وقسمته على هذا المنال

 الخاتمة:

في ضوء إجابات المسائل السابقة وغيرها، برهان ساطع على علم الإمام المحيط وحضوره لديه فيما يجعله حجة على الخلق في جميع العلوم والفنون، خصوصاً إذا قسنا ذلك إلى عصر الإمام والثقافة العلمية المحدودة لناس آنذاك، وفي ذلك يقول عباس محمود العقاد: ولكن هذه الفنون من الثقافة ـ أو جلها ـ إنما تعظم بالقياس إلى عصرها والجهود التي بذلت في بدايتها [48].

و يقول أيضاً: وخلاصة ذلك كله أن ثقافة الإمام (عليه السلام) هي ثقافة العلم المفرد والقمة العالية بين الجماهير في كل مقام. من ذلك يمكن القول إن الإمام (عليه السلام) يعد أول من عمل في علم المواريث، كما جاءت في القرآن الكريم، وأول من قام بحل المسائل الحسابية في صدر الإسلام، كما يعد أول من تمكن من الفكر الموسوعي الذي يجمع أكبر عدد من فروع المعرفة المختلفة. ولكن من الغريب، ـ حسب ما لاحظنا ـ أن غالبية كتب تاريخ الرياضيات لم تذكر ذلك، وهذا أمر يوسف له، لذلك لابد من إجراء المزيد من البحوث والدراسات لهذه الحقبة الهامة من التاريخ الإسلامي.

______________________________

[1] عز الدين ابن الأثير الجوزي (1994) " أسد الغابة في معرفة الصحابة " تحقيق علي محمد عوض، دار الكتب العلمية، بيروت: 4 / 95.

[2] عباس محمود العقاد (1967) " عبقرية الإمام علي " دار الكتاب العربي، بيروت: 190.

[3] المصدر السابق: 194.

[4] المصدر السابق: 6.

[5] علي بن أبي طالب (1993) " نهج البلاغة "، شرح محمد عبده: 4، مؤسسة الأعلمي بيروت: 671.

[6] نهج البلاغة، مصدر سابق: 529.

[7] نهج البلاغة: 501.

[8] نهج البلاغة: 217.

[9] نهج البلاغة: 657.

[10] نهج البلاغة: 643.

[11] نهج البلاغة: 468.

[12] نهج البلاغة: 132.

[13] نهج البلاغة: 92.

[14] نهج البلاغة: 210.

[15] نهج البلاغة: 87.

[16] نهج البلاغة: 204.

[17] نهج البلاغة: 688.

[18] نهج البلاغة: 571.

[19] نهج البلاغة: 66.

[20] نهج البلاغة: 658.

[21] محسن الأمين (1947)، أعيان الشيعة 3، القسم الأول طبعة: 2، مطبعة الإتقان دمشق: 33.

[22] نهج البلاغة: 559.

[23] ابن منظور، لسان العرب 4، دار / ادر بيروت: 391.

[24] نهج البلاغة: 570.

[25] ابن منظور، لسان العرب: 3 / 44.

[26] جلال شوقي (1985) " من تراثنا المنظوم في الرياضيات "، المجلة العربية للعلوم، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس: 94.

[27] نهج البلاغة: 432.

[28] نهج البلاغة: 378.

[29] نهج البلاغة: 450.

[30] نهج البلاغة: 207.

[31] نهج البلاغة: 375.

[32] نهج البلاغة: 375.

[33] نهج البلاغة: 345.

[34] نهج البلاغة: 208.

[35] محسن الأمين، أعيان الشيعة، مصدر سابق: 33.

[36] عباس محمود العقاد، مصدر سابق: 196.

[37] محسن الأمين (1983) " أعيان الشيعة " المجلد الأول، دار التعارف، بيروت: 242.

[38] محمد بن أبي بكر الرازي (1984) " مختار الصحاح " مؤسسة علوم القرآن، دمشق: 463.

[39] عباس محمود العقاد، مصدر سابق: 196.

[40] محسن الأمين " أعيان الشيعة "، دار التعارف: 343.

[41] المصدر السابق: 343.

[42] المصدر السابق: 343.

[43] المصدر السابق: 411.

[44] حسين علي الشفائي (1990) " الحق المبين في قضاء أميرالمؤمنين " دار كرم، دمشق: 115.

[45] أحمد تيمور، مصدر سابق: 28.

[46] أحمد تيمور، مصدر سابق: 37.

[47] عبدالعزيز سيد الأهل (1980) " من الشعر المنسوب إلى الإمام الوصي علي بن أبي طالب "، طبعة: 2، دار / ادر، لبنان: 111.

[48] عباس محمود العقاد: 210

***************

المقام المعنوي لأمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام الإمام الخميني (قدس)

2007-08-18

إن كلامه (قدس سره) حول مقام الإمام علي (عليه السلام) غير محتاج إلى شرح وتعليق، بل هو بيان فصل ومعنى جامع، قلّما بلغ إلى ما قصده العظماء من أهل العلم، والأولون من أهل الفضل ويكفيك عبارته في مطلع وصفه للأمير (عليه السلام)، حيث يقول (قدس سره): "علي (عليه السلام) هو التجلي العظيم لله"[1].

ثم يتوجه (قدس سره) إلى الكشف عن الأبعاد الوجودية لأمير المؤمنين (عليه السلام)، قائلاً: "هذا العظيم يمتاز بشخصية ذات أبعاد كثيرة، ومظهر لاسم الجمع الإلهي الذي يحوي جميع الأسماء والصفات، فجميع الأسماء والصفات الإلهية في ظهورها وبروزها في الدنيا وفي العالم ظهرت في هذه الشخصية بواسطة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإن أبعاده الخفية هي أكثر من تلك الأبعاد الظاهرة، وإن نفس هذه الأبعاد التي توصل إليها البشر، ويتوصل إليها قد اجتمعت في رجل واحد، في شخصية واحدة جهات متناقضة ومتضادة.. يمتلك جميع الأوصاف وجميع الكمالات[2].. لم يكن حضرة الأمير (عليه السلام) من الجهة المعنية شخصاً مفرداً، بل كان كل العالم"[3].

بهذا الفهم البعيد في أعماقه والراقي في مبادئه بما يعطي لمقام الإمامة من جامعية وإحاطة أنكرها بعض الباحثين عن الحقيقية الذين لم يصلوا إلى ضالتهم اعتماداً على نظرتهم إلى الإمام (عليه السلام) باتجاه واحد وهو المقام الظاهري له، وهو ما دعاهم إلى الجرأة عليه في الماضي والحاضر مع إغفالهم لمقامه الباطني ومكانته المعنوية، وجهلهم بكل المقامات التي تحدّث عنها الإمام (قدس سره). فهل كانوا يفهمون عليً (عليه السلام) على أنه التجلي الإلهي العظيم أو أنه كل العالم يا ترى؟!

لهذا يظهر الإمام (قدس سره) تأسفه قائلاً: "يجب علينا أن نأسف لأن الأيدي الخائنة والحروب التي أشعلوها ومثيري الفتن لم يسمحوا لبروز الشخصية الفذة لهذا الرجل العظيم في أبعادها المختلفة[4]. فإذا كان الكثير من أبعاده الظاهرية خافياً عنا، فكيف بالأبعاد المعنوية التي لا ينال معرفة حقائقها أحد من العالمين كما جاء في الأحاديث الشريفة".

إن ما تقدم من البيان حول مقام مولى الموحدين وزوجه الصديقة الطاهرة (عليها السلام) كان نموذجاً للإطلالة على رؤية الإمام الخميني (قدس سره) لهم (صلوات الله عليهم) من جدهم إلى خاتمهم القائم المهدي (عجل الله فرجه)، وإنما كان التخصيص في الحديث عنهما (عليهما السلام) لأنهما الرأس في سلسلة دائرة العصمة والولاية المحمدية العلوية. كما يفهم من مجموع كلامه (قدس سره) بل من تصريحه ثوابت عديدة منها:

الولاية التكوينية:

يقول (قدس سره): "إن للإمام (عليه السلام) خلافة تكوينية تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون"[5].

ويقول أيضاً في حديث عن ولاية الأمير (عليه السلام): "إنه (عليه السلام) صاحب الولاية المطلقة الكلية، والولاية باطن الخلافة... فهو (عليه السلام) قائم على كل نفس بما كسبت ومع كل الأشياء"[6].

علم الكتاب:

يشير إلى ذلك في حديثه عن نزول الكتاب التكويني قائلاً: إن هذا الكتاب التكويني الإلهي وأولياءه الذين كلهم كتب سمائية نازلون من لدن حكيم عليم وحاملون للقرآن التدويني، لم يكن أحد حاملاً بظاهره وباطنه إلا هؤلاء الأولياء المرضيين كما ورد من طريقهم (عليهم السلام).

عن أبي عبد الله (عليه السلام): "وعندنا والله علم الكتاب كلّه"[7].

----------------------------- 

[1] تفسير آية البسلمة. ص31.

[2] منهجية الثورة الإسلامية. ص117.

[3] مجلة بقية الله. العدد 103. ص63.

[4] منهجية الثورة الإسلامية. ص116.

[5] الحكومة الإسلامية، ص52.

[6] مصباح الهداية. ص142.

[7] شرح دعاء السحر، ص71.

***************

سينما هوليود تعجز عن تمثيل دور الإمام علي (عليه السلام)

2007-08-18

منتديات البحرين

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأفضل الصلاة والسلام على أشرف الخلقِ وخاتم الأنبياءِ والمرسلين، سيدنا وحبيب قلوبنا أبو القاسم محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين، واللعنة الدائمة على أعدائهم إلى قيام يوم الدين.

ما إن تطرح سينما هوليود أفلامها الإستعراضية في صالات العرض، حتى تكتظ طوابير المشاهدين عند شبابيك التذاكر، وذلك لهفةً منهم لمشاهد فلم الإثارة الخيالي. فلعل أكثرنا قد تعلق قلبه بشخصيات تمثيلية لعبت دور البطولة في أفلامها، ولكن هل عشقنا نحن الممثلين أنفسهم ؟، فشخصية رامبوا مثلاً لاقت صدىً كبيراً في أوساط المراهقين، فقد عُجبنا بعضلاته المفتولة التي تمكن بها من أن يصرع الظلم، ولكننا كمسلمين لا نود سلفستر ستالون صاحب الدور نفسه، لأنه رجل فاسق ليس من ملتنا وهو مكبوب على وجهه في النار، قال تعالى: {ومَن يَبْتَغ غَيرَ الإسلام دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وهُوَ فى الاَخِرَةِ مِنَ الْخَسِرِينَ }، (85) من سورة آل عمران.

فمثلما يتتبع المشاهدون الفلم السينمائي المملوء بالإثارة في صالات العرض أمام شاشة السينما، حيث يُعرض فيه البطل الهمام وهو يتمكن من مواجهة المواقف الحرجة والصعبة بشجاعة عالية، كان حيينها الأدباء والكتاب والشعراء الغير مسلمين، الذين كتبوا في حق أمير المؤمنين موادهم الأدبية من دراسات وبحوث ومقالات وشعر وغبرها، يتفرجوا على فلم تاريخي عبر شاشة صفحات التاريخ لحياة مملوءة بالعناء قهرها البطل علي ابن أبي طالب، فجذبت أقلامهم أسطورة شجاعة ذلك الفتى الذي لم يتجاوز سن المراهقة وقد صرع فارس الجزيرة العربية عمرو بن عبد وِد العامري، وكيف بهذا القائد الذي فتك باليهود في حصنهم المنيع خيبر فقلع بابه الذي عجز الأربع والأربعين رجلاً من أن يزحزحوه، كما أعجبوا بقدرة ذلك العربي إبن أبي طالب الذي فاق أدبه الراقي وبلاغته المتناهية فصاحة أبلغ العرب عبر نتاجه الأدبي الثري الذي تركه. لقد سؤل الكاتب اللبناني المسيحي جورج جرداق صاحب سلسلة مجلدات تهتم بدراسة شخصية الإمام علي عليه السلام، في مقابلة أجريت معه في مارس 1998م في القسم العربي من الإذاعة البريطانية، عن عدم إعتناقه للإسلام بعد، مادام مقتنع من لشخصية الإمام علي ويكن له كل هذا الإحترام والتقدير ؟، فأجاب قائلاً : " لم أكتب عن علي من وازع ديني، فالكاتب المسلم حينما يكتب في علي سوف تعتريه العاطفة حتماً، لكني كوني مسيحياً كتبت عنه عن حقيقة لمستها عندما كنت أسلط الضوء على حياة العرب في عصر الدولة الإسلامية، فما إن بحثت عن أشجعهم وجدت مواقف علي الأقوى والأكثر وعندما تطرقت للأدب العربي في تلك الحقبة أي ما بعد العصر الجاهلي بدت بلاغة الإمام في خطبه المجمعة في كتاب نهج البلاغة تفوق فصاحة العرب في كل عصورهم، ثم تتبعت حكمه النزيه الراشد في حل القضايا المعقدة وقد برز الإمام راعٍ لحقوق الإنسان في عصره كحاكم..". كان الإعجاب حافزاً ليكتبوا في حقه الإمام لا أكثر، فبرغم من مجلدات الكاتب جورج جرداق التي تناولت دراسة حياة مفصلة عن الإمام علي (عليه السلام)، إلا أنه لم يتطرق للكتابة حول ورع الإمام وعلاقته بالله عزّ وجلّ، لقد أحب الكاتب المسيحي شخصية علي ابن أبي طالب المقاتل الجسور والأديب البليغ والحاكم النزيه دون أن يحب علي إبن أبي طالب الإمام الذي خصه البارئ عزّ وجلّ بمنزلة قدسية عالية فجعله خليفته في الأرض من بعد خاتم أنبيائه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

إن شيعة علي الذين يختلفون عن هؤلاء الكتاب الغير المسلمين في معرفته للإمام المعرفة الصحيحة، فهم جعلوا من الإعجاب بالشخصية إيماناً بها، فإن شجاعة الإمام ما كانت إلا جهاد في سبيل الله عزّ وجلّ، فهو الذي تريث في نحر عمرو بن عبد ود العامري في معركة الخندق عندما بصق في وجهه وشتمه، فصار الإمام يدور حوله مراراً وذلك لكي ينفذ الغضب الشخصي الذي تسبب فيه خصمه لشتمه إياه، وذلك حتى لا يقتله من دافع سب علي بل ليكون من دافع رفع راية الإسلام، فقتله لله عزّ وجلّ.

ما إن يلمع إسم أحد الممثلين أو الرياضيين أو الإعلاميين حتى تتهافت عليهم عروض الدعايات لتسويق البضائع والمستلزمات التجارية، وذلك لإدارك المسوقين التام في أن الجمهور يحب أن يقلد من يحب من المشاهير في كل شئ، حيث أنهم يتخذونهم أمثلة عليا لهم، مع أن هؤلاء ما هم إلا شخصيات إستهلاكية توجههم نحو المصلحة الخاصة بهم، حيث أن هدف المسوق تسويق البضاعة لكي تجني عليه بعائد بريع كبير. فلماذا لا يكون أمير المؤمنين (عليه السلام) هو القدوة الحسنة والمثل الأعلى الفعلي لنا كمسلمين، فالإمام سوق لنا الإسلام عبر سيرته الذاتية، وكانت مصلحته هداية البشرية بالمنهج الإسلامي القويم. فعلي أكبر شئناً من أن يكون لوحة مبروزة معلقة على جدران المساجد والمأتم الحسينية، وهو أيضاً أمراً يفوق أن يكون هتافاً تبح به حناجر المعزين في مواكب العزاء، إن إستيعاب مفهوم الإمام علي (عليه السلام) يتطلب منا مجهوداً عملياً وفكرياً نتوجه به نحو طاعة الله عزّ وجلّ والتشبع بتقواه، وهنالك إلتفاته جديرة بالذكر في هذا الصدد قرأتها في كتاب ( الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) قدوة وأسوة) للكاتب سماحة المرجع آية الله السيد محمد تقي المدرسي حفظه الله، [إذ تتجسد هذه الصلة في إنسان كامل لا يختلف في بشريته عن غيره، إلاّ انه حجة اللـه، الذي تجلت فيه رسالات الله، وصاغته بشراً كاملاً، ليكون قدوةً وإماماً.ولأن اخترعت البشرية التائهة أبطالاً باسم الجندي المجهول وفي صورة (سوبرمان) وأبطال وهميين، فان يد العناية الإلهية صاغت إنساناً من لحم ودم ولكنه كان رمز كل فضيلة، ودليل كل سمو، وليكون حجة الله على الإنسان لكي لا يبرر تقاعسه عن بلوغ المقام المحمود بضعفه البشري].

لو أن سينما هوليود الأمريكية إجتهدت في صناعة فلم يدور حول قصة حياة الإمام علي عليه السلام، فكم يا ترى سوف يستغرق مدة تصويره ؟، وكم سوف سيكون عائد ريع الفلم ؟، بالتأكيد تجنباً لعدم إمتعاض المشاهد وسرعة ممله سوف لن يطول مدة الفلم عن الساعتين، ولكن من خلال هذتين الساعتين سوف يجني المنتج أرباحاً عالية، حيث أن أمير المؤمنين جسد الإسلام الحق وكان القرآن الناطق والصراط المستقيم طيلة أكثر من ستين سنة فارقها وهو فقير شهيد مع أنه حاكم على بلاد المسلمين التي تقسمت اليوم إلى أكثر من خمسين دولة.

***************

ما أعظم أمير المؤمنين (عليه السلام) ...

2007-08-18 17:30:10

نزار حيدر

وأعظم ما فيه، صدقه في القول والعمل، وتطابق كلامه مع أفعاله، لم يأمر الناس بمعروف قبل أن يسبقهم إليه، ولم ينه رعيته عن خلق أو باطل قبل أن ينتهي عنه، كان لا يقول ما لا يفعل ويفعل ما لا يقول، ولذلك فهو قدوة وأسوة، ولا غرابة في ذلك، لأنه ربيب الصادق الأمين، الذي شهد له رب العزة والجلال بعظيم خلقه، فقال عنه في محكم كتابه الكريم ـ وانك لعلى خلق عظيم، وانه نفس رسول الله بنص الآية القرآنية الكريمة ـ فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم، فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين، وهو القائل يصف علاقته برسول الله ؛ ـ وقد علمتم موضعي من رسول الله بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسني جسده، ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشئ ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل، ولقد قرن الله به من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره، ولقد كنت اتبعه إتباع الفصيل اثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما ويأمرني بالإقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، واشم ريح النبوة.

انه النموذج الذي يجب أن نتلمس طريقه لبناء عراق جديد، يصون إنسانية المواطن، وكرامته وحريته وإرادته وحقوقه ورأيه.

إنه نهج الديمقراطية الذي تضرج بدمه شاهدا وشهيدا في محراب الكوفة في 19 رمضان سنة أربعين للهجرة النبوية الشريفة، ليكون أول ضحية للإرهاب والعنف والتعصب الأعمى، الذي لم يتسع للرأي الآخر.

لقد رفض الإمام علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ أن يكون سببا لتمزق الأمة وتشتت أمرها، فآثر الانسحاب من المشهد السياسي والسلطوي المباشر، عندما أحس بان إصراره على انتزاع حقه الطبيعي والشرعي في الخلافة بعد رسول الله ـ ص ـ سيؤجج نار الفتنة وربما الاقتتال الداخلي، فسكت عنه، مع علم الجميع بأحقيته وأفضليته في هذا الأمر، وهو القائل ؛ ـ أما والله لقد تقمصها فلان وانه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحا، ينحدر عني السيل، ولا يرقى إلي الطير، فسدلت دونها ثوبا، وطويت عنها كشحا،..... فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا، فلم يشأ أن يكون جزءا من المشكلة، بل كان الحل كله، مكتفيا بأداء دور الرقيب والناصح الأمين والمستشار المؤتمن، يبادر إلى مساءلة الحاكم كلما بدر منه خطأ، ويرفع صوته بوجه الباطل كلما هدد كيان الأمة، ويسارع إلى تقديم النصح والمشورة كلما طلب منه ذلك وهو القائل ؛ ـ لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري، ووالله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلا علي خاصة، إلتماسا لأجر ذلك وفضله، وزهدا فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه.

ولما عصفت الفتنة أخيرا بالأمة التي وصلت إلى طريق مسدود، لا تعرف كيف تهتدي إلى طريق الحق والصواب، انثالت على الإمام علي تطالبه بالتصدي لأمر الخلافة، باعتباره آخر الخيارات لحل الأزمة، والرجل الوحيد القادر آنئذ على أن يأخذ بيدها إلى جادة الأمان، بالإضافة إلى انه الخيار الوحيد الذي يمكن أن تجتمع عليه كل الأمة، إثر الزلزال السياسي الرهيب الذي ضربها، فرفض أولا هذا الأمر، ولم يبد تهالكا على السلطة، بل أبدى استعداده في أن يكون مواطنا عاديا في ظل الدولة الإسلامية، إذا كان ذلك أسلم له ولامته، وهو القائل؛ ـ دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمرا له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول، وإن الآفاق قد اغامت، والمحجة قد تنكرت، واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما اعلم، ولم أصغ إلى قول القائل، وعتب العاتب، وان تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزيرا،خير لكم مني أميرا.

كان يرى السلطة مسؤولية أولا وأخيرا، ملعون من يتصدى لها وفي الأمة من هو خير منه وأفضل وأجدر وانسب لها، ولا خير فيمن يتبوأ مقعدها، وهو يعلم مسبقا بأنه ليس مؤهل لها، ولا يمتلك ما يكفي من الكفاءة والقدرة والنزاهة، ليعطيها حقها، ولولا رغبة الرعية وإلحاحها، لما قبل بالموقع الذي سيزينه علي دون أن يضيف للإمام شئ يذكر، ودون أن يغير من شخصيته وأخلاقه قيد أنملة، وهو القائل؛ ـ أما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما اخذ الله على العلماء ألا يقاروا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه ازهد عندي من عفطة عنز.

فلم يكن ليجامل في السلطة، على حساب إقامة الحق ودحض الباطل، لا فرق عنده في ذلك، بين واحد وآخر، فكل الرعية سواسية عنده، وهو القائل؛ ـ الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه.

وعندما قبل أن يتولى السلطة، رفض أن تنتخبه زمرة أهل الحل والعقد فقط، بل طالب بان تجري البيعة عامة من كل الناس، وأمام الملأ في المسجد الجامع، وباختيارهم ومن دون تهديد أو إكراه، حتى لا يدبر أمر بليل، ولا يخطط للاستيلاء على السلطة في جنح الظلام، لأنه لم يشأ أن يكون زعيما للأقلية، أو أسيرا بيد أصحاب رؤوس المال، يفرض نفسه وإرادته على أغلبية الأمة، بالإكراه، أو يكون في مهب الريح تقود زمامه عصابات المال والدعاية المضللة، فقال بعد أن بويع للخلافة، وهو يحاجج معاوية بن أبي سفيان الذي رفض إعطاء البيعة للإمام، واستأثر بسلطانه في بلاد الشام، ؛ ـ انه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فان اجتمعوا على رجل وسموه إماما، كان ذلك لله رضى، فان خرج عن أمرهم خارج، بطعن أو بدعة، ردوه إلى ما خرج منه.

وان أول قرار اتخذه بعد توليه السلطة عبر الانتخابات العامة، هو إعلانه عن حقوق الرعية، لأنه كان يريد أن يحكم امة واعية لمسؤولياتها، عارفة بحقوقها، وبما يجب عليها إزاء الحاكم، ولم يشأ أن يحكم قطيع من الجهلة والإمعات، فوقف خطيبا ليقول ؛ ـ أيها الناس إن لي عليكم حقا، ولكم علي حق، فأما حقكم علي، فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا، وأما حقي عليكم، فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة حين ادعوكم، والطاعة حين آمركم.

كان واضحا وصريحا مع رعيته، رفض أن يخدعهم أو يغشهم أو يلبس عليهم الأمور، لأنه كان يعتقد بان سر نجاح الحاكم في العلاقة مع المحكوم، هو مدى تفاهم الطرفين، ومدى وضوح الأمور وحدود الحقوق والواجبات المفروضة على الطرفين، حتى لا يتجاوز احدهما على حقوق الآخر، أو يقصر احدهما بواجباته وبالتزاماته تجاه الآخر، ما ينتج عن كل ذلك علاقة حسنة وطيبة بينهما، قائمة على أساس الثقة المتبادلة، تفضي إلى الاستقرار والتنمية والتطور الدائم.

أكثر من هذا، فقد أوضح لهم ما ينبغي أن يكون عليه الحاكم، وبعبارة أخرى، حدد لهم مساحات المساءلة والمحاسبة و..... شروط إقالة الحاكم إذا إقتضت الضرورة، فقال لرعيته ؛ ـ انه ليس على الإمام إلا ما حمل من أمر ربه، الإبلاغ في الموعظة، والاجتهاد في النصيحة، والإحياء للسنة، وإقامة الحدود على مستحقيها، وإصدار السهمان على أهلها، فبادروا العلم من قبل تصويح نبته، ومن قبل أن تشغلوا بأنفسكم عن مستثار العلم من عند أهله، وانهوا عن المنكر وتناهوا عنه، فإنما أمرتم بالنهي بعد التناهي.

كان يبحث لأعدائه عن المبرر ليحقن فيه الدماء، فكان يقول ؛ ـ لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه، كمن طلب الباطل فأدركه، ولذلك لم يكن في ظل سلطانه سجين سياسي، أو سجناء عقيدة، حتى الخوارج الذين كانوا من أشد أعدائه قسوة وعنفا، رفض أن يمنعهم من عطاء بيت المال، أو الحضور في المسجد، لازالوا لم يشهروا السيف بوجه الحكومة الشرعية المنتخبة.

كما منع أصحابه من التجاوز على حقوق الرجل الذي إعتدى عليه وهو يخطب في مسجد الكوفة، عندما قاطع الإمام بقوله، كافر ما أفقهه.

وأكثر، فعندما تولى السلطة، بادر فورا إلى إلغاء كل الأحكام الجائرة التي كانت قد أصدرتها السلطات القضائية في العهود الثلاثة التي سبقته، ضد المعارضة السياسية، كما ألغى القوانين التي تميز بين المواطنين على أساس ديني أو عرقي، فأحيا بذلك مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص، لأنه كان يؤمن بحرية الرأي، وحق المواطن في أن يعارض الحاكم، كما كان يرفض مبدأ الاعتقال الاحترازي أو الإداري، فأطلق سراح سجناء الرأي، وأجاز لزعماء المعارضة حرية السفر والتنقل بين أجزاء الدولة الإسلامية المترامية الأطراف، من دون شروط أو تعهدات أو التزام أو رقيب، من الذين كانوا في الاقابة الجبرية التي فرضتها عليهم السلطات السابقة.

كان يرفض أن يتميز عن عامة الناس، كما كان يرفض أن يعيش بأعلى مستوى من أدناهم، فكان يقول ؛ ـ ولو شئت لاهتديت الطريق، إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرى، أو أكون كما قال القائل، وحسبك داء أن تبيت ببطنة، وحولك أكباد تحن إلى القد، أأقنع من نفسي بان يقال ؛ هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش، فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات، كالبهيمة المربوطة، همها علفها، أو المرسلة شغلها تقممها، تكترش من أعلافها، وتلهو عما يراد بها، أو أترك سدى، أو أهمل عابثا، أو أجر حبل الضلالة، أو أعتسف طريق المتاهة.

وذات مرة إغتاض من قاضي القضاة، عندما حاكمه يهوديا أمامه على درع ادعى أنها له، لان القاضي لم يعدل بينهما عندما كناه وسمى خصمه، فالعدل في نظر الإمام يجب أن يكون شاملا ودقيقا، ليس في الحكم فقط، وإنما حتى في تسمية المتخاصمين عند مناداتهم للمثول أمام المحكمة أو عند توجيه الأسئلة لهم.

لقد كان العدل بالنسبة للإمام أعظم شئ، فلا خير في حاكم لا يعدل بين رعيته، ولا خير في سلطان يقيم ملكه على الظلم والعدوان، ولذلك كان كل همه أن يكون عادلا في كل الأمور، لا يتجاوز على حقوق أحد، ولا يعتدي على مواطن مهما كان بسيطا متواضعا، أو فقيرا معدما، أو منسيا مهمشا، فقال لحظة تسنمه مسؤولية الخلافة، مشيرا إلى العدل كمحور أساس في منظومة سلطانه ؛ ـ والله لو وجدته، يقصد المال العام الذي وزعته السلطة التي ورث عنها الخلافة بلا حساب ولا كتاب، قد تزوج به النساء، وملك به الإماء، لرددته، فان في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل، فالجور عليه أضيق، وهو القائل ؛ ـ والله لإن أبيت على حسك السعدان مسهدا، أو أجر في الأغلال مصفدا، أحب إلي من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد، وغاصبا لشئ من الحطام، وكيف أظلم أحد لنفس يسرع إلى البلى قفولها، ويطول في الثرى حلولها ؟.

كان يرفض الباطل ويحذر منه مهما كان مصدره، وكان يقبل بالحق ويدعو إليه أيا كان مصدره، لم يهتم بالهوية، ولم يحاسب على الزي، إنما كان هاجسه الحق والعدل، ولذلك، فعندما كان يرفض باطلا، لم يكن مهما عنده هويته أو زيه، إنما المهم ذات الباطل، فيتصدى له بكل قوة من دون أن تأخذه في الله لومة لائم، فكان يقول ؛ ـ ألا من دعا إلى هذا الشعار، الباطل، فاقتلوه، ولو كان تحت عمامتي هذه، لعلمه بمن سيأتي من بعده من المزيفين والدجالين الذين يتخندقون بعمامته ويتحصنون بزيه أو بهوية الانتماء، للإضرار بالأمة، والإيقاع بين أبنائها، من تجار الدين وزيه.

كان يدعو إلى المساواة في الحقوق والواجبات، من دون تمييز بين المواطنين، وان التفاضل فيما بينهم، يكون على أساس الأداء فقط، وليس على أساس الاسم أو الزي أو الانتماء، أو القومية، فكان يقول ؛ ـ أما بعد، فقد جعل الله سبحانه لي عليكم حقا بولاية أمركم، ولكم علي من الحق مثل الذي لي عليكم، فالحق أوسع الأشياء في التواصف، وأضيقها في التناصف، لا يجري لأحد، إلا جرى عليه، ولا يجري عليه إلا جرى له، ولو كان لأحد أن يجري له ولا يجري عليه، لكان ذلك خالصا لله سبحانه دون خلقه، لقدرته على عباده، ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه.

كان يرى ضرورة إشاعة المعلومة الصحيحة بين الناس، وعدم احتكارها أو حجبها عنهم، لان الوعي لا يبنى من دون معلومة، أو بمعلومة خطأ، كما أن الموقف الصحيح توأم الوعي الناضج، الذي يولد بالمعلومة الصحيحة، ولذلك لم يشأ أن يحجبها عن رعيته، وكان يحرص على استشارة أصحابه، ليحملهم المسؤولية إلى جانبه، فلم يكن مستبدا برأيه أبدا، فكان يقول ؛ ـ من شاور الرجال شاركهم عقولهم ـ و ـ من استبد برأيه هلك ـ و ـ ما تشاور قوم، إلا هدوا إلى الصواب، كما كان يدعو قواده إلى الثبات على الأسلوب الصحيح، دون الاغترار بنصر يصيبونه، أو نجاح في إنجاز، حتى لا يتكبروا على من دونهم، ولا يشمخوا بأنوفهم على من تحت أيديهم من الناس، فكان يقول ؛ ـ أما بعد، فان حقا على الوالي ألا يغيره على رعيته فعل ناله، ولا طول خص به، وان يزيده ما قسم الله له من نعمه دنوا من عباده، وعطفا على إخوانه، ألا وان لكم عندي ألا احتجز دونكم سرا إلا في حرب، ولا اطوي دونكم أمرا إلا في حكم، ولا أأخر لكم حقا عن محله، ولا أقف به دون مقطعه، وأن تكونوا عندي في الحق سواء، فإذا فعلت ذلك، وجبت لله عليكم النعمة، ولي عليكم الطاعة، وألا تنكصوا عن دعوة، ولا تفرطوا في صلاح، وان تخوضوا الغمرات إلى الحق.

لم يتربص بإخوانه، ولم يعد عليهم زلاتهم وهفواتهم، ولم يحتفظ بأسرارهم وفضائحهم لابتزازهم بها عند الحاجة، ولم يكن يتصيد بالماء العكر للإيقاع بهم أو التخلص منهم، بل كان يمكنهم من اجل أداء أفضل وإنجاز أحسن، فكان يوصي القوي بالضعيف، والناهض بالساقط، والقائم بالجالس، والمقتدر بمن كبا لسبب من الأسباب بقوله ؛ ـ وأي امرئ منكم أحس من نفسه رباطة جأش عند اللقاء، ورأى من احد من إخوانه فشلا، فليذب عن أخيه بفضل نجدته التي فضل بها عليه، كما يذب عن نفسه،فلو شاء الله لجعله مثله.

لم يكن يحب أن يخالف قرارالاغلبية، فكان يكره أن يحملهم ما يرفضون، أو يجبرهم على فعل ما لا يطيقون، وهو القائل ؛ ـ لقد كنت أمس أميرا، فأصبحت اليوم مأمورا، وكنت أمس ناهيا، فأصبحت اليوم منهيا، وقد أحببتم البقاء، وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون، ولذلك، كان يبذل قصارى جهده من اجل إقناع الرعية بما يراه صحيحا، ثم يترك أمر الخيار والاختيار إليهم، فإذا اجمعوا على الخطأ مثلا، كما في صفين وفي قضية التحكيم، كان يشعرهم بالمسؤولية التي يجب أن يتحملوها ويدفعون ثمن الخطأ الذي ارتكبوه، من دون أن يتهربوا منه، ليعيشوا تأنيب الضمير ويتحسسوا جسامة نتائج الخطأ، فيتعلمون منه ما يصيبون به الحق في المستقبل، وتلك هي ضريبة الديمقراطية.

حرم أن يكون سببا لإراقة دماء المسلمين، مهما عظم الخطب، فأوصى أهله بقوله بعد أن طعنه عدو الله تعالى، ابن ملجم، بسيفه المسموم، الطعنة التي استشهد على أثرها الإمام ؛ ـ يا بني عبد المطلب، لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضا، تقولون، قتل أمير المؤمنين، ألا لا تقتلن بي إلا قاتلي.

انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه، فاضربوه ضربة بضربة، ولا تمثلوا بالرجل، فاني سمعت رسول الله يقول، إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور.

كان يحرص على معالجة حالات الخطأ في المجتمع من دون النظر إلى هوية الضحية، فاستنكر مثلا حالة الرجل النصراني العجوز الذي مر عليه في إحدى طرقات الكوفة، مرميا على الرصيف، قائلا ؛ ـ ما هذا ؟ ـ ولم يقل ؛ ـ من هذا ؟، ففي رأيه أن مثل هذه الحالة، خطأ لا يجوز أن يشهد مثلها في ظل سلطان القسط والعدل، ولذلك فهو استنكر الحالة، بغض النظر عن اسم الضحية وهويته ودينه، وعندما علم من الناس أن الضحية رجلا نصرانيا عجوزا، ليس له في المدينة من يعيله ويقوم بخدمته ويقضي حوائجه، أجابهم ؛ ـ استعملتموه شابا، ورميتموه كهلا ؟، ثم أمر أن تكفل حياته من بيت المال، كاملة غير منقوصة.

كان على أتم الاستعداد للقبول بتهمة الخصم، إذا كان ذلك طريقا لدرء الفتنة، وحقن دماء المسلمين، فقال للخوارج عندما أحس منهم الإصرار على خوض الحرب ضده ؛ ـ فإن أبيتم إلا أن تزعموا أني أخطأت وضللت، فلم تضللون عامة أمة محمد بضلالي، وتأخذونهم بخطأي، وتكفرونهم بذنوبي ؟.

أخيرا، لم يشأ أن يبادر خصمه بإعلان الحرب عليه أبدا، إلا بعد أن يلقي عليه الحجة كاملة، بالحوار والمنطق والخطاب والبيان والمراسلة والرسل والمفاوضين ولجان التحكيم والشهود، فإذا لمس منه إصرارا أعمى على خوض الحرب، خاضها بكل شجاعة وعزيمة لا تلين ورجولة وإقدام ويقين، من دون تردد أو خوف أو وجل، في إطار الأخلاق والمناقبيات الإلهية الربانية، وهو القائل لأصحابه ؛ ـ لا تقاتلوهم حتى يبدؤوكم، فإنكم بحمد الله على حجة، وترككم إياهم حتى يبدؤوكم حجة أخرى لكم عليهم، فإذا كانت الهزيمة بإذن الله، فلا تقتلوا مدبرا ولا تصيبوا معورا ولا تجهزوا على جريح ولا تهيجوا النساء بأذى وان شتمن أعراضكم، وسببن أمرائكم.

***************

الإمام علي ابن أبي طالب (عليه السلام)

2007-08-18

أبو الحسن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، إبن عم الرسول الأعظم صلَّى اللَّه عليه وآله، وأول من لبَّى دعوته واعتنق دينه، وصلّى معه.

هو أفضل هذه الأمة مناقب، وأجمعها سوابق، وأعلمها بالكتاب والسنة، وأكثرها إخلاصاً لله تعالى وعبادة له، وجهاداً في سبيل دينه، فلولا سيفه لما قام الدين، ولا انهدت صولة الكافرين.

نعم، لم تعرف لإنسانية في تاريخها الطويل رجلاً - بعد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) أفضل من علي بن ابي طالب ولم يسجّل لإحد من الخلق بعد الرسول صلى الله عليه وآله من الفضائل والمناقب والسوابق، ما سجّل لعلي بن ابي طالب، وكيف تحصى مناقب رجل كانت ضربته لعمرو بن عبدود العامري يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين، وكيف تعد فضائل رجل اسرّ اولياؤه مناقبه خوفا، وكتمها أعداؤه حقداً، ومع ذلك شاع منها ما ملأ الخافقين، وهو الذي لو اجتمع الناس على حبه - كما يقول الرسول صلى الله عليه وآله - لما خلق الله النار.

والحديث عن علي بن ابي طالب طويل، لا تسعه المجلدات، ولا تحصيه الأرقام، حتى قال ابن عباس لو أنّ الشجرَ اقلامٌ، والبحرَ مدادٌ، والإنس والجن كتّاب وحسّاب، ما أحصوا فضائل أمير المؤمنين عليه السلام.

وكان لا بد لنا من الإختصار في الكتابة في هذة السلسة العلوية، وحسبنا أن نشير فيها إلى بعض خصائصه، ومناقبه، وعليها فقس ما سواها.

ولادته

ولد (عليه السلام) بمكة في البيت الحرام يوم الجمعة الثالث عشر من شهر الله الأصم رجب بعد عام الفيل بثلاثين سنة ولم يولد في البيت الحرام سواه قبله ولا بعده وهي فضيلة خصه الله بها إجلالاً له واعلاءً لرتبته وإظهاراً لتكرمته. وقيل ولد لسنة ثمان وعشرين من عام الفيل، والأول عندنا أصح وكان (عليه السلام) هاشمياً من هاشميين، وأول من ولده هاشم مرتين (أي من قبل الأب والأم)، فمن جهة الأب فهو علي بن أبي طالب بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف، ومن قبل الأم فهي فاطمة بنت أسد بنت هاشم بن عبد مناف.

في مقتله عليه الصلاة والسلام: لما تواعد إبن ملجم - عليه لعنة الله وملائكته وخلقه - وصاحباه على قتل علي (عليه السلام) ومعاوية وعمرو بن العاص دخل إبن ملجم المسجد في بزوغ الفجر الأول فدخل الصلاة تطوعاً وافتتح القراءة فأقبل علي (عليه السلام) وبيده مخفقة وهو يوقظ الناس للصلاة فمر بابن ملجم لعنه الله ودخل الصلاة فتبعه ابن ملجم لعنه الله فضربه على قرنه ووقع ذبابة السيف في الجدار فأطار فدرة من آجره فابتدره الناس ووقع السيف منه فجعل يقول: أيها الناس احذروا السيف فإنه مسموم فمات روحي وروح العالمين له الفدا من تلك الضربة بعد ليلتين منها فأخذ (ابن ملجم) عبدالله بن جعفر فقطع يديه ورجليه وروى الحافظ أبوبكر البيهقي: خرج علي (عليه السلام) لصلاة الفجر فأقبل الوز يصحن في وجهه فطردوهن عنه فقال: دعوهن فإنهن نوائح ولما ضرب (عليه السلام) قال: فزت ورب الكعبة.. وفي الحديث أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي (عليه السلام) ألا أخبرك بأشد الناس عذاباً يوم القيامة؟ قال: أخبرني يا رسول الله. قال: فإن أشد الناس عذاباً يوم القيامة عاقر ناقة ثمود، وخاضب لحيتك بدم رأسك وصاحباه (الذين كانا مع إبن ملجم).

عمره

في عمره الشريف سلام الله عليه: مضى أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو إبن خمس وستين سنة ونزل الوحي وله إثنا عشر سنة وأقام بمكة مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاث عشر سنة ثم هاجر فأقام معه بالمدينة عشر سنين وأقام بعده ثلاثين سنة وقبض (عليه السلام) في ليلة الجمعة إحدى وعشرين من شهر رمضان المبارك سنة أربعين من الهجرة وقبره بالغري بمدينة النجف الأشرف في العراق. دفنه الحسن (عليه السلام) في الغـري، وأخفى قبره مخافة الخوارج ومعاوية، وهو اليوم ينافس السماء سمو ورفعة، على أعتابه يتكدس الذهب، ويتنافس المسلمون في زيارته من جميع العالم الإسلامي.

إمامته

واختلفت الأمة في إمامته بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالت شيعته وهم: بنوهاشم كافة وسلمان وعمار وأبوذر والمقداد وخزيمة بن ثابت ذوالشهادتين وأبو أيوب الأنصاري وجابر بن عبد الله وأبوسعيد الخدري في أمثالهم من أجلة المهاجرين والأنصار: أنه كان الخليفة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما إجتمع له من صفات الفضل والكمال والخصائص التي لم تكن في غيره من سبقه إلى الإسلام ومعرفته بالأحكام وحسن بلائه في الجهاد و بلوغه الغاية القصوى في الزهد والورع والصلاح وما كان له حق القربى ثم للنص الوارد في القرآن وهو قوله تعالى: ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلوة ويؤتون الزكاة وهم راكعون )، والولاية كانت ثابته له (عليه السلام) بنص القرآن وبقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الدار وقوله في غديرخم، فكانت إمامته (عليه السلام) بعد النبي ثلاثين سنة منها أربع وعشرون سنة وأشهر ممنوعاً من التصرف آخذاً بالتقية والمداراة محلاً عن مورد الخلافة قليل الأنصار كما قال :(فطفقت أرتأى بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء ) ومنها خمس سنين وأشهر ممتحناً بجهاد المنافقين من الناكثين والقاسطين والمارقين مضطهداً بفتن الضالين واجداً من العناء ما وجده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاث عشرة سنة من نبوته ممنوعاً من أحكامها حائفاً ومحبوساً وهارباً ومطروداً لا يتمكن من جهاد الكافرين ولا يستطيع الدفاع عن المؤمنين.

ألقابه

وفي كناه وألقابه (عليه السلام) : أبا الحسنين وأبا الريحانتين أبا تراب أميرالمؤمنين ويعسوب الدين ومبيد الشرك والمشركين وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ومولى المؤمنين وشبيه هارون والمرتضى ونفس الرسول وزوج البتول وسيف الله المسلول وأبوالسبطين وأمير البررة وقاتل الفجرة وقسيم الجنة والنار وصاحب اللواء وسيد العرب وخاصف النعل وكشاف الكرب والصديق الأكبر وذوالقرنين والهادي والفاروق الأعظم والداعي والشاهد وباب المدينة وغرة المهاجرين وصفوة الهاشميين والكرار غير الفرار صنو جعفر الطيار رجل الكتيبة والكتاب وراد المعضلات وأبو الأرامل والأيتام وهازم الأحزاب وقاصم الأصلاب قتال الألوف ومذل الأعداء ومعزالأولياء وأخطب الخطباء وقدوة أهل الكساء وإمام الأئمة الأتقياء والشهيد أبوالشهداء وأشهر أهل البطحاء ومثكل أمهات الكفرة ومفلق هامات الفجرة والحيدرة ومميت البدعة ومحيي السنة وسيد العرب وموضع العجب ووارث علم الرسالة والنبوة وليث الغابة والحصن الحصين والخليفة الأمين والعروة الوثقى وابن عم المصطفى وغيث الورى ومصباح الدجى والضرغام والوصي الولي والهاشمي المكي المدني الأبطحي الطالبي والرضي المرضي وهذا قليل من كثير.

أصحابه

أصحابه وممن بايعه بغير ارتياب بالإجماع والإتفاق: من المهاجرين: عمار بن ياسر - الحصين بن حارث بن عبدالمطلب - الطفيل بن الحارث - مسطح بن اثاثة - جهجاه بن سعيد الغفاري - عبدالرحمن بن حنبل الجمحي - عبدالله و محمد إبنا بديل الخزاعي - الحارث بن عوف - البراء بن عازب - زيد بن صوحان - يزيد بن نويرة - هاشم بن عتبه المرقال - بريدة الأسلمي - عمرو بن الحمق الخزاعي - الحارث بن سراقة - أبوأسيد بن ربيعة - مسعود بن أبي عمر - عبدالله بن عقيل - عمرو بن محصن - عدي بن حاتم - عقبة بن عامر - حجر بن عدي الكندي - شداد بن اوس .

ومن الأنصار: أبو أيوب خالد بن زيد - خزيمة بن ثابت - أبو الهيثم بن التيهان - أبوسعيد الخدري - عبادة بن الصامت - سهل وعثمان إبنا حنيف - أبو عياش الزرقي - سعيد وقيس إبنا سعد بن عبادة - زيد بن أرقم - جابر بن عبدالله بن حرام - مسعود بن أسلم - عامر بن أجبل - سهل بن سعيد - النعمان بن عجلان - سعد بن زياد - رفاعة بن سعد - مخلد وخالد إبنا أبي خالد - ضرار بن الصامت - مسعود بن قيس - عمرو بن بلال - عمارة بن أوس - مرة الساعدي - رفاعة بن رافع الزرقي - جبلة بن عمرو الساعدي - عمرو بن حزم - سهل بن سعد الساعدي .

بنو هاشم : الحسن والحسين (عليهما السلام) - محمد بن الحنفية - عبدالله و محمد وعون أبناء جعفر - عبدالله بن عباس - الفضل وقثم وعبيدالله أبناء عباس بن عبدالمطلب - عتبة بن أبي لهب - عبدالله بن الزبير بن عبد المطلب - عبدالله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب.

بني هاشم وسائر الشيعة: محمد بن أبي بكر  - جعدة بن هبيرة المخزومي (ابن ام هاني اخت امير المؤمنين علي (عليه السلام)) - محمد بن أبي حذيفة - مالك بن الحارث الأشتر - ثابت بن قيس - كميل بن زياد - صعصعة بن صوحان العبدي - عمرو بن زرارة النخعي - عبد الله بن الأرقم - زيد بن الملفق - سليمان بن صرد الخزاعي - قبيصة بن جابر - أويس القرني - هند الجملي - جندب الأزدي - الأشعث بن سوار - حكيم بن جبلة - رشيد الهجري - معقل بن قيس بن حنظلة - سويد بن الحارث - سعد بن مبشر - عبدالله بن وال - مالك بن ضمرة - الحارث الهمداني - حبة بن جوين العرني رحمهم الله جميعاً.

أبوه

أبوه هو أبي طالب (عليه السلام) واسم أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب واسم عبدالمطلب شيبة الحمد وكنيته أبو الحارث وكان ولد أبي طالب طالباً ولاعقب له وعقيلاً وجعفراً وعلياً كل واحد أسن من الآخر بعشر سنين.

أمه

أمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف وكانت من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمنزلة الأم، ربته في حجرها وكانت من السابقات إلى الإيمان وهاجرت معه إلى المدينة المنورة، وكفنها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقميصه ليدرأ به عنها هوام الأرض، وتوسد في قبرها لتأمن بذلك ضغطة القبر ولقنها الإقرار بولاية إبنها كما اشتهرت الرواية.

زوجاته

أما في ذكر زوجاته(عليه السلام) فهي فاطمة بنت محمد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين ومن المناقب عن عبدالله بن مسعود عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يا فاطمة زوجتك سيداً في الدنيا وأنه في الآخرة لمن الصالحين أنه لما أراد الله عز وجل أن أملكك من علي أمر الله جبرائيل فقام في السماء الرابعة فصف الملائكة صفوفاً ثم خطب عليهم فزوجك من علي (عليه السلام) ثم أمر الله شجر الجنان فحملت الحلي والحلل ثم أمرها فنثرت على الملائكة فمن أخذ منها شيئا أكثر مما أخذ غيره افتخر به إلى يوم القيامة، ولم يتزوج عليها حتى توفيت عنده، ثم تزوج بعدها أم البنين بنت حزام بن الوحيد بن كعب بن عامر، وتزوج أيضا ليلى بنت مسعود بن خالد بن مالك بن زيد مناة بن تميم، وتزوج أيضا أسماء بنت عميس الخثعمية، وتزوج أيضا الصهباء بنت زمعة بن ربيعة بن علقمة بن الحارث بن عتبة بن سعيد، وأيضا تزوج (عليه السلام) من أمامة بنت أبي العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف، - وأمها زينب بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - وتزوج أيضا خولة بنت جعفر بن قيس بن سلمة بن يربوع الحنفية، وأيضا تزوج من أم سعيد بنت عروة بن مسعود، وتزوج أيضا محياة بنت امرئ القيس بن عدي وأفضلهن فاطمة البتول بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)

إخوته: طالب ، عقيل ، جعفر  

أخواته: أم هاني ، جمانة  

أولاده

أما أولاده (عليه السلام)، فالحسن والحسين عليهما السلام سيدا شباب أهل الجنة أولاده من فاطمة عليها السلام سيدة نساء العالمين وله أيضا منها محسن مات صغيراً حيث ورد في تاريخ الكامل: ج3 ص397 وروى ابن أبي دارم المحدث أن عمر بن الخطاب رفس فاطمة حتى أسقطت محسناً كما في ترجمة أحمد بن محمد بن السري برقم -255- من كتاب ميزان الإعتدال ج1 ص139 ومثله في كتاب لسان الميزان ج1 ص268 وذكره أيضا ابن قتيبة المتوفي سنة 276 في كتاب المعارف ص92 ط القاهرة تحقيق ثروت عكاشة قال: أن محسناً فسد من ضرب قنفذ العدوي ( لعنه الله) مولى عمر بن الخطاب.

أيضا له منها (عليها السلام) زينب الكبرى وأم كلثوم الكبرى، وله (عليه السلام) أيضا العباس وجعفر وعبدالله وعثمان وهم من زوجته أم البنين أستشهدوا مع إبنه الحسين الشهيد في واقعة الطف بكربلاء. وله أيضا (عليه السلام) عبدالله وأبا بكر من زوجته ليلى بنت مسعود أستشهدوا أيضا مع الحسين (عليه السلام) في كربلاء، وله أيضا يحيى ومحمد الأصغر من أسماء بنت عميس ولا عقب لهما، وله أيضا (عليه السلام) عمر ورقية من الصهباء بنت زمعة، وله أيضا محمد الأوسط من أمامة بنت أبي العاص، وله أيضا محمد بن الحنفية من خولة بنت جعفر، وله أيضا (عليه السلام) أم الحسن ورملة الكبرى من أم سعيد بنت عروة بن مسعود وله ايضا (عليه السلام) بنات من أمهات شتى منهن أم هاني وميمونة وزينب الصغرى وأم كلثوم وفاطمة وأمامة وخديجة وأم الكرام وأم سلمة وأم جعفر وجمانة ونفيسة وهؤلاء أمهاتهن أمهات أولاد.

خاتمة المطاف

هذه شذرات من حياة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، ونسبتها إليها كقطرة ماء من البحر المحيط، أو كباقة ورد من رياحين الدنيا، نقدمها بين يديك تشم منها عبق الولاء، وتنتشق من روائحها المودة لأهل البيت (عليهم أفضل الصلاة والسلام).

ثم هي بعد هذا وذاك: دعوة للإستقامة على مبدأ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، والذود عنه، والسير على خطاه، والدعوة إليه؛

{قل هذه سبيلي أدعوا الى الله على بصيرة أنا ومن أتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين}.