الشيخ عبد الكريم عبيد (بلال قبلان)

 

نبيه عواضة

تتجاوز عقارب الساعة منتصف ليل الجمعة، فيسمع الشيخ المستلقي في سريره في منزل قريته الجنوبية دويا عميقا يكسر هدوء الليل. هواء قوي يزيح ستارة النافذة، وما أن همّ وسط العتمة ليجلس متفقدا، لاقته بنادق مصوبة نحو رأسه، وبلغة عربية متكسرة قال له احد الجنود "لا تتحرك". لم يمتثل عبد الكريم وانتفض مستخدما كل جسده، ليبدأ العراك مع الجنود، فتمكنوا منه بعد أن بات وجهه مدمى وأصبح عاريا تماما ليقفل عينيه لحظة شعر بوخزة ابرة.

في الثامن والعشرين من تموز 1989، حطت مروحيتان إسرائيليتان في خراج بلدة جبشيت الجنوبية وانزلتا مجموعة من الجنود من وحدة النخبة في لواء المظليين "غفعاتي". توغلوا مسافة كيلومترين نحو منزل الشيخ "ابو ساجد"، وهناك رابطوا قليلا ثم انقضوا مستفيدين من "معارك الفتنة السوداء" بين حركة "امل" و"حزب الله" في الجنوب.

وثقت يدا الحاجة "أم ساجد" وقد ارتدت بسرعة عباءتها، ولم يسمح لها باحتضان رضيعتها. "ويلها" على زوجها أم "ويلها" على مجاهدة ابنة الأربعة أشهر التي تركت باكية وحولها إخوتها يبكون أيضا: ساجد 7 سنوات، مجاهد 6 سنوات، ساجدة 5 سنوات، أما مجتبى فكان يبلغ قرابة العامين. في المنزل، كان يسهر أيضا قريبه احمد عبيد وابن قريته هاشم فحص، واعتقد جنود العدو أنهما من مرافقي الشيخ، فاقتادوهما إلى المعتقل حيث قبعا خلف القضبان 11 سنة. أنها أطول سهرة في حياتهما.

 

الصلاة.. قبل التحقيق

ظهر اليوم التالي، أفاق الشيخ من غيبوبته. جدران مطلية بالأبيض في غرفة كبيرة أشبه بمستوصف. ما أن سمع الجنود يتحدثون بالعبرية، حتى أدرك انه وقع في الأسر. تحسس جسده العاري، وحاول إزالة العشب عن جراحه، يبدو انه سحب بسرعة محولا بين الشجر.

تقدم نحوه المحقق "سيمون" (كان اسمه في لبنان ميشال) وعرفه الشيخ، فقد سبق له أن شاهده مرتين في جبشيت خلال فترة الاحتلال، مرة في يوم استشهاد الشيخ راغب حرب ومرة أخرى يوم حاولوا اعتقاله بعد اغتيال حرب.

رون اراد (الطيار الاسرائيلي المفقود الذي أسقطت طائرته في 1986)، الضابط الأمريكي هيجنز (احد الرهائن المختطفين في لبنان في منتصف ثمانينيات القرن الماضي وقد قتل) والجنديان الإسرائيليان (كانا اسيرين لدى المقاومة في العام 1986 وتمت مبادلة جثتيهما لاحقا بأسرى من معتقل الخيام عام 1991). كرر "سيمون" الأسماء مرارا. بقي الشيخ صامتا، ثم قال للمحقق "كم الساعة الآن"؟ انفعل الضابط غضبا، قبل أن يتمالك نفسه ويقول "اليوم الجمعة"، قال عبيد:"بدي اتحمم وبدي صلي"، قال المحقق بالعربي "شو فاتحلك جامع هون"، ثم أعطى تعليماته لجنوده بضرب الشيخ لكن ذلك لم يثن الأخير تكرار طلبه "الصلاة قبل الكلام"، وفي غرفة بنية اللون يتدلى من سقفها "رشاش ماء" يغطي كل مساحة الغرفة، اقتيد الشيخ عاريا، ورمي بمياه شديدة السخونة ثم بمياه باردة ولا مفر من هذه أو تلك في مواجهة زوايا إسمنتية نافرة ومسننة في كل الجدران. تكرر الأمر إلى أن خارت قوى الشيخ وسقط أرضا. كان هذا حمامه الأول عقابا له. صلى الشيخ بعد أن أفاق من حفلة التعذيب الأولى، ليبدأ التحقيق معه.

 

راغب حرب شهيدا

كان السادس عشر من شباط 1983 يوما كئيبا إذ تناقلت وسائل الإعلام خبرا مفاده أن عملاء الاحتلال أطلقوا النار على الشيخ راغب حرب، ما أدى إلى استشهاده. بكى الشيخ عبيد أمام قريته ورفيق دربه فور تبلغه الخبر، وقرر بالتنسيق مع قيادة الحزب الذهاب إلى الجنوب كي لا يحدث فراغا ميدانيا.. وتسلم منصب مسؤول شورى الجنوب في "حزب الله".

المعابر إلى الجنوب اقفلها الاحتلال بعد الاغتيال. الجنوب يشتعل غضبا. تحدث مواجهة أثناء تشييع الشيخ راغب. يصل عبيد إلى بلدته، فيذهب مباشرة إلى جبانة القرية. يعاهد نفسه والشهيد حرب أن لا يترك القرية، فكان أن بقي هناك حتى وقوعه في الأسر.

انتهت جولة التحقيق الأولى التي استمرت لأكثر من ثلاثة أيام متواصلة لم ينم خلالها الشيخ لحظة واحدة. البسه السجان جاكيت صيفية وسكب الماء الساخن عليه ومن ثم وضعه تحت مكيف ساخن (في الشتاء يفعلون العكس ماء بارد وثياب خفيفة ومكيف بارد). اقتيد إلى زنزانة حمراء صغيرة جدا لا يوجد بها إلا سطل صغير لقضاء الحاجة. لحظات ويطرق السجان باب الزنزانة صارخا "الكيس على راسك وأيديك على الحيط". ينهض الشيخ المتعب من أرضه بصعوبة ويضع الكيس ومن ثم يرفع يداه على الحائط وقد اسند إليه رأسه. فتح الباب ثم اقفل، انزل الكيس فرأى صحنا صغيرا قد أزاحه الجندي الخائف بقدمه ووجد قطعة لحمة صغيرة جدا. قرر الشيخ أن ينحي الصحن جانبا ولم يتناول الطعام وحين عاد الجلاد وشاهد الطعام كما هو، أمطره بكلام بذيء. صار الأكل وسيلة ضغط إضافية، فقرر الشيخ الصوم وظل حتى يوم خروجه من الأسر في 29 كانون الثاني 2004. كان يفطر 8 أيام في السنة (3 أيام عيد الفطر،4 أيام عيد الأضحى، ويوم واحد في يوم عاشوراء).

 

بكى السيد عباس ووالدته

مجموعة من الضباط ومن بينهم "سيمون" يجلسون في غرفة وقبالتهم تلفاز صغير. قيل للشيخ انظر.. هناك تقرير إخباري عن لحظة اعتقالك. تابعه الشيخ بصمت إلى أن ظهرت والدته تبكيه. لم يتمالك الشيخ أعصابه واجهش في البكاء. التفت الضباط نحوه وقد علت الابتسامة وجوههم. اعتقدوا أنهم أصابوا الشيخ. أمه نقطة ضعفه. هكذا ظنوا، احدهم حاول استغلال الموقف، فناول الشيخ منديلا ليمسح دموعه. كان مشهد أمه وهي تبكي من أكثر ما اثر في الشيخ في المعتقل كذلك حين علم باستشهاد أمين عام حزبه السيد عباس الموسوي. يومها أحضرت له جريدة عربية قديمة التاريخ، وتذكر حين قرأ الخبر ذاك المنام الغريب الذي شاهد به الشيخ راغب والسيد عباس معا. قال حينها لنفسه "لا حول ولا قوة إلا بالله". حزن كثيرا لفقدانه اقرب المقربين إليه السيد عباس ثم أمه التي جاءه الصليب الأحمر بخبر وفاتها بعد عشر سنوات.

عاش عبيد تجربة مريرة في الأسر إذ بقي متنقلا بين زنازين التحقيق والانفرادي لأكثر من 14 عاما وسط ظروف قاهرة. كان ينقل في سيارة كبيرة مكبل اليدين معصوب العينين إلى المحكمة كل ثلاثة أشهر لتمديد اعتقاله الإداري والتهمة واحدة "تشكل خطرا على دولة إسرائيل". بداية رفض صاحب أطول حكم إداري في إسرائيل أن يتولى احد الدفاع عنه إلى أن صدر قرار من المحكمة العليا بتعيين محام له.

الشيخ الذي استجوبه أيضا محققون من وكالة الاستخبارات الأمريكية (اف بي اي)، جلس أمام كاميرا فيديو وبدا قربها ضابطان أميركيان ودليل لبناني قال انه من زحلة وتولى الترجمة، إضافة إلى "سيمون" وكان الموضوع حصرا: الرهينة هيغنز.

 

الشيخ.. والحاج معا

كان الشيخ عبيد والحاج مصطفى الديراني يتناوبان بصورة منفردة على الخروج إلى باحة الشمس التي شاهدها الشيخ للمرة الأولى بعد مرور عشرة أشهر على اعتقاله، يومها أخرجه الجلاد من زنزانته كالعادة وقد وضع الكيس في رأسه وما إن وصل منتصف الباحة حتى قام السجان بنزع الكيس عن رأسه فأصيب الشيخ بدوار قوي لم يستطيع إلا أن يخفي عينيه تحت يديه كي لا يتضرر نظره من شدة الضوء.

كانت المراسلة بينهما تتم عبر وضع الحجارة بطريقة معينة ليأتي الحاج ويضعها بطريقة أخرى إلى أن تجرأ الشيخ وكتب رسالة وخبأها في الباحة، لم يكن يعلم أن كل شيء مراقب فاكتشف بعد فترة أن المراسلات بينه وبين الحاج كان المحققون يتابعونها، ليقرروا وقفها بعد أن تبين لهم أنها لم تكن ولن تكن إلا عبارة عن أدعية دينية. لاحقا، تم وضع الأسيرين في زنزانة واحدة حيث تقاسما مرة حبة العنب وتخاصموا على من يأخذ حبة الزيتون الزائدة.

بعد عشر سنوات على اعتقاله، تلقى عبيد عبر الصليب الأحمر رسالة من أهله تبلغ فيها نبأ وفاة والدته ثم رسالة أخرى بعد اسر الجنود في جنوب لبنان أما الرسالة الثالثة فكانت حين تبلغ بخبر وفاة والده.

 

الحرية.. ولقاء "السيد"

غادر الشيخ عبيد سجن هداريم يوم الثلثاء في 27 كانون الثاني، وهناك عرف بتبادل الأسرى. عند الساعة الثالثة من عصر يوم الأربعاء في28 كانون الثاني من العام 2004، تم نقل الأسرى إلى المطار وبعد تفتيش دقيق جدا صعدوا إلى الطائرة وقد وثق كل أسير إلى الأسير الآخر باليدين والرجلين معا، بحيث لا يمكن أن يتحرك الواحد بلا الآخر. أقلتهم طائرة عسكرية إلى المطار في ألمانيا. وصل الأسرى وهناك انتظروا قليلا. يخرج الشيخ عبيد من الطائرة العسكرية الإسرائيلية ولا يخرج أي من الجنود خلفه. نظر وراءه فأحس بلحظة حريته، إلى أن لاقاهم احد الضباط الألمان واتجه به ورفاقه نحو مركز صغير كان ينتظره فيه اللواء جميل السيد بصفته مديرا عاما للأمن العام والقيادي في الحزب الحاج وفيق صفا إضافة إلى مجموعة من الصحافيين ومن هناك صعدوا جميعا إلى طائرة ألمانية أقلتهم إلى مطار بيروت.

كان الشيخ أول من نزل من الطائرة. عانقه الرؤساء أميل لحود ونبيه بري ورفيق الحريري، ثم اقترب من قائده مثل طفل يتعلم السير للمرة الأولى، وما أن عانق السيد حسن نصرالله حتى أحس انه يعانق الشيخ راغب حرب والسيد عباس الموسوي. هنا لم يتمالك نفسه، وقد خفف عنه "السيد" بكلامه قائلا له:"الحمد الله أثمرت جهودنا، هذا نصر ثان للمقاومة وللمؤمنين وللبنان".

14 عاما و11 شهرا ويوما واحدا من الأسر انطوت كلها لحظة عناق "السيد"، أما أمنيته الوحيدة اليوم، فهي أن ينال الشهادة كما نالها الشهيد عباس الموسوي "شرط أن لا يبقى لي اثر".

 

حين اختار عبيد المشيخة لا الهندسة

ذهب الشيخ عبد الكريم عبيد المولود سنة 1957 مع والده الفلاح علي بشير عبيد وأمه الفلاحة أمنة صادق قازان إلى بيروت بعدما ترك وهو اصغر إخوته مدرسته الابتدائية في جبشيت وانتقل إلى مدرسة المصيطبة الرسمية وكان ذلك في العام 1964. انهى عبيد الامتحانات الرسمية وكانت تلك آخر شهادة رسمية بعدما انفجرت الحرب الاهلية(1975)، ليجد الشاب نفسه مجندا في احتياط الجيش اللبناني في ثكنة الفياضية لمدة ثلاثة أشهر، إلى أن حاصرت "الكتائب" الثكنة مدة ثلاثة أيام فكان أن تم تهريبه هو وعدد من رفاقه إلى بيروت الغربية. ترك الجيش وأصبح تلميذا في معهد الفنون الجميلة. حادث سيارة يتعرض له ينتج عنه كسر في فخذه ليبقى أسير وجعه برغم كل العمليات الجراحية التي أجريت له. كانت رجله مهددة بالبتر، غير أن والدته الحاجة "نذرت" بأنه إذا شفي ستأخذه مع والده لأداء مناسك الحاج، وهذا ما حصل.

عاد "الحاج عبيد" إلى بيروت وقد بدأت تصل تباعا أخبار انتصار الثورة الإسلامية في إيران. "انه الحلم"، على حد تعبيره. لم يتردد في الاختيار بين أن يتابع دراسة الهندسة المعمارية أو أن يذهب إلى إيران. في طهران، درس "المشيخة" في حوزات قم حتى العام 1982. كانت بيروت تشتعل بالنار، وكان الشيخ عبيد في زيارة إلى لبنان، فانخرط في أجواء المقاومين خصوصا وأنه كان مقربا جدا من سماحة السيد محمد حسين فضل الله الذي عامله كما لو انه ابنه. نصحه "السيد" بان يذهب ثانية إلى إيران لمتابعة تحصيله الديني، ليعود منها في العام 1983 وقد أصبح شيخا معمما.

خاض الشيح عبيد مغامرته الأولى خطيبا في مسجد بلدته بطلب من العلامة الراحل بعد اعتقال الشيخ راغب حرب. بقي الأخير في المعتقل 17 يوما، وحين خرج عاد عبيد إلى بئر العبد وتعرف عن قرب إلى الشهيد عباس الموسوي وقادة آخرين في "حزب الله".