في رحاب شهر رمضان

2007-08-23

معرفة شهر رمضان

ان اول امر لا بد علينا ان نقوم به لتوثق العلاقة مع شهر رمضان المبارك هو الاطلاع الصحيح على خصوصيات هذا الشهر المبارك من خلال النظرة التي تنسجم مع ما اراده القرآن الكريم والائمة المعصومين (عليهم السلام) ان يبيناه للكشف عن ذلك.

وعلى ضوء ذلك يكون من اللازم على الانسان المؤمن ان يتعرف على مقام ومكانة هذا الشهر العظيم، ويتعرف على خصوصياته قبل ان يقوم باي عمل او سلوك للتعامل مع هذا الشهر العظيم، كما فعل ذلك الامام زين العابدين (عليه السلام) عندما دعا الله سبحانه وتعالى والتمس منه الاطلاع على هذه المعارف، ليعلمنا كيف نطلب ذلك من الله ونلتمسه من خلال دعائه الشريف في الصحيفة السجادية التي يقول فيه:

((اللهم صل على محمد وآل محمد والهمنا معرفة فضله واجلال حرمته))(1).

فمن اجل ان يكون استقبالنا لشهر رمضان المبارك بصورة متناسبة مع مقامه ولائقة لشرفه علينا ان نتعرف على حقيقة ومنزلة هذا الشهر وماله من مكانة عظيمة باعتباره نعمة عظيمة وهبة كريمة من الباري عز وجل. بالاضافة الى التعرف على كيفية التعامل مع ايامه المباركة مما يجعل استقبال الانسان المؤمن لهذا الشهر استقبالاً لائقاً يثير في نفسه الاستعداد الكامل للخوض في تجربة الصيام الرائعة بكل ثقة واطمئنان ويولد عنده مشاعر الفرح والسرور ولهذا تجد ان الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما كان يستقبل شهر رمضان يجعل لذلك خصوصية في نفسه ويلفت انظار المؤمنين الى هذه الخصوصية من خلال بياناته النوارنية واحاديثه الشريفة كما جاء في رواية انس بن مالك حيث قال: ((لما حضر شهر رمضان قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سبحان الله، ماذا تستقبلون وماذا يستقبلكم.... قالها ثلاث))(2).

وان في ظل هذه المعرفة والاستعداد تنطوي فوائد كثيرة وتظهر من خلالها آثار جمة لا يمكن

الاستغناء عنها في حال من الاحوال، ابرزها الاعداد النفسي لاستقبال هذا الشهر والتعرف على الوظائف والآداب التي لا بد للانسان ان يتحلى بها للقيام بوظيفته على اتم صورة واكمل وجه وهو يعيش في ايام هذا الشهر المبارك ليحصل على اتم نعمة واكمل بركة من النعم والبركات التي اعدها الله سبحانه وتعالى لعباده الصالحين. كما جاء في رواية ابي مسعود الانصاري عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال: ((لو يعلم العبد ما في رمضان لود ان يكون رمضان السنة))(3).

ومن خلالا ما تقدم يمكن ان ندرك ما للسعي من اهمية للوصول الى الفهم الصحيح لهذا الشهر المبارك وكسب الهبات والنعم والبركات والعطايا الالهية.

هذه النعم والبركات العظيمة والعطايا الجليلة التي تؤدي الى حصول الانسان على سعادة الدنيا والآخرة، فهي بلا شك ولا ريب ترسم مستقبل الانسان الظافر، وتسير به نحو الهدف السامي الذي يحلم به الصالحون ويشتاق اليه المتقون.

ومما لا شك ولا ريب على الانسان ان يشكر صانع هذه النعم وواهب هذه البركات وان يستمر على ذكر بارئها وطاعته كما جاء في الحديث الشريف: ((لو علمتم ما لكم في شهر رمضان لزدتم لله تعالى ذكره وشكره))(4).

أوصاف شهر رمضان المبارك

اختص شهر رمضان المبارك بعدة اوصاف يمكن ان نعرفها من خلال استقراء الآيات المباركة والروايات الشريفة وادعية أهل البيت (عليهم السلام) كاسم المبارك والكريم وشهر الله وشهر الطاعة وشهر الصوم وربيع القرآن.... الخ، ونحن نختار هنا احد هذه الاوصاف بما يتناسب وهذا البحث والمختصر:

الشهر المبارك

ان احد الاوصاف التي تطلق على شهر رمضان والتي صرحت بها الروايات والادعية الشريفة هو ((المبارك))، ومن هذه الروايات قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم):

((قد جائكم شهر رمضان، شهر مبارك، شهر فرض الله عليكم صيامه))(5).

ورواية امير المؤمنين (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال:

خطبنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات يوم فقال: ((يا ايها الناس انه قد اقبل اليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة))(6).

وعن سلمان الفارسي (رضوان الله عليه) قال: خطبنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في آخر يوم شعبان فقال: ((قد اظلكم شهر رمضان شهر مبارك، شهر فيه ليلة القدر خير من الف شهر))(7).

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انه كان يدعوا اول ليلة من شهر رمضان بقوله: ((الحمد لله الذي اكرمنا بك ايها الشهر المبارك))(8).

وعن الامام جعفر الصادق (عليه السلام) انه كان يقول في آخر ليلة من شعبان واول ليلة من شهر رمضان المبارك: ((اللهم ان هذا الشهر المبارك الذي انزلت فيه القرآن وجعلته هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان قد حضر))(9).

وغير ذلك من الروايات التي اطلقت (المبارك) على شهر رمضان مما جعل ذلك موجباً لان يكون هذا الوصف من ابرز الاوصاف والعناوين التي اطلقت على هذا الشهر الشريف.

ولو اردنا ان نستقرأ كلمة (المبارك) في اللغة ونتعرف على معناها لوجدناها تحمل كل معاني البركة والخير الكثير فقد جاء في لسان العرب ان معنى المبارك: ((ما يأتي من قبله الخير الكثير))(10).

 وقال صاحب مجمع البيان: ((ان اصل البركة: الثبوت من قولهم: برك وبروكاً، او بروكاً: اذا ثبت على حاله فالبركة: ثبوت الخير بنموه))(11).

وكذلك قال الراغب الاصفهاني في كتابه (مفردات غريب القرآن): ((وسمي بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البركة، والمبارك ما فيه ذلك الخير، على ذلك ((هذا ذكر مبارك انزلناه)) تنبيهاً على ما يفيض عليه من الخيرات الالهية. وقال: ((كتاب انزلناه اليك مبارك)). وقوله تعالى: ((وجعلني مباركاً)) أي موضع الخيرات الالهية، وقوله تعالى:

((انا انزلناه في ليلة مباركة رب انزله منزلاً مباركاً)) أي حيث يوجد الخير الالهي، وقوله تعالى: ((ونزلنا من السماء ماءً مباركاً)) فبركة ماء السماء هي ما نبه عليه بقوله: ((الم تر ان الله انزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعاً مختلفاً الوانه)). وبقوله تعالى: ((وانزلنا من السماء ماء بقدر فاسكناه في الأرض)) ولما كان الخير الالهي يصدر من حيث لا يحس وعلى وجه لا يحصى ولا يحصر قيل لكل ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة هو مبارك وفيه بركة(12).

البركة والمبارك في القرآن الكريم

على ضوء ما تقدم في المعنى اللغوي للبركة والمبارك من انهما الخير الكثير والمنفعة الوفيرة وثبوتهما نرى ان القرآن الكريم يستعمل هذين العنوانين في عدة آيات كما يلي:

1 يصف القرآن الكريم الذات الالهية المقدسة بالخير المحض والبركة الخالصة كما جاء في قوله تعالى: ((تبارك الله رب العالمين)) الاعراف/54. وفي قوله تعالى: ((فتبارك الله احسن الخالقين)) المؤمنون/14. وقوله تعالى: ((تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ...!)) الفرقان/1.

2 يصف القرآن الكريم نفسه بانه مبارك كما في قوله تعالى: ((وهذا كتاب أنزلناه مبارك)) الانعام/92. وقوله تعالى: ((وهذا كتاب انزلناه مبارك فاتبعوه)) الانعام/155. وقوله تعالى: ((كتاب انزلناه اليك مبارك ليدبروا آياته ...)) ص/29.

3 وذكر القرآن الكريم بيت الله الحرام على انه مبارك كما قال عز وجل: ((ان اول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين)) آل عمران/96.

4 المسجد الاقصى كذلك ذكر على انه مسجداً مباركاً حيث بارك الله فيه وفي ما حوله كما قال الله سبحانه وتعالى: ((... الى المسجد الاقصى الذي باركنا حوله)) الاسراء/1.

5 استعمل القرآن الكريم لفظ المبارك واصفاً به ليلة القدر حيث جعلها ليلة مباركة كما في قوله عز وجل:

((انا انزلناه في ليلة مباركة ...)) الدخان/3.

6 وصف القرآن الكريم انبياء الله سبحانه وتعالى بالبركة فجعلهم مباركين كما في قوله تعالى:

((وجعلني مباركاً اينما كنت ...)) مريم/31. وقوله تعالى: ((وباركنا عليه وعلى اسحاق ...)) الصافات/113.

7 جعل القرآن الكريم المطر مباركاً كما في قول الله عز وجل: ((ونزلنا من السماء ماءً مباركاً ...)) ق/9.

سر البركة في شهر رمضان المبارك

بلا شك ولا ريب ان البركة وعدم البركة والنفع والضرر الذي ينسب الى الانسان لها علاقة وثيقة بحياة الانسان وجوانب وجوده وما يتعلق بمصالح ومفاسد وجوده الذي ينتمي اليه. وللتعرف على سر بركة شهر رمضان المبارك لا بد من التوجه الى عدة نقاط كالآتي:

اولاً: حقيقة الحياة وجوهر وجود الانسان

من المعلوم ان الانسان بالاضافة الى ما يمتلكه من بعد مادي وحياة حيوانية فانه يمتلك جانب معنوية وحياة انسانية ايضاً، ومن المعلوم ايضاً ان اجتماع هاتين الجنبتين هي التي اعطت الانسان درجة التكامل والوجود الامثل كما جاء في قوله تعالى: ((ثم انشأناه خلقاً آخر فتبارك الله احسن الخالقين)) المؤمنون/14. وقوله تعالى: ((لقد خلقنا الانسان في احسن تقويم)) التين/4. وقوله تعالى: ((فاذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين)) الحجر/29.

اذن فالوجود الامثل والحقيقة الفضلى التي تمثل حياة الانسان وجوهره نابعة من هذه الروح الانسانية التي لا تمتلكها الموجودات الأخرى ولولا هذه الجوهرة الثمينة المتمثلة في هذه الروح السامية لجعل الانسان في عداد الحيوانات بل ربما يكون ادنى من ذلك، اذا ما جعل وجوده وجوداً لا يتناسب مع ما يريده الله سبحانه من امتثال لاوامره وابتعاده عن معاصيه، لان هذا الامر يجعل الله سبحانه يغيير سياق التعامل مع هذا الانسان حيث ندرك ذلك من خلال قوله تعالى في سورة التين: ((لقد خلقنا الانسان في احسن تقويم ثم رددناه اسفل سافلين)) التين/5،4. بل ربما يكون الامر اكثر من ذلك كما في قوله تعالى: (( أم تحسب ان أكثرهم يسمعون او يعقلون إن هم الا كالانعام بل هم اضل سبيلاً)) الفرقان/44.

 ثانياً: متطلبات الحياة الانسانية

كما ان الانسان يحتاج لاجل تأمين متطلبات حياته المادية وتوفير احتياجاته الجسدية لبعض الامور التي تتناسب مع الجنبة الحيوانية للانسان بحيث لا يمكن ان يستغني الانسان عن توفير هذه الحاجات؛ كذلك يحتاج لتأمين حياته الانسانية والمعنوية الى توفير بعض المتطلبات وتأمين الاسباب لبعض الرغبات التي لا يمكن ان تستمر هذا الحياة بدونها.

ومن الواضح ان هذه الاحتياجات والمتطلبات التي تحتاجها كل جنبة من جونب حياة الانسان المادية والمعنوية تختلف حسب الفرق بين هذه البعدين وخصوصيات كل منهما فمثلاً ان الرشد الحيواني والتكامل الجسماني يتطلب احتياجات مادية ومتطلبات ترتبط بالجانب الحيواني من النفس البشرية.

اما لتأمين الجانب الروحي والمعنوي فلا بد من توفير احتياجات اخرى تقوم بانضاج الجانب الروحي واستمرار نشاطه. وان من اهم المراحل الحياتية التي تغذي هذا الجانب هو شهر رمضان المبارك.

 ثالثاً:  التغذية الروحية في شهر رمضان المبارك

على ضوء ما تقدم علمنا انه لا بد من التوجه الى بعض الامور المعنوية التي لا تعنى بنمو الجانب الجسماني من النفس الانسانية، بل تقوم بانضاج وترشيد الجانب المعنوي من هذه النفس، وعلمنا ان افضل عملية تقوم بترشيد هذا الجانب هي عملية ((الصوم)) الذي يمارسه الفرد المؤمن في شهر رمضان المبارك والذي يكون من اهدافه تقوى النفس البشرية وتزكيتها كما قال تعالى: ((يا ايها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)) البقرة/183.

والتقوى كما هو معلوم هي ضبط النفس والسيطرة عليها من ان ترتكب المعاصي والمحرمات ومنعها من ان تلتجأ الى متطلبات النفس الشهوانية والرغبات الحيوانية.

((فان الانسان لا يصوم، الا اذا علم: ان الله له بالمرصاد، وانه اقرب اليه من حبل الوريد، بحيث يعرف صيامه وافطاره، واكله وشربه، ويحصى خطرات قلبه، وتقلب نواياه. واذا علم كل ذلك، يجد نفسه ابداً في حضرة الله سبحانه وتعالى، بحيث يراقبه في كل حركة وسكنة، كما يراقبه الله في كل لفتة، وهمسة ونية. وباستمرار ساعات الصوم وتكرار ايامه فتقوى في نفسه حالة حضورية، لا يستطيع جحودها، فيكون ابداً في خشوع وتواضع ووقار. فكما ان الانسان اذا مثل امام احد الملوك او الزعماء، تملكه حالة مواظبة، تمنعه من اتيان كل ما ينافي مرضاتهم.

كذلك اذا سيطرت عليه ((الملكة الحضورية)) بالنسبة الى الله سبحانه، فانه يكون ((متقياً)) بمعناه الكامل حتى لا ينبعث الا عن رضاه، ولا يأتي بما يخالف ارادته. اليس في بعض الحديث: ((الصوم جُنة)) اشعاراً بانه ((وقاية)) يجب ان يتستر بها الصائم. من شرور نفسه وشرور مجتمعه وشرور الشيطان. وهكذا يكون متقياً رمز اليه القرآن الكريم حيث ختم بيان الصوم بقوله: ((لعلكم تتقون)) ويرقى في مراتب التقوى. حتى يبلغ درجة اليقين. التي عبر عنها الحديث المأثور: ((اعبد الله كأنك تراه. فان لم تكن تراه فانه يراك))(13).

وان افضل وقت لتحقيق معاني التقوى في النفس الانسانية هو شهر رمضان المبارك، وافضل سبيل الى ذلك هو ممارسة تجربة الصوم الرائعة في شهر رمضان او في الاشهر الأخرى، من خلال ممارسة الصوم الواجب او المستحب كما فصلت ذلك الرسائل العملية والكتب الشرعية، الا ان لشهر رمضان ميزة خاصة، حيث تنشر فيه البركة والرحمة، ويتعطر فيه الوجود بعطر انفاس الصائمين الربانية وبأريج النفحات الرحمانية.

ولهذا فمن اجل ان يصل الانسان المؤمن الى الهدف المعنوي ويحقق تسامي الجانب الروحي في نفسه فهو بحاجة الى خوض تجربة هذا الشهر الكريم.

((والصوم بالنسبة شهراً في العام الى الروح كالرياضة السنوية بالنسبة للجسم، فقانون الصحة الجسمية، يحتم على كل عامل يريد حفظ صحته: ان يضمر نفسه شهراً كاملاً في السنة، فيقلل فيه من غذاء النفس أي الاشغال العقلية وكذلك قانون الصحة الروحية، يحتم على كل انسان: ان يقلل من غذاء الجسم، شهراً كاملاً في السنة. ولما كانت حجة اطباء الاجسام في ضرورة الاقلال من تغذية النفس، شهراً كل عام، هو لزوم تعوض ما فقده الجسم من القوة، مدى الاحد عشر شهراً، باستهلاك الاشتغالات العقلية، كذلك يحتج اطباء الارواح، بان القصد من اقلال تغذية الجسم، شهراً كل عام، هو تعويض الروح من القوة، باستهلاك الاشتغالات المادية))(14).

 رابعاً: الفوائد الجسمية لشهر رمضان المبارك

مع ان شهر رمضان المبارك يعتبر من الواجبات الالهية التي تهتم اهتماماً كبيراً في الجانب المعنوي للنفس الانسانية الا ان ذلك لا يعني قلة الاهتمام بالجانب الجسمي لهذه النفس، بل ان للصيام فوائد كثيرة تعنى بهذا الجانب مما جعل هذا الشهر دواء لكل داء كما عبر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك بمقولته المشهورة: ((صوموا تصحوا)).

((وان الصوم يستعمل وقاية من امراض وعلاجاً لامراض أخرى، فاما الفوائد الوقائية للصوم،

فتظهر فيما يلي:

يقرر الطب الحديث: الواجب لاسيما على المتقدمين في السن ان يصوموا يوماً في كل اسبوع، او اسبوعاً في كل شهر، والافضل شهراً من كل عام.

فقد ثبت: ان الانسان، كثيراُ ما يصاب ببعض البؤرات الصديدية، التي تتكون داخل الجسم وتصب افرازاتها السامة في الدم، غير ان الانسان لا يشعر بها الا اذا تضاعف ذلك الافراز، فاذا بالانسان يمرض فجأة بأمراض قد يكون اقلها التسمم ... والصوم، خير وسيلة لتجنب الاصابة بمثل هذه البؤرات، اذ عندما تقل المواد الغذائية في الجسم والاجهزة الداخلية تدب في الاستهلاك تبدأ اول ما تبدأ، باستهلاك الانسجة الداخلية، ومنها الخلايا الصديدية، التي ضعفت نتيجة الالتهاب..

كما ان الصوم يذيب الاورام الصغار في ابتداء تكونها قبل ان تستفحل... ويمنع تكون الحصوات والرواسب الجيرية... ويتيح الفرصة لجهاز الهاضمة المرهقة حتى يستريح قليلاً، فلا يصاب بالضعف او الالتهاب... ويقي الانسان من امراض ((الكلى))... و ((المفاصل))... و ((النقرس))... ويرفّه على القلب، ويمكنه من ان يتنفس وينبض بهدوء كيلا يصيبه ((التورم)) او ((تصلب الشرايين)).

والصوم بصورة اوسع يريح جميع الاجهزة والانسجة والخلايا والغدد من الانهماك في العمل المتواصل. وبذلك يقيها من الضعف والاحتقان والموت الباكر والمرض المزمن، زيادة على ان الصوم بذاته يعتبر من عوامل طول العمر والنشاط الدائب ويخلص الانسان من الخمول، الذي يلازمه على اثر التخمة.

لانه يسبب تنشيط القوى الفكرية، وايقاظ الذكاء وارهاف الذهن ويقيه من الترهل والكسل.

والصوم يستعمل علاجاً لاضطراب الهضم والبدانة وامراض القلب والكبد والكلى والبول السكري وارتفاع ضغط الدم. كما ان الصوم يقلل كمية الماء في الدم؛ وينظم افرازات الغدد فيشفي الامراض الجلدية ويذيب الشحم الزائد ويقضي على السموم التي تحدثها البطنة.

هذه الفوائد الصحية، وغيرها هي التي قادت الاطباء قديماً وحديثاً، الى جعل الصوم وان لم يتسم بحدوده الشرعية قبل كل دواء، وهذه الفوائد وغيرها، هي حدت بهم الى الاعتراف، بان في الصوم حكمة بالغة فجرها الاسلام))(15).

 رمضان والتكامل الانساني

اذا ما علمنا حقيقة الروح الانسانية، وحقيقة ما تحتاج اليه هذه الروح من أجل ان تتسامى في عالم الملكوت، علمنا ان لشهر رمضان دور فعال في اقامة هذا الارتباط الملكوتي، والتوجه بالانسان نحو الهدف الحقيقي والمكان الاسمى في هذا الكون، والذي لا يكون الا عندما تتوطد العلاقة بين الانسان وخالقه، وهذا ما يقوم به شهر رمضان المبارك ويحققه، والذي يمكن ان ندركه من خلال الاطلاع على الحديث القدسي الذي جاء عن رب العزة حيث يقول:

((الصوم لي وانا الذي اجزي به وتخصيص الصوم بذلك لكونه امراً عدمياً لا يظهر لغيره تعالى، فهو ابعد من الرياء واقرب الى الاخلاص ))(16).

قال الشاعر:

من صام نال الفوز من رب العلا           وبوجهه اضحى عليه مقبلا

يـا مـن يروم توسلا وتوصلاً           صم رغبة في قول رب علا

((الصوم لي وانا الذي اجزي به))

وعلى ضوء ذلك فمن اجل ان يتكامل الانسان ويتسامى ويتقدم نحو الهدف الالهي فلا بد ان يعتبر الصوم وشهر رمضان المبارك من الامور اللازمة والضرورية، كما جاء في الرواية الشريفة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ((من عرف الله وعظمه، منع فاه من الكلام وبطنه من الطعام وعنى نفسه بالصيام والقيام...))(17).

فان الانسان الذي يعرف قدر هذا الشهر الكريم وما يعده الله له فيه من خير وبركة فانه لا يتهاون في ترك هذا الخير وهذه البركة، ويمكن ان تكون رواية محمد بن مسلم عن الامام الباقر (عليه السلام) من الدلائل على ذلك حيث يقول (عليه السلام): ((ان الله تعالى خلق ملائكة موكلين بالصائمين يستغفرون لهم في كل يوم من شهر رمضان الى آخره، وينادون الصائمين كل ليلة عند افطارهم: ابشروا عباد الله فقد جعتم قليلاً وستشبعون كثيراً بوركتم وبورك فيكم...))(18).

ومن اجل هذا فان نفس المؤمن لا تمل من العيش من العيش بين حنايا هذا الشهر المبارك بل انها تضل منشدة الى هذه التجربة الكريمة وهذا الجو المفعم بالخير والبركة، ولهذا تجد العارفون بالله عندما يودعون هذا الشهر الكريم فان ارواحهم تبقى والهة الى ذكرياته العطرة فتراهم يترنمون بهذا الدعاء الشريف الذي جاء على لسان الامام زين العابدين عليه السلام:

((فنحن مودعوه وداع من عزَّ فراقه علينا وغمنا واوحشنا انصرافه عنا))(19).

 

ــــــــــــــــــــــ

 

(1) الصحيفة السجادية: ص213.

 

(2) بحار الانوار: ج93، ص347.

 

(3) المصدر السابق: ص346.

 

(4) وسائل الشيعة: ج6، ص174.

 

(5) تهذيب الاحكام: ج4، ص152.

 

(6) وسايل الشيعة ج8، ص227.

 

(7) المصدر السابق: ج7، ص429.

 

(8) المصدر السابق: ص446.

 

(9) الاقبال بالاعمال الحسنة (اقبال سيد بن طاووس) باب 3 فصل 4.

 

(10) لسان العرب: ج10، ص396.

 

(11) مجمع البيان: ج2، ص347.

 

(12) المفردات: ص44.

 

(13) حديث رمضان: ص142.

 

(14) المصدر السابق: ص122.

 

(15) المصدر السابق: ص165 166.

 

(16) بحار الانوار: ج29، ص259.

 

(17) امالي الصدوق: ص249.

 

(18) وسائل الشيعة: ج6، ص176.

 

(19) الصحيفة السجادية: ص228.