إنّ تحليل عهد إمامة الإمام الثاني (عليه السلام) الذي كان يموج بالفتن، في عصرنا الراهن هو مدعاة للاعتبار، وله أهمّية خاصّة عند أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، وإن كان لا يخلو من صعوبة. ولقد كانت لآية الله العظمی الإمام السيّد علي الخامنئي (دام ظله) قبل الثورة الإسلامية دراسات واسعة وتحليلات شاملة في هذا المجال؛ وهذا ما نلمسه في ما سطّره في مقدّمة ترجمته لكتاب صلح الإمام الحسن (عليه السلام) للشيخ راضي آل ياسين، ذلك الصلح الذي يمثّل أعظم مرونة متّصفة بالشجاعة في التاريخ.

يقول الإمام الخامنئي (دام ظله):‌ «الآن، ومن خلال تهيئة ترجمة هذا الكتاب القيّم، ووضع الاسم الذي يجمع أشمل وأدلّ كتاب حول صلح الإمام الحسن (عليه السلام) بين يدي الناطقين باللغة الفارسية، قد حقّقت إحدى أمنياتي القديمة، وأشكر الباري تعالى شكراً كثيراً على ألطافه وتوفيقاته أن وفّقني لترجمة هذا الكتاب، وقد كنت أفكّر لسنين طويلة في أثر خاص بتحليل موضوع صلح الإمام الحسن (عليه السلام)، حتى أنني جمعت بعض المواضيع اللازمة لذلك، ولكن بعد ذلك منعتني الميزات الكثيرة التي يتمتّع بها هذا الكتاب عن فكرتي الأولى، وجعلتني مضطرّاً لترجمة هذا الكتاب القيّم ليس لشيء إلا لينتفع بقراءته الناطقين باللغة الفارسية مثلي، وليوضع لأوّل مرّة مثل هذا الكتاب الكامل والشامل الذي يتضمّن هذا الموضوع فائق الأهمّية، في معرض أفكار الباحثين والمحققين.

لقد كان للصلح أسبابه ودوافعه، ولا يمكن تركه أو الحياد عنه بأي شكل من الأشكال، ولم يكن الوضع يسمح بالاستشهاد آنذاك، فإنّ المرحوم الشيخ راضي آل ياسين (رضوان ‌اللَّه ‌تعالى ‌عليه)، يثبّت في هذا الكتاب (صلح الحسن) - الذي ترجمته قبل عشرين سنة وتمّت طباعته - أن الظروف لم تكن تسمح للاستشهاد أبداً، ومن المعلوم أنّ كلّ قتلة لا تعدّ شهادة، بل إنّ القتل بشروط معيّنة يعتبر شهادة، وهذه الشروط لم تكن متوفّرة آنذاك، ولو فرضنا أنّ الإمام الحسن (عليه السلام) قتل في تلك الظروف فسوف لا يحتسب شهيداً، فلم يكن بالإمكان آنذاك أن يؤدّي شخص - في مثل تلك الظروف - حركة من الحركات المناسبة ثم يقتل ويطلق عليه شهيداً. كلا، بل يطلق عليه منتحراً».

من كلمة لسماحته لدى لقائه شرائح مختلفة من الشعب الإيراني في اليوم الخامس عشر من شهر رمضان المبارك مولد الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) - 22/1/1369 هـ.ش

 

1) بعض أسباب صلح الإمام الحسن (عليه السلام)

ألف: الحرب الإعلامية للعدوّ: لقد ذكرت في أبحاثي حول حوادث تاريخ الإسلام أنّ الذي أدّى إلى هزيمة الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)، وكذا ظهور فتنة الخوارج، ومظلومية أقوى رجل في التاريخ، هو عدم تمتّع الناس بالتحليل والشعور السياسي، فكان العدوّ يشيع خبراً فيقبله الناس بدون إمعان وتدبّر.

من كلمة لسماحته في لقائه جمع من طلبة الجامعات والمدارس بمناسبة اليوم الوطني لمقارعة الاستكبار، 12/8/1372 هـ.ش

 

ب: عدم وعي الناس: أخوتي الأعزاء، إنّنا اليوم في أمس الحاجة إلى وحدة الكلمة أكثر من كل شيء، إنّ عدوّنا غامض جداً وهو يسعى بشكل خفي لتقويض الثورة، وهو لا يظهر بمظهر العدوّ، إنّه يحاول ذلك من خلال النفاق، الخداع، الإعلام، بثّ روح اليأس، ومحاولة إحياء العصبيات القومية والتاريخية والفئوية، لذا ينبغی الانتباه تماماً لدى مواجهته.

ولو لم يكن شعبنا على هذا المستوى من الوعي لأصابه ما أصاب المسلمين في خلافة الإمام الحسن (عليه السلام) أو ما أعقب ذلك من عهد. إنّ سبب ذلك التمزّق يعود إلى اختلاف الكلمة، فحافظوا على وحدة كلمتكم، واعلموا أنّ ذلك من أهم المسائل في وقتنا الحاضر.

من كلمة لسماحته في مراسم بيعة جمع كثير من عشائر عرب خوزستان وأهالي نجف آباد، 19/3/1368 هـ.ش

 

ج: ضعف تحليل الوقائع السياسية لدى عامة الناس: لقد ذكرت كثيراً أنه عندما تفتقد الأمّة القدرة على التحليل، فستخدع ويكون مصيرها السقوط. إنّ أصحاب الإمام الحسن (عليه السلام) لم تكن لهم قدرة على التحليل، ولم يتمكّنوا من فهم تداعيات الأمور وما الذي يدور حولهم، علماً أنّ أصعب المراحل التي تمر بها أي ثورة هي المرحلة التي يلتبس فيها الحق بالباطل، ففي عهد رسول الله (ص) كانت الجبهات مفصولة وواضحة، ففي جهة نجد الكفار والمشركين وأهل مكة، وقد كان كل مهاجر يحمل في ذاكرته خاطرة عنهم، فشخص يقول لقد ضربني فلان في التاريخ الفلاني، والآخر يقول لقد سجنني فلان، وآخر يقول فلان نهب أموالي؛ لذا لم توجد هناك شبهة.

ومن جهة أخرى نجد اليهود، الذين كان جميع أهل المدينة - من المهاجرين والأنصار - يعرفون مؤامراتهم وخدعهم. فالوضع كان واضحاً لا لبس فيه، وفي مثله تكون الحرب أمراً سهلاً، مثلما حفظ الإيمان يكون سهلاً.

لقد قمت في مرحلة من مراحل حياتي بدراسة حكومة أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام)، وما دار حولها من تداعيات دراسة مستفيضة لمدة خمسة سنوات تقريباً، وما تمكّنت من استنتاجه هو أنّ التحليل السياسي حول ذلك كان ضعيفاً، وتوجد هناك مسائل أخرى أيضاً؛ إلا أنّ هذه المسألة كانت أهمها، فمع أنّ غالبية الناس كانوا مؤمنين، لكن إيمانهم كان إيماناً قابعاً تحت هودج أمّ المؤمنين حيث قاتلوا عليّاً (عليه السلام) وكانت نتيجتهم القتل؛ لأنهم لم يكونوا قادرين على التحليل.

من كلمة لسماحته لدى لقائه طبقات مختلفة من الشعب في اليوم التاسع والعشرين من شهر رمضان المبارك، 26/1/1370 هـ.ش

 

عندما تعلو غبرة الفتن الغليظة، نتذكّر عهد الإمام الحسن (عليه السلام)، وأنتم تعلمون ما الذي حدث حينذاك، كما تعلمون بوجود طبقة رقيقة من هذه الغبرة في عهد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أيضاً؛ وكان بعض الأشخاص مثل عمار بن ياسر - الذي يعدّ أعظم فاضح للأعداء في جبهة أمير المؤمنين (عليه السلام) - وبعض كبار صحابة الرسول (ص) يذهبون إلى الناس ويتكلّمون معهم وينصحونهم، وعلى الأقلّ كانوا يزيلون بعض آثار تلك الغبرة من أمام أعين بعضهم. أما في زمن الإمام الحسن، فلم يتحقّق حتى هذا المقدار القليل، فقد كان زمانه زمان شبهة وحرب مع الكفار المقنّعين، من الذين يتمكّنون من تسخير شعاراتهم لأهدافهم، لقد كان زماناً صعباً للغاية، ولم يكن هناك بدّ من الحذر فيه.

والحمد لله أننا لا نعيش في مثل تلك الحقبة، ولم تزل صفوفنا واضحة، ولا تزال أغلب أصولنا وحقائقنا بيّنة، لكن يجب أن لا نكون واثقين من أنّ الأمر سيبقى كذلك دائماً، بل عليكم أن تكون واعين، وتتمتّعون بالبصيرة، وعليكم أن تشخّصوا هل أن قدراتكم مسخّرة لله أم لا؟ وهذا يحتاج إلى بصيرة، فعليكم أن لا تتهاونوا في ذلك.

من كلمة لسماحته لدى لقائه مختلف شرائح الشعب الإيراني في اليوم التاسع والعشرين من شهر رمضان المبارك، 26/1/1370 هـ.ش

 

حشود المعارضين

لقد نمى تيار معارض في عهد الإمام الحسين (عليه السلام) إلى درجة أنه أصبح عقبة في طريقه. وبالطبع لم يكن بروزه في عهد الإمام المجتبى (عليه السلام)، بل قبل ذلك بكثير، ولو أراد شخص أن يغضّ الطرف عن الأدلة العقائدية، ويستند فقط إلى الشواهد التاريخية، لتمكّن من القول إنّ هذا التيار لم يكن قد بدأ في عصر الإسلام وحسب، بل كان استمراراً للأيام التي بدأ الرسول (ص) ينشر فيها دعوته، أي في زمن وجود الرسول في مكة المكرمة.

فبعد أن وصلت الخلافة في عهد عثمان - الذي كان من بني أمية - إلى هؤلاء القوم، كان أبو سفيان المصاب العمى آنذاك جالساً مع أصحابه يستمع لما يدور، فسأل: من الذي في الاجتماع؟ فأجابوه: فلان وفلان وفلان، وعندما اطمئن إلى أنّ الجميع من المقرّبين من بني أمية ولم يوجد غريب بينهم، خاطبهم قائلاً: «تلقّفنّها تلقّف الكرة»، وهذا ما ذكر في تاريخ السنة والشيعة.

هذه ليست مسائل عقائدية، ونحن لا نرغب في بحثها عقائدياً، بل في مناقشتها تاريخيا فقط. ومن المعلوم أنّ أبا سفيان كان قد دخل في الإسلام آنذاك، إلا أنّ إسلامه كان بعد الفتح أو قريباً منه، فلم يكن إسلامه في وقت غربة الإسلام وضعفه، بل بعد اقتداره وقوّته.

هذا التيار قد وصل إلى ذروة قوّته في عهد الإمام الحسن المجتبى (عليه الصلاة والسلام)، وبرز من خلال معاوية بن أبي سفيان - الذي واجه الإمام الحسن (عليه السلام) - وبدأ بالمعارضة والمواجهة وقطع الطريق على الحكومة الإسلامية - أي الإسلام في إطار حكومة - وخلق مشاكل كثيرة أدّت بالنتيجة إلى منع قيادة التيار الذي يؤدّي إلى تأسيس الحكومة الإسلامية.

من كلمة لسماحته في اليوم الخامس عشر من شهر رمضان المبارك مولد الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) 22/1/1369 هـ.ش

 

حفظ النظام والحكومة في إطار إسلامي

إنّ عهد الإمام المجتبى (عليه الصلاة والسلام)، وحادثة صلح هذا الإمام العظيم مع معاوية، أو ما يسمى بالصلح، تعتبر حادثة مصيرية وليس لها نظير في جميع مناهج الثورة الإسلامية في صدر الإسلام. وسأوضّح هذه المسألة توضيحاً مختصراً ثمّ أدخل في أصل الموضوع.

إنّ الثورة الإسلامية، تعني الفكر الإسلامي والأمانة التي أرسلها الله تعالى للناس وأطلق عليها الإسلام، وقد برزت في عهدها الأوّل بعنوانها حركة في إطار نهضة ومقاومة ثورية عظيمة، وذلك بالتزامن مع إعلان الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) عن هذا الفكر في مكة، وقد أصطف أعداء الفكر التوحيدي والإسلامي لمقاومة ذلك؛ ليمنعوا هذا الفكر من التقدّم، فقام الرسول (ص) من خلال دعوة القوى المؤمنة بتنظيم هذه الثورة، فأوجد مقاومة واعية وقويّة وراقية جداً في مكة دامت ثلاثة عشر عاماً، وهذا كان هو العهد الأول من الرسالة.

وبعد ثلاثة عشر عاماً، أصبح هذا الفكر في إطار حكومة ونظام، وتحوّل إلى نظام سياسي وحياتي لأمّة كاملة؛ نتيجة لتعليمات الرسول (ص) وشعاراته وتنظيماته وتضحياته ومجموعة العوامل الأخرى التي توفّرت، وكان ذلك في الوقت الذي تشرّف فيه رسول الله (ص) بالقدوم إلى المدينة، وجعل له قاعدة فيها، ونشر من خلالها الحكومة الإسلامية، وتحوّل الإسلام إلى ثورة ودولة، وهذا هو العهد الثاني من الرسالة.

إنّ هذا النهج دام لمدة عشر سنوات من حياة النبيّ (ص)، وبعده في عهد الخلفاء الأربعة، وبعد ذلك في عهد الإمام المجتبى (عليه الصلاة والسلام) الذي دام ستة أشهر تقريباً، حيث برز الإسلام كحكومة، وكانت كل الأمور تسير على وفقاً لنظام اجتماعي؛ أي أنّ الشعب كان يسير في إطار حكومة وجيش وعمل سياسي وثقافي وقضائي، بالإضافة إلى تنظيم العلاقات الاقتصادية للشعب، وكل ذلك كان قابلاً للتطوّر، ولو سارت الأمور وفق ذلك لتمكّن الإسلام من تطبيق ذلك في جميع نواحي العالم؛ أي أنّ الإسلام قد أظهر قدرته على ذلك.

من كلمة لسماحته في اليوم الخامس عشر من شهر رمضان المبارك مولد الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) 22/1/1369 هـ.ش

 

لقد استشهد أمير المؤمنين (عليه السلام) بسبب تلك الأوضاع. ومن بعده جاء ابنه الحسن (عليه السلام) الذي لم يتسنّ له الصمود بوجه تلك الحالة أكثر من ستة أشهر، إذ تخلّى عنه أنصاره وتركوه فريداً وحيداً؛ فرأى أنّه إذا سار لمحاربة معاوية بهذه الثلّة القليلة واستشهد فلن يطالب أحد حتى بثأره نتيجة لاستشراء الانحطاط الخلقي في المجتمع الإسلامي، وبين هؤلاء الخواص! وإنّ دعاية معاوية وأمواله وحيله ستستحوذ على الجميع، وسيقول الناس بعد مضي سنة أو سنتين: إنّ الإمام الحسن لم يحسن صنعاً - أساساً - حين تحدّى معاوية، ومعنى هذا أنّ دمه سيذهب هدراً، لذلك تحمّل جميع المصاعب ولم يُلقِ بنفسه في ميدان الشهادة.

أنتم تعلمون أنّ الشهادة تكون أحياناً أسهل من البقاء على قيد الحياة. وهذا المعنى يدركه أهل الحكمة والآفاق المعنوية جيداً. أحياناً تصبح الحياة والعمل في أجواء معيّنة أصعب بكثير من القتل والشهادة ولقاء اللّه، لكن الإمام الحسن (عليه السلام) سلك هذا السبيل الأصعب.

في تلك الأوضاع كان الخواص في حالة انهيار ولم يكونوا على استعداد للقيام بأي تحرّك. ولهذا السبب حينما استلم يزيد السلطة ثار عليه الإمام الحسين (عليه السلام)؛ لأنّ يزيد بما يتّصف به من صفات سيّئة كان من السهولة محاربته، وفيما لو قتل أحد في محاربته لا يذهب دمه هدراً.

2) خصائص المجتمع في عهد إمامة الإمام الثاني (عليه السلام)

كانت الأوضاع في عهده لا خيار فيها إلاّ خيار الثورة، على العكس من زمن الإمام الحسن (عليه السلام) الذي فيه خياران: خيار الشهادة، وخيار الحياة، وكان البقاء على قيد الحياة أكثر ثواباً وجدوى ومشقّة من القتل، والإمام الحسن (عليه السلام) اختار هذا المسلك الأوعر. ولكن الوضع لم يكن على هذه الصورة في عهد الإمام الحسين (عليه السلام) ولم يكن هناك إلاّ خيار واحد! والبقاء على قيد الحياة الذي يعني عدم الثورة ما كان له آنذاك أي معنى، كان لابد له من الثورة، سواء انتهى به الأمر إلى القبض على الحكم أم كان مصيره إلى الشهادة. كان عليه أن يرسم الطريق ويركّز لواء الدلالة عليه، ليكون واضحاً أن الأمور إذا بلغت هذا الحد لابدّ وأن يكون التحرّك في هذا الاتجاه.

من كلمة لسماحته في جمع من قادة 27 فرقة محمد رسول ‌الله (ص)، 20/3/1375 هـ.ش

 

ألف: لا محيص من الصلح: لقد ذكرت في باب صلح الإمام الحسن (عليه السلام)، هذه المسألة عدة مرات وقد دوّنتها الكتب أيضاً، وهي أنّ أي شخص - حتى أمير المؤمنين (عليه السلام) نفسه - إذا كان في محل الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)، وعاش تلك الأوضاع، لا يمكن أن يعمل عملاً غير الذي عمله الإمام الحسن، ولا يمكن لأحد أن يدّعي أنّ الإمام الحسن (عليه السلام) قد أخطأ في جانب من جوانب عمله، كلا فإنّ عمل ذلك الإمام العظيم قائم على الاستدلال المنطقي مئة بالمائة، وغير قابل للتخلّف والاختلاف.

فمن الذي كان أكثر حماساً من بين آل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)؟ ومن كانت حياته ممزوجة بنَفَس الشهادة أكثر من غيره؟ ومن كان أكثرهم غيرة على حفظ الدين مقابل الأعداء؟ لقد كان ذلك الحسين بن علي (عليه السلام)، ومع ذلك فقد كان هذا الإمام العظيم شريكاً في الصلح مع الإمام الحسن (عليه السلام)، فلم يكن الصلح مختصّاً بالإمام الحسن، بل إنّ الإمام الحسن والإمام الحسين قاما معاً بهذا العمل، إلا أنّ الإمام الحسن (عليه السلام) كان ظاهراً في الصورة، والإمام الحسين (عليه السلام) يناصره من خلفه.

إنّ الإمام الحسين (عليه السلام) كان من الثلة التي ناصرت الإمام الحسن (عليه السلام) في الصلح، فعندما اعترض أحد الأنصار - والمتحمّسين - في مجلس خاص من مجالس الإمام على عمله (عليه الصلاة والسلام)، اعترضه الإمام الحسين «فغمز الحسين في وجه حجر»؛ لذا لا يستطيع أحد أن يقول: إذا كان الإمام الحسين مكان الإمام الحسن، لم يعقد هذا الصلح. كلا إنّ الإمام الحسين كان مع الإمام الحسن وعقد هذا الصلح، ولو فرضنا عدم وجود الإمام الحسن (عليه السلام)، وكان الإمام الحسين (عليه السلام) لوحده، لأقرّ عمل الإمام الحسن (عليه السلام) وأنجز ذلك الصلح.

اليوم الخامس عشر من شهر رمضان المبارك مولد الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) 22/1/1369 هـ.ش

 

ب: عدم توفّر الأوضاع المناسبة لتعريف تيّار الحق: لو أراد الإمام الحسين (عليه السلام) الثورة في عصر معاوية لما سُمع نداؤه؛ وذلك لأنّ الحكم والسياسات كانت بشكل لا يمكن للناس فيها سماع قول الحقّ، لذلك فإن الإمام الحسين (عليه السلام) لم يُقدم على شيء ولم يثر أيام خلافة معاوية، مثلما أنّ الإمام الحسن (عليه السلام) لم يثر على معاوية، لأنّ الظروف لم تكن مواتية، لا أنّ الإمام الحسن (عليه السلام) لم يكن أهلاً لذلك، لأنه لا فرق بين الإمام الحسن (عليه السلام) والإمام الحسين (عليه السلام)، ولا بين الإمام الحسين والإمام السجّاد (عليه السلام)، ولا بين الإمام الحسين (عليه السلام) والإمام عليّ الهادي (عليه السلام) أو الإمام الحسن العسكري (عليه السلام). بالطبع منزلة الإمام الحسين (عليه السلام) - الذي أدّى هذا الجهاد - أرفع من الذين لم يؤدّوه، لكنّهم سواء في منصب الإمامة، ولو وقع هذا الأمر في عصر أيّ منهم لثار ذلك الإمام ونال تلك المنزلة.

خطبة صلاة الجمعة (عاشوراء 1416هـ)، 19/03/1374 هـ.ش

 

ج: حفظ الإسلام في إطار ثورة: لقد تحدّثنا عن الأبعاد المختلفة للصلح، إلا أن المسألة التي لابد أن تطرح هنا هي أنّ صلح الإمام الحسن المجتبى (عليه الصلاة والسلام) أدّى إلى تنظيم الأمور بشكل واعٍ وذكي، بحيث منع الإسلام والتيار الإسلامي من الورود في القناة الملوّثة التي كان ظاهرها الخلافة وحقيقتها السلطنة، وكان هذا هو الفن الذي مارسه الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)، فقد عمل (عليه السلام) عملاً يمنع من دخول التيّار الإسلامي الأصيل - الذي انطلق من مكة إلى أن وصل عهد الإمام أمير المؤمنين وعهده - في تيار آخر، وهو وإن لم يكن في إطار حكومة - لعدم إمكانية ذلك حينذاك – إلاّ أنه كان في إطار تيّار ثوري، وهذا هو العهد الثالث للإسلام. لقد عاد الإسلام بإطاره الثوري مرّة أخرى، وبقي الإسلام في هذا الإطار خالصاً وأصيلاً، لا يقبل المهادنة، بعيداً عن التحريف، منزّهاً من الوقوع في التلاعب والأهواء.

إنّ فكر الثورة الإسلامية - الذي اجتاز عهداً وأمسك بزمام القدرة والحكومة - قد رجع مرّة أخرى في عهد الإمام الحسن (عليه الصلاة والسلام)، في إطار ثورة جديدة، وبالتأكيد فالعمل من أجل هذه الثورة في ذلك العهد كان أصعب بدرجات من عهد الرسول (ص) نفسه؛ لأنّ الشعارات كان يطلقها أشخاص ارتدوا زيّ الدين، والدين براء منهم، وهنا تكمن صعوبة عمل الأئمة (عليهم السلام).

اليوم الخامس عشر من شهر رمضان المبارك مولد الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) 22/1/1369 هـ.ش

د: خطر الانحراف عن أصل الإسلام: إنّ الانحراف على قسمين، فتارة ينحرف الناس، وهذا ما يقع كثيراً، لكن تبقى أحكام الإسلام مصونة، وتارة ينحرف الناس ويفسد الحكّام والعلماء ومبلّغو الدِّين، فيحرّفوا القرآن والحقائق، وتبدّل الحسنات سيّئات والسيّئات حسنات، ويصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً، ويحرَّف الإسلام 180 درجة. فلو ابتلي النظام والمجتمع الإسلامي بمثل هذا الأمر، فما هو التكليف حينئذ؟ لقد بيّن النبيّ (ص) وحدّد القرآن التكليف {من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبّهم ويحبّونه أذلّة على المؤمنين أعزّة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم}. إضافة إلى آيات وروايات كثيرة أخرى.

لكن هل تمكّن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) من العمل بهذا الحكم الإلهي؟ كلاّ، لأنّ هذا الحكم الإسلامي يُطبّق في عصر ينحرف فيه المجتمع الإسلامي ويبلغ حدّاً يُخاف فيه من ضياع أصل الإسلام، والمجتمع الإسلامي لم ينحرف في عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ولم ينحرف في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) بتلك الصورة، وكذا في عهد الإمام الحسن (عليه السلام) عندما كان معاوية على رأس السلطة، وإن ظهرت الكثير من علائم ذلك الانحراف، لكنّه لم يبلغ الحدّ الذي يُخاف فيه على أصل الإسلام. نعم، يمكن أن يقال إنّه بلغ في برهة من الزمن ذلك الحدّ، لكن في تلك الفترة لم تتاح الفرصة ولم يكن الوقت مناسباً للقيام بهذا الأمر.

إنّ هذا الحكم الذي يعتبر من الأحكام الإسلاميّة لا يقلّ أهمّية عن الحكومة ذاتها، لأنّ الحكومة تعني إدارة المجتمع، فلو انحرف المجتمع وفسد، وتعطّل الحكم الإلهي، ولم يوجد عندنا حكم وجوب تغيير الوضع وتجديد الحياة أو بتعبير اليوم (الثورة)، فما الفائدة من الحكومة الإسلامية؟. فالحكم الذي يرتبط بإرجاع المجتمع المنحرف إلى الخطّ الصحيح لا يقلّ أهمّية عن الحكومة ذاتها، ويمكن أن يقال إنّه أكثر أهمّية من جهاد الكفّار ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الطبيعيين في المجتمع الإسلامي، بل وحتّى من العبادات الإلهية العظيمة كالحج. لماذا؟ لأنّ هذا الحكم - في الحقيقة - يضمن إحياء الإسلام بعد أن أشرف على الاندثار أو اندثر وانتهى.

خطبة صلاة الجمعة (عاشوراء 1416هـ)، 19/03/1374 هـ.ش

 

إن أكبر وأقسى ضربة وجّهت للإسلام في صدره الأول هي تحوّل الحكومة الإسلامية من الإمامة إلى السلطنة، حيث استحالت حكومة الإمام الحسن وحكومة علي بن أبي طالب إلى سلطنة في الشام! وفي الحقيقة فإن الإمام الحسن المجتبى (عليه آلاف التحيّة والثناء) اضطر إلى قبول ذلك العهد مع معاوية من أجل مصلحة أكبر وهي الحفاظ على أصل الإسلام. لقد سلبوا الإمام الحسن حكومته، وعندما خرجت الحكومة عن محورها الديني وباتت في قبضة طلاّب الدنيا وأهلها، فمن البديهي عندئذ أن تقع حادثة كربلاء لاحقاً، وهي حادثة يستحيل الحيلولة دون وقوعها وتجنّبها.. فبعد عشرين عاماً من استلاب الحكومة الإسلامية عن محورها الأصلي - أي الإمامة - فإن الإمام الحسين سبط الرسول (ص) وصل به الحال إلى ذلك الوضع المأساوي والدموي في كربلاء، فالهدف الأساس من هجوم العدو وخطّته هو إبعاد الحكومة عن محورها الأصلي - وهو محور الإمامة والدين - ظنّاً منه أنه بذلك سيستطيع تحقيق مآربه!..

وإنني أقول لكم بأن العدوّ ليس بمقدوره اليوم شيء؛ وبفضل شعبٍ واعٍ كالشعب الإيراني وأفكار مدهشة كأفكار الشعب الإيراني وثورة عظمى كالثورة الإسلامية في إيران، فإنه لن يكون بمقدور أمريكا ولا أعظم من أمريكا - بحسب القوى المادية - فرض حادث كحادث صلح الإمام الحسن على دنيا الإسلام، وحتى إذا شدّد العدو من ضغوطه، فستقع حادثة كربلاء مرة أخرى.

من كلمة لسماحته مع الشباب في مسجد طهران الجامع، 1/2/1379 هـ.ش

 

في رواية عن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) أنّه كان مارًاً في يوم عيد الفطر المبارك، فرأى قوماً واقفين يلعبون ويتسلّون ويضحكون متلهّين وغافلين عن أهمية ذلك اليوم, فوقف عندهم وقال: «إن اللَّه جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه، يستبقون بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وقصّر آخرون فخابوا، فالعجب كل العجب من ضاحكٍ لاعبٍ في هذا اليوم الذي يثاب فيه المحسنون ويخسر فيه المبطلون»، ثم قال (عليه السلام): «لو كشف الغطاء لعلموا أنّ المحسن مشغول بإحسانه، والمسي‌ء مشغول بإساءته».

خطبة صلاة عيد الفطر المبارك، 4/1/1372 هـ.ش