إن أوضاع الأمة في هذا المفصل الدقيق تقتضي من النخب بأن تستفيد من الخصائص القيادية عند الإمام الراحل(قدس سره)، وأن تعيد بناء علاقتها بالثورة انطلاقا من هوية الثورة كما صاغها قائدها وفيلسوفها،وليس من منطلق التأثر بمفردات الحملات المغرضة التي تريد أن تحشر الثورة في العنوان المذهبي أو تقحمها في الحساب الإقليمي والمصلحي الضيق.

 

بقلم عبد الرحيم التهامي. 

نعيش هذه الأيام في أجواء عشرة الفجر المباركة، عشية انتصار الثورة الإسلامية في ذكراها الخامسة و الثلاثين؛ وهي الذكرى التي في العادة تـُستعاد فيها المسيرة الثورية للإمام الراحل، ويـُلقى فيها الكثير من الضوء على مشروعه الإحيائي والاستنهاضي في أبعاده الحضارية والتحررية، وعلى مميزات شخصيته القيادية، كما هي -أيضا- فرصة للنظر والتأمل في خصائص مدرسته الفقهية ومنهجه الاجتهادي، ولأن المناسبة تستدعي كل هذا وأكثر بما لا يسعه المجال هنا، فإننا ولدوافع منهجية سنقصر الحديث عن ملامح من الأداء القيادي للإمام قبل وبعد عودته من منفاه الاضطراري، ونلقي بعض الضوء حول طبيعة وهوية المشروع الثوري للسيد الإمام (قده)، فالأداء القيادي وهوية الثورة هما عنصران محوريان في واقعة الثورة الإسلامية، وأوضاع الأمة في هذا المفصل الدقيق من الصراع تقتضي من بعض حركات التحرر الوطني والإسلامي أن تستفيد من الخصائص القيادية عند الإمام الراحل(قده)، وأن تعيد بناء علاقتها بالثورة انطلاقا من هوية الثورة كما صاغها قائدها وفيلسوفها، لا من منطلق التأثر بمفردات الحملات المغرضة التي تريد أن تحشر الثورة في العنوان المذهبي أو تقحمها في الحساب الإقليمي والمصلحي الضيق.

 

ملامح من النهج القيادي للإمام الخميني (قده):

منذ بداية حركته الثورية كان المحدد عند الإمام(قده) هو التكليف الشرعي، فلم يلجأ الإمام إلى تكتيكات مرحلية تـُخضع مشروعه الثوري والمتمثل في إسقاط نظام الشاه الفاسد وإقامة الحكومة الإسلامية إلى إكراهات الواقع وما أكثرها في مسيرة الإمام، بل كان مصمما وواضحا في رؤيته ومشروعه، وكان يجيّــر كل مواقفه المتصلة بهذا التطور أو ذاك لصالح تعزيز مظاهر الحالة الثورية واستقطاب أوسع الجماهير إلى صفوفها، كان كل موقف، كل تحرك، كل فداء يصب توسعة وتعزيزا للحالة الثورية وبناءً لها. وليس خافيا أنه لم يكن في مقدور الثورة أن تستفيد من رأسمال كبير في الحوزة، لأن البعض كان لا يرى مشروعية في القيام والثورة، لكن الإمام وبمعية الفئة المؤمنة التي آمنت بخطه ونهجه راهن على الجماهير، ونجح الإمام في ذلك نجاحا عظيما، استطاع الإمام بثباته ووضوح رؤيته وشجاعته وضبط إيقاع حركته على وفق خط تصاعدي نحو الثورة، لم يزحزحه ضغط أو إرهاب قيد تكتيك مرحلي عن الهدف الأساس؛ وهو التحرر من الاستبداد وبناء حكومة العدل الإلهي.استطاع الإمام من خلال كل هذا أن يخلق الشرط الثوري الجماهيري لنجاح مشروعه الإحيائي، حيث تحررت الجماهير من القيود الوهمية على حركتها، والتي كانت أحيانا تأخذ لباس الدين، وحطمت حاجز الخوف واستلهمت الشجاعة من إمامها الذي بلور استعداداتها الثورية بعمق، وربط نهجها الاستشهادي بعاشوراء الحسين(ع).كان حاصل هذا التلاحم بين الإمام والجماهير الوصول بالمسيرة الثورية إلى "عشرة الفجر" المباركة، والتي ابتدأت مع عودة الإمام إلى طهران في بداية شهر شباط رغم أنف النظام، ومن ثم خطبته التاريخية في "بهشت زهراء" التي رسم فيها عناوين التحرك؛ إسقاط النظام وتشكيل الحكومة، حيث قال: " فإن ملكية محمد رضا غير قانونية أولاً، لأن ملكية أبيه كانت خلافاً للقانون وقامت بالقهر وقوة السلاح.... إنني سأشكل الحكومة وألقم الحكومة الحالية حجراً! إني سأعيّن حكومة بمساندة هذا الشعب.."ومن الحكومة الانتقالية، إلى القرار الشجاع؛ والذي يمثل مفصلا هاما وحاسما في مسيرة الثورة؛ بدعوة الجماهير إلى الخروج إلى الشوارع لإجهاض مخطط الانقلاب فيما سمي في يوميات الثورة بالجمعة الدامية، فكان الفداء عظيما، وفي فجر الحادي عشر من شباط 1979 م، أشرقت شمس انتصار الثورة الإسلامية على البشرية جمعاء.

 

هويــة الثورة الإسلامية:

أما في موضوع هوية الثورة فان الحاجة تدفع إلى إبراز الهوية العقائدية والسياسية للثورة أمام ما تعيشه الأمة من امتحان عسير على صعيد وحدتها بفعل المخطط الأمريكي وملحقاته التكفيرية والسياسية في المنطقة.إن هوية الثورة ناصعة وجلية، إنها التعبير عن الإسلام المحمدي الأصيل، وهي بالطبيعة والمبادئ والشعار خارج الأطر المذهبية الضيقة، حتى وإن لعبت بعض الرموز المذهبية دورا في انتصارها، وتكفي هنا الإشارة إلى موضوع الوحدة في علاقته بالثورة، والذي هو أعمق بكثير مما يعتقده البعض، وإذا سلمنا أن بعض المقاربات المنهجية لفكرة "الوحدة" وموقعها في المشروع الفكري للسيد الإمام(قده) أو على صعيد الحركة السياسية للثورة، هي مقاربات صائبة وتقود إلى نتائج مهمة، لا اقلها إثبات أصالة فكرة الوحدة في المشروع الإسلامي الثوري الذي أسس له الإمام الراحل، إلا أنها مع ذلك تظل قاصرة لجهة انتمائها لجنس تلك الرؤى والمقاربات التي تتمثل حركة الثورة بما هي نهضة شيعية بالأساس؛ وهو التوصيف الذي يفتقر إلى العمق والدقة. فالثورة الإسلامية لم تكن تحويرا جذريا في الخارطة الجيوسياسية للمنطقة والعالم فحسب، ولا كانت انقلابا في موازين القوى لصالح حركة المستضعفين فقط، بل كانت الثورة فوق ذلك ومع ذلك، تحويرا وتجاوزا لمعطيات دينية وتاريخية نشأت وترسخت وفق ثنائية سنة/ شيعة منذ أن انقسم المسلمون في تجربتهم السياسية والتاريخية إلى سنة وشيعة، نعم لا أحد يستطيع أن يناقش في كون الخلفية العقائدية والعمق الإيديولوجي للثورة يقع ضمن مدرسة أهل البيت عليهم السلام، إلاّ أنها مع ذلك تجاوزت وخرجت عن حد الأطر المذهبية الضيقة والتقليدية ، واتخذت من الوحدة الإسلامية هوية لها، ومن هذا المنطلق فتحت على سيرورة دينية "فوق مذهبية" بامتياز لامست أفق الإنسانية الرازحة تحت خط الحرمان والاستضعاف.

لقد قدمت الثورة صورة ناصعة عن الإسلام المحمدي الأصيل، إسلام العزة والكرامة، الإسلام المحرّر لإرادة الشعوب في مقابل الإسلام الأمريكي كما كان يسميه الإمام الخميني(قده)، وأعادت صياغة خارطة التموضعات وأعطتها هوية جديدة فأضحى الصراع صراعا بين المستضعفين و المستكبرين. فالإمام الخميني(قده) لم يشب أبدا مشروعه التحرري بأية نزعة مذهبية ضيقة، ودفعا لكل التباس فالحديث هنا عن النزعة الضيقة لا عن أصل الانتماء والانتساب، فهو يقول في وصيته السياسية المعنوية:".. نفخر أن مذهبنا جعفري وأن فقهنا- وهو البحر اللامتناهي- واحد من آثاره (نسبة للإمام جعفر الصادق ع) نحن فخورون بجميع الأئمة المعصومين(عليهم صلوات الله) ملتزمون بالسير على نهجهم.." ، وهو- أي الإمام - لم ينظر إلى نهضته و إنجازه الثوري على أنه انتصار على استبداد محلي، بل كانت حركته مشروعا تحرريا ذي أبعاد إنسانية، سعت لأن تبني نمطها السياسي والاجتماعي على أسس من الدين الحنيف كما تبلورت العناصر الجوهرية لذلك النمط في كتابه "الحكومة الإسلامية"، وليقدمه كنموذج للبشرية وكتجربة في الخلاص من الاستبداد والاستلحاق بالدوائر الإستكبارية،كانت الثورة ولازالت نقيضا للهيمنة والاستبداد.. تطلعت في نهجها وفي شعاراتها إلى الإنسانية المعذبة، وانفتحت بصدق على عالم المستضعفين في كل أرجاء المعمورة من منظور إسلامي وتحرري، و وضعت كل إمكانياتها في دعم وإسناد كل حركات التحرر في العالم وفي مقدمتها حركة التحرر الوطني الفلسطيني.

إن الارتكاس عن أفق الثورة العظيم وتشوش هويتها في بعض مظاهر الوعي السائد, سواء بالمزايدة بها على اعتبار أنها منجز تاريخي ومكسب استراتيجي للشيعة والتشيع - وإن كان في ذلك بعض الحقيقة -، أو بالتعسف بقراءتها وفق معادلة المعايير الإقليمية الضيقة ؛هو في الواقع تبخيس لعظمتها وتقزيم لأبعادها الإنسانية، و تعـدّ على جوهرها وحقيقتها، وسقوط في عدم الفهم لخط ونهج قائدها وفيلسوفها، ولعل ذلك مدعاة لإعادة قراءة واقعة الثورة قراءة جديدة.إن استحضار ذكرى الثورة الإسلامية هو استحضار للقيم الإسلامية الكبرى، هو استحضار لخط الثورة ومبادئها الثابتة والراسخة، انه استحضار لهوية الثورة الإسلامية في بعديها الإنساني والتحرري والآبية على كل تنميط مذهبي، أو إدراج في نسيج ما هو مصلحي إقليمي ضيق وعابر.

المصدر: وكالة رسا للأنباء