في مسيرة المقاومة منذ الثمانينات حتّى يومنا الحاليّ، مراحل متنوّعة تختلف وفق اختلاف ظروفها الاجتماعيّة، والسياسيّة والديموغرافيّة. لكنّ المشترك فيها حجم التضحيات، وأبرزها تقديم الأحبّة من الشهداء. وفي مرحلة الفداء دفاعاً عن المقدّسات، ميزاتٌ وذكريات، أَضْفَتْ على التجربة وشاحاً خاصّاً، يزيّنه عبقٌ من مهجة "سيّدة النساء".

 

* "يا زينب الكبرى"

وبالرغم من أنّ جميع مراحل المقاومة كانت باسم أهل البيت عليهم السلام، إلّا أنّ مرحلة الدفاع عن خدر العقيلة عليها السلام تختلف عن غيرها من مراحل الاجتياح والاحتلال وحتّى حرب تمّوز 2006.

ففي هذه الأيام، وعندما تراءت للعالم قضيّة كربلاء من جديد، وظهر خطر تدنيس المقدّسات، التهبت المشاعر في وجدان شعب المقاومة، أكثر من أيّ وقت مضى، وصارت التضحية بالجراح والدماء صورةً من صور مواساة زينب عليها السلام. صورة تحاكي وجدان اليوم، وتجمع بين حاضر الشعب المقاوم وعقيدته الدفاعيّة الجهاديّة، لتقترن أصعب وأشدّ مراحل الوجع عند سماع خبر الشهادة، بعبارة: "يا زينب الكبرى".

 

* الحمد لله أن جعل منّا شهداء

"عند سماع خبر شهادتي قولي: يا زينب"، بهذه العبارة أوصى "الشهيد حسين العنقوني" زوجته، عند تلقّي أصعب خبرٍ في حياتها، فزوجها الحنون، المؤمن، الطيّب سوف لن يعود إلى الدار إلّا في نعش.. وهكذا فعلت، فشعرت بعون السيّدة زينب عليها السلام لها.

"الحمد لله الذي جعلنا من المتمسّكين بخطّ المقاومة، واختار منها شهداء على طريق الحق". هكذا استقبلت "يمنى قاسم" خبر شهادة ابن شقيقها "عبد الله علي قاسم" الذي ارتفع على خطى عمّه الشهيد "عبد الله رمزي قاسم"، الذي ارتقى قبل تحرير العام 2000.

 

* الاختلاف بين مراحل المقاومة

 لكنّ مرحلة ما قبل التحرير (عام 2000) بكلّ ما فيها من الأجواء التي تحيط بعوائل الشهداء، تختلف عن هذه المرحلة، تقول يمنى: "إنّ مرحلة استشهاد أخي عبد الله تختلف كلّيّاً عن هذه المرحلة. في تلك الأثناء كنّا نُحاط بكثيرٍ من الشامتين، بسبب غياب الوعي الكافي بضرورة مقاومة الاحتلال. كما إنّ الكثيرين كانوا يخافون من الاقتراب منّا أو مواساتنا كي لا يُتّهموا بالتأييد أو الانضمام إلى حزب الله، وكي لا يُزجّ بهم في معتقل الخيام".

فعندما استشهد "عبد الله رمزي قاسم"، من بلدة "عيتا الشعب"، عام 1991، لم يُلفّ بالعلم الأصفر ولا حتّى بعلم بلاده. سُلّم إلى أهله، على أنّه "قتيل" ارتكب جرماً ونال عقابه، وشُيّع في محفلٍ يخاف حاملو النعش من عقابهم لأنّهم يحملون جسد "مخرّب". ولم يُواسَ أهله كما تواسَى كلّ عائلةٍ تفقد حبيبها، إذ ازدادت عليهم العيون المراقبة، وفُتحت معهم التحقيقات، واقتيدت أخته "يمنى" إلى معتقل الخيام بعد شهادته بفترة قصيرة، لأنّها كانت حاملة أسراره، بدل أن تُواسى لفقدها مهجة قلبها وجناحها.

"أمّا اليوم، فنُكرَّم ونُعظَّم، ويزورنا القريب والبعيد، ونجلس مرفوعي الرأس في كلّ مكان، إذ تختلف أيام شهادة عبد الله الصغير عن أيام شهادة أخي اختلافاً كبيراً. نحن الآن بين أمّة تقدّر شهداءها، وتسارع إلى الاحتضان المعنويّ والماديّ لأُسر وعوائل الشهداء".

 

* الحياة بعد الشهيد

 تضيف يمنى: "لم تكن نظرتي إلى الحياة نظرة تشاؤميّة أو نظرة الآيس منها يوماً عندما استشهد أخي، بل حمدت الله أنا وأهلي أنّه استشهد في خطّ المقاومة ولم يتعامل مع العدو الإسرائيليّ. وعندما التحق به ابن أخي لم تتغيّر نظرتنا، لأنّ لَحَاقه بعمّه الذي سُمّيَ على اسمه يدلّ على استمراريّة هذا النهج في عائلتنا كما في بقيّة العائلات".

 

* أولاد الشهيد؛ الأمانة الكبرى

 خرجنا من بيتٍ في عيتا الشعب على جدرانه صورة الأخ وابن أخيه، لنعانق أثير منزلٍ آخر في مجدل زون، على جبينه دمعتان وثلاث بسماتٍ لأطفالٍ صغار، يمرّرون نظرات البراءة على صورة الخال الشهيد، والأب الذي ما مكث بعد صديقه سوى ثلاثة أشهر. تحرس الأطفال أمٌّ صابرة، قدّمت شقيقها، فواساها زوجها، وبعد أيام قدّمت الزوج ليكون المواسي ربّها، ومولاتها.

ما يميّز مرحلة الجهاد هذه، ارتفاع الشهداء في كلِّ يوم، ومن كلّ بيت، ومن كلّ القرى، ما صنع وعياً جماعيّاً، يتوقّع تقديم الشهيد في كلّ لحظة، أكثر من المراحل السابقة. فلم يعد خبر الشهادة مفاجئاً على أيّة عائلة، خاصة وأنّ الله يُلهم الأسرة خبر استشهاد الحبيب لحظة استشهاده.

هكذا، في ليلة شهادته، قامت مناهل زوجة الشهيد قاسم إبراهيم، لتنهي كلّ أعمال المنزل، "تحسّباً لمعرفتي خبر شهادة زوجي عند الصباح، وكأنّ الله قد زرع فيّ الخبر قبل وصوله إليّ". وتقول: "عند استشهاد أخي الشهيد أحمد الدرّ، الأخ الحنون الطيّب، اتّصلت بزوجي في العمل وأخبرته، فأتى بسرعة ووقف إلى جانبي طيلة التشييع، وكان يواسيني، أمّا عندما استشهد هو، فقد شعرت أنّ الله هو المواسي الوحيد، لأنّ زوجي كان بالنسبة إليّ كلّ أهلي وكلّ العالم".

وبعد غياب الزوج المعيل، شعرت مناهل أنّها أصبحت أمام مسؤوليات كثيرة متشعّبة، كان الشهيد يقوم بها جميعها، من أخذ الأولاد إلى الطبيب، إلى تفقّد أمورهم الدراسية، إلى شراء مستلزمات البيت والطعام، إلى رعاية أطفال صغار، لا يتجاوز عمر كبيرهم التسع سنوات.

"يشعر أولادي بافتقاد العطف والحنان والأمان بافتقادهم والدهم، يسألونني عنه دائماً، يقولون إنّهم يريدون احتضانه وتقبيله وعناقه، وإنّ الصورة لا تكفي، يريدون الجسد والروح المبتسمة دائماً في وجوههم.

ما يهمّني الآن هو رعاية هؤلاء الأولاد رعاية صحيحة سليمة، كي يبقوا على خُطى والدهم، وخاصة ابني الصغير، أريده أن يصبح مقاوماً، وأن يختتم حياته بالشهادة مثل أبيه".

وعن الرعاية المادية للأسر تقول: "ترعانا مؤسسة الشهيد من الناحية الماديّة، فتؤمّن لنا كلّ حاجاتنا".

والحياة من بعد الشهيد يصبح لها طعمٌ آخر، ورائحة كرائحة الجهاد، تتمثّل في الحفاظ على إرث الشهادة، وزراعة الأمل، في الوقت عينه، إذ تقول زوجة الشهيد محمد حيدر: "أعرف أنّ زوجي محمّداً الذي استشهد منذ عامين ينعم بالرخاء والسعادة في حياته الخالدة تلك، وعليّ أنا أن أحافظ على حياة متوازنة فيها من الأمل الكثير، كي تكبر ابنتي في جوٍّ عاطفيّ ونفسيّ مريح". وتضيف متكلّمة بلسان زوجات الشهداء: "لم يستشهد أزواجنا كي نعيش الحزن واليأس والألم، علينا أن نكمل الحياة بالكثير من العزم الذي يتطلّب روحاً عاليةً، تُوازن بين الشوق والفرح، من أجل أطفالنا، أطفال الشهداء. فالحياة تستحقّ أن نكملها ونعيشها، من أجل أطفالنا وأولادنا وإمامنا الذي ننتظره، وليس من أجل أيّ شيء آخر".

 

* بعد الشهيد، اندفاع وعزم

 كانوا إخوةً ثلاثة. أصدقاء تجمعهم أعمار متقاربة، ونهجٌ اتفقوا على بذل المهج في سبيله، ضحكاتهم تزيّن بيتاً قليلاً ما يحظى بهم عند عودتهم من ساح الجهاد. وكانوا يتنافسون من يسبق، حتّى اختار الله "لؤي"، فكان أوّلهم.

ليس سهلاً على الأمّ أن تسمع خبر شهادة ولدها، حتّى وإن كانت تخجل من كونها لم تقدّم شهيداً بعد، كما كان حال أم الشهيد "لؤي عبد الله سرور".

في ذلك الصباح، عندما كانت العائلة تنتظر سماع خبر عن شهادته أو نجاته، دخل الأب إليها مبشّراً "مبروك، لقد أصبحتِ أمّ شهيد". وكان ابنها "وائل" الذي عرف مسبقاً بشهادة أخيه، يقف إلى جانبها، لمساندتها أو مواساتها، لكنّها استقبلت الخبر بكلّ قوّة قائلة: "الحمد لله".

يتكلّم وائل عن أخيه قائلاً: "عرفتُ عند الساعة الخامسة فجراً أنّ لؤي استشهد. بقيت في فراشي، لم أشأ إخبار أهلي، لكنّ شعوري في ذلك الوقت لم يكن يوصف، لفّني الفرح العارم بشكل غريب، ولم أعِ شيئاً سوى أنّ ما أشعر به هو من بركات أخي لؤي".

وعن الحياة بعد الشهيد يقول شقيقه: "للشهيد بركات كثيرة، نشعر بها، حتّى نقول أحياناً: ليته كان في بيتنا شهيد من قبل. فبيتٌ فيه شهيد تدخله الرحمة، ويصبح إلى الله أقرب. لكنّ الغياب له بصماته فوق كلّ الجدران وفي كلّ مكان، وللشوق لغة لا يعرفها سوى من فَقد حبيباً".

وعن مرحلة الدفاع المقدس وما يميّزها يختم: "يعرف المجاهدون فوق تلك الأراضي أنّهم يعيشون كربلاء من جديد، فكثير من القصص والأحداث والمشاعر توحي بذلك، ولا مكان للنقاش حولها. هم يعيشون الحسين، وعوائلهم يعيشون صبر زينب. إنها عاشوراء العصر، ومن بعد كلّ شهيد، يزداد العزم والإقدام والاندفاع، أكثر من أي وقت مضى".

تحقيق: زينب صالح

المصدر: مجلة بقية الله