السيد عباس الموسوي الأمين العام لحزب الله، هذا القائد الذي شكل المثال الأبرز بأن القادة في المقاومة الإسلامية هم في طليعة المضحين وهم جاهزون للشهادة ولا يدخرون لا أنفسهم ولا أولادهم ولا عائلاتهم ولا حتى المال أو البيت أو أي شيء آخر في سبيل الدنيا أو منصب أو جاه من هنا وهناك، هم مصداق حي للآية القرآنية الكريمة: " قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ". ومن يراجع تاريخ هذه المقاومة، يدرك أنها قدمت نماذج عديدة من التضحيات أبرزها نموذج شهادة السيد عباس الموسوي وزوجته وابنه الصغير حسين، وقبله الشيخ راغب حرب وصولا إلى استشهاد نجل الشهيد القائد الحاج عماد مغنية "جهاد" مرورا بالسيد هادي نصر الله نجل الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله والقائد الجهادي الكبير الحاج عماد مغنية، والشهيد حسان اللقيس وآخرين كُثُر لا يتسع المجال هنا لذكرهم.

"هكذا نماذج نحن نعتز ونفتخر بها لأننا نحن نطلب إما النصر وإما الشهادة"، يقول ياسر نجل السيد عباس الموسوي الذي التقيناه في حديث خاص، ويضيف "من المظلومية لأمثال هؤلاء القادة أن يموتوا على الفراش وليس في ساحات المواجهة والجهاد ومن المظلومية ألا يقضوا شهداء في الدرب الذي أحبوا أن يقضوا فيه".

ولد السيد عباس في 26 تشرين الأول/أكتوبر من العام 1952 في منطقة الشياح في الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت، وعاش طفولته في عائلة متدينة ومحافظة على الأصول الدينية والاجتماعية، وتربى على الاهتمام بقضايا وطنه وأمته وفي طليعتها القضية الفلسطينية.

وفي ريعان الشباب بدأ السيد الشاب اليافع العمل الجهادي حيث أجرى العديد من الدورات العسكرية، وكان قد اختار الدراسة الحوزية حيث التحق بحوزة الإمام السيد موسى الصدر في مدينة صور الجنوبية، وتعمّم في السادسة عشرة من عمره، وبعد ذلك غادر إلى العراق ليتابع دراسته على يد الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدس سره).

بعد تسع سنوات قضاها السيد الشهيد في العراق، قرر العودة إلى لبنان، لتقديره انه يستطيع خدمة أهله ومجتمعه من قلب لبنان، وكان أول عمل قام به جمع طلاب العلوم الدينية الذين أُبعدوا من النجف في حوزة أبان الحكم البعثي في العراق، حيث أسس حوزة الإمام المنتظر (عج)، في مدينة بعلبك البقاعية، ومن ثم أسس "تجمع العلماء المسلمين" في العام 1979 في أول خطوة لبنانية عملية للوحدة بين المسلمين.

ومع انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 ارتبط السيد الشهيد بالإمام الخميني(قدس سره) تحت راية ولاية الفقيه، وعند بدء الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، انطلق السيد عباس وبمباركة من الإمام الخميني (قدس سره) وتحت شعار قاله الإمام حينها لمجموعة من قيادة المقاومة "أن مرحلتكم كربلائية" انطلق السيد الشاب باتجاه العمل العسكري المقاوم في لبنان، حيث أعطاه كل وقته واهتمامه، فلم يكتف السيد الشهيد بالبقاء في بيروت وتركيز العمليات ضد العدو فيها بل عمل على تكثيف وزيادة عمليات المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي على امتداد الأراضي المحتلة من بيروت وصولا إلى قرى ومدن الجنوب.

ومن عايش السيد عباس الموسوي ينقل عنه تأكيده أن المستقبل هو مستقبل المقاومة وموجة الاستكبار والكفر تنحسر ومسألة التحرير مسألة وقت ليس إلا، فالسيد عباس كان ينظر إلى الأمور من منظار مختلف ويملك قدرة عالية على التحليل مبني على إيمان راسخ وروحية عالية، فهو استطاع أن يحلل مجريات الأمور بشكل واقعي لاسيما بعد انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية بقيادة الإمام الخميني(قدس سره).

ولطالما أكد السيد عباس الموسوي أن "إسرائيل" هي العدو الأول والأخير للأمة وهي تعمل لبث الفتنة بين المسلمين وتعمل للتغلب عليهم من خلال الفتن، والسيد عباس من أوائل الذين نبهوا المسلمين من التوجهات التكفيرية التي لا تخدم إلا العدو الإسرائيلي الذي يعمل على دعم التكفير لأنها تحقق له غايته في شرذمة الأمة، كما انه من خلال عمله وحرصه على الحالة الجهادية كان يعتبر أن المقاومة لا تتكامل إلا بوجود كل الأطراف وكان يجهد نفسه للتواصل مع كل الفئات الإسلامية.

وهنا يلفت ياسر الموسوي أن "علاقات عائلية وشخصية نشأت بين السيد عباس والكثير من الشخصيات الإسلامية السنية كالشيخ فتحي يكن والشيخ ماهر حمود والشيخ سعيد شعبان وغيرهم الكثير من هذه القيادات حتى ممن لا يتفقون اليوم مع حزب الله"، ويؤكد أن "السيد عباس كان يحرص على فتح علاقات مع القيادات السنية وذلك تحت عنوان أن المقاومة للجميع وهي ملك لكل الشرفاء"، ويشير إلى أن "السيد عباس كان يحرص على إشراك بعض المجموعات في عمليات المقاومة ضمن مجموعات المقاومة القتالية ومن ضمنها قوات الفجر التي شاركت في عملية للمقاومة تم على أثرها غنيمة ملالة عسكرية للعدو، ويومها خطب السيد عباس من إمام مسجد الزعتري في صيدا مؤكدا على الوحدة بين المسلمين لمواجهة العدو الإسرائيلي".

وفي نفس السياق، تأتي زيارات السيد عباس إلى باكستان وأفغانستان لتوحيد جهود الأمة في مقارعة الاستكبار العالمي، فالسيد المقاوم أراد للأمة أن تبقى متماسكة لمواجهة أية فتن يعدها العدو، وهو حاول نشر الوعي وتثبيت مفهوم بان الفتن إذا ما وقعت ستأكل الجميع ولن توفر أحدا، وان المقاومة مدرسة يجب الجميع أن يتعلم منها ويستفيد منها لتحقيق رفعة الأمة وعزتها.

بعد انتخابه أمينا عاما لحزب الله في أيار/مايو عام 1991 خط السيد عباس نهجا موازيا للعمل المقاوم تمثل في تدعيم العمل الخدماتي للمجتمع المقاوم ولبيئة المقاومة، فكما كان السيد عباس مرافقا للمجاهدين على خطوط القتال بات السيد مواكبا للناس في حياتهم اليومية يطّلع على شجونهم وشؤونهم وحاجاتهم الخدماتية، حيث حرص على زيارة الأحياء الشعبية للاطلاع مباشرة على احتياجاتهم ومعاناتهم وكان شعاره الخالد "سنخدمكم باشفار عيوننا".

وفي موضوع خدمة الناس، تحرك السيد عباس باتجاه التقرب من الناس وخدمتهم انطلاقا من أن المقاومة وحزب الله هو حالة جهادية، هذه المقاومة عرضة لكثير من الضغوط منها الشأن الاجتماعي والمعيشي الذي يستهدف أهلها وناسها، لذلك حاول السيد الوقوف إلى جانب الناس والاستماع إلى حاجياتهم والعمل على تحقيقها خاصة أن هؤلاء يشكلون بيئة المقاومة ومجتمعها وهم اضطهدوا ودمرت منازلهم واستهدفوا بشكل أو بآخر لاسيما أن الدولة وقتها كانت إما غائبة أو تمعن في معاناتهم لذلك كان السيد يعتبر خدمة هؤلاء واجب وليس منة عليهم"، فالسيد عباس لطالما ردد بأنه"كما قاومنا الاحتلال سنقاوم الإهمال والحرمان".

وهنا يروي ياسر الموسوي أن "يوم الخميس من كل أسبوع كان يكرسه السيد عباس للقاء الناس والاستماع لمشاكلهم وهمومهم والعمل على حلّها ويُشعر هؤلاء انه بجانبهم والعمل على معالجة مشاكلهم".

ينقل لنا أحد "المقربين من السيد عباس" رواية خاصة تتعلق بروحانية السيد الشهيد، ففي خلال التحضير لعملية برعشيت النوعية أبان الاحتلال الإسرائيلي للجنوب، جاء الشهيد ماجد غدار معترضا لعدم وضع اسمه في مجموعة اقتحام الموقع المعادي، وبعد إصرار الشهيد، قرر السيد عباس وطلب وضع الشهيد في مجموعة الاقتحام، وبعد أن انطلق المجاهدون إلى العملية اسرَّ السيد عباس إلى قادة العملية الميدانيين أن هذا الأخ سيستشهد في هذه العملية وهذا ما حصل فعلا"، وتابع المصدر "السيد عباس استشرف واستشعر الإخلاص والاندفاع الكبير لدى هذا الشهيد".

في السادس عشر من شباط/فبراير 1992، وفي الذكرى السنوية الثامنة لاستشهاد الشيخ راغب حرب أصر السيد عباس أن يلقي كلمة في المهرجان الذي اقامه حزب الله في بلدة جبشيت واصطحب معه زوجته وطفله حسين.

وألقى خطبته في الاحتفال فكانت أشبه بخطبة الوداع حيث أطلق فيها وصيته الخالدة" الوصية الأساس حفظ المقاومة الإسلامية ".

وفيما كانت طائرات التجسس تحلق فوق بلدة جبشيت خطى السيد الشهيد خطواته الأخيرة قبل أن يصعد في السيارة غير آبه بها، وبعدها وأثناء مغادرته البلدة متوجها إلى بيروت تعرض موكبه لاعتداء صهيوني في بلدة تفاحتا من طائرات مروحية أطلقت صواريخها باتجاه الموكب فأصابت السيارة التي كانت تقل السيد وزوجته وابنهما إصابة مباشرة ما أدى إلى استشهادهم.

وهكذا اختتم السيد الشهيد حياته كما أراد وأحب شهيدا مقطعا إربا إربا، وما دعاؤه المشهور من أحد مواقع المقاومة إلا دليل قاطع على رغبته وعشقه للقاء الله تعالى بهذه الحالة ، وكان له ما أراد .

ويُنقل عن الإمام السيد علي الخامنئي الكثير من الكلام حول السيد عباس، منها ما يتعلق بشخصيته وما يتعلق بتضحياته وإخلاصه في العمل الجهادي واهتمامه بشؤون وطنه ومجتمعه وأمته، وانه حمل همّ المسلمين في العالم وحرص على تماسك المسلمين من مختلف المذاهب لمواجهة العدو الأوحد للأمة كلها ألا وهو العدو الصهيوني، ويقول السيد الخامنئي "إن استشهاد السيد عباس هو نقطة تحوّل في مسيرة المقاومة ومن ثمار هذه الدماء هو تحقيق الانجازات للمقاومة والانتصارات على العدو".

 

* ذو الفقار ضاهر/ المنار