الوعي الجماهيري

قيمة هذا الخط ـ كما ذكرنا ـ ليس فقط في محتواه الفكري والسياسي والجهادي، وإنما في انبثاقه عن عمق الوجدان الشعبي، ومن داخل آلام الأمة، وآمالها، وعذابها، وتضحياتها، وطموحاتها، وحضارتها، ورسالتها.

ولهذا السبب، بالذات، فقد تبنى جمهور الشارع الإسلامي خط الإمام، بوعي، وبصيرة، وبكامل أبعاده الفكرية، والسياسية، والجهادية، ونزل الخط وما يستتبعه من وعي ورؤية سياسية إلى الشارع.

والوعي السياسي، في الغالب، يخص طبقة ممتازة في المجتمع هي "النخبة الواعية"، ويبقى له تأثيره وتحريكه في داخل الأمة، ذلك بفعل "النخبة". فإذا انتقل الوعي من هذه الطبقة إلى الشارع، ونزل "الوعي والخط السياسي" إلى الشارع بكل أبعاده وحدوده، من غير عوج، ولا انحراف... تحول الخط والوعي إلى قوة محركة هائلة، وقدرة سياسية كبيرة. وقلما يكون ذلك.

والذي حدث في الثورة الإسلامية المباركة، إن هذا الوعي السياسي نزل ضمن خط الإمام إلى مستوى الجمهور، وتبنت الأمة خطة الإمام بوعي وبصيرة وبكامل أبعاده. وبكل أصالته. فأصبح ابن الشارع يفهم شعار "لا شرقية ولا غربية" فَهماً سياسياً واضحاً، ويعرف عن خبرة وبصيرة، خطر وضرر الارتماء في أحضان الشرق والغرب ويدرك قيمة الاستقلال الفكري والسياسي، و"دور الجهاد والتضحية في تحرير الأمة"، وقيمة "التصدي للطاغوت"، ومعنى "ولاية الفقيه".

وهذه المعرفة الواعية، والرؤية الصافية لمسألة الخط كانت لها آثاراً إيجابية كبيرة، في نجاح الثورة وتقدمها، وفشل المحاولات المعادية للثورة.

فقد تبنت الدفاع عن الثورة التي آمن بها وبخطها، وتحملت ضريبة هذا الدفاع بصدق، ولم تنسحب من موقع تقدمت إليه، مهما كانت الضريبة ثقيلة، ودفعت ضريبة الخط براحة وانشراح ورضاء وشمل هذا المستوى العالي من الوعي كل طبقات الأمة.

وما أكثر ما تجد في خضم الثورة أمّا قروية، تعيش في الريف، تستقبل جنازة ابنها الشهيد بتغريد الأمهات اللاتي يزففن أبنائهن إلى خدر أعراسهم، وتدخل جنازة ابنها بيديها إلى داخل قبره وتطبع على خده قبلة الوداع، بكل سرور ورضى، وكأنها تودعه إلى رحلة قريبة أو سفر يسير، ثم تقدم الحلوى على قبر ابنها، وتعد نفسها لاستقبال التهاني، كما يتقبلن الأمهات التهاني عندما يقدمن أولادهن إلى أعراسهم، ويستنكرون، بصدق وجدّ من يقدم إليهن العزاء.

إن الأمة المسلمة هنا تعمل كل ذلك براحة ورضى وانشراح ولا تحسب أنها عملت شيئاً.

وليس هذا العمل الجبار ينبثق عن عاطفة تجاه الثورة، فلقد رأينا العواطف وتأثيرها ودورها كثيراً، وليس بمقدور العاطفة أن تصنع مثل هذه المعجزات في حياة الإنسان... وإنما هو وعي، وبصيرة، وثقة، والإيمان، ووضوح ما بعده وعي ووضوح استقر في قلب هذه المرأة البسيطة الساذجة، وجعل منها أسطورة في التضحية ومعجزة في الشجاعة ونسيان الذات.

وكذلك يفعل الإيمان عندما يستقر في القلوب الواعية.

هذا الوعي للخط، وعلى مستوى الشارع والريف هو ـ بالتأكيد ـ من أهم أسباب وقوف الأمة إلى جانب الثورة، وحمايتها للثورة ودفاعها عنها.

فلم يقف اندفاع الأمة، ولم يبرد حماسها في التضحية والجهاد والعمل عند سقوط الشاه، وإنما استمر هذا الحماس والاندفاع، وتصاعد في خط صاعد ما بعد الثورة اجتاز بدرجات عالية من القوة والفاعلية كل العقبات، واحدة تلو الأخرى.

وهنا تبرز قيمة (الخط) في الثورة، فإن الكثير من الثورات الشعبية التي أدّت مهمتها في إسقاط النظام آل أمرها إلى الضعف والبرود والانحراف والتميع.

وليس لنا مثل أوضح من الثورة الفرنسية (1789م). فقد كانت هذه الثورة ثورة نابعة من عمق وجدان الشعب حقيقة، ولكن هذه الثورة سرعان ما آل أمرها إلى الانحراف، وحلت دكتاتورية جديدة، محل الدكتاتورية السابقة، وطبقة منتفعة محل الطبقة المنعمة سابقاً، وتولى بونابرت الحكم في فرنسا بأطماع توسعية عسكرية، وأفسد في الأرض، وأوغل في الفساد والسبب في ذلك ـ في بعض الحدود ـ إن هذه الثورات لا يرافقها خط سياسي سليم، يستوعب الشعب ويملكه، وإنما يمتلك الشعب في الاندفاع لإسقاط النظام والتضحية عاطفة ثورية شعور بالحرمان والظلم من دون وعي وخط سياسي مفهوم ومقبول، من قبل ابن الشارع.

وأمد هذه العاطفة ومفعولها محدود بسقوط النظام، فإذا سقط النظام الحاكم خمد الحماس وامتص سقوط النظام كل النقمة والعاطفة، وانعزلت الثورة عن الشعب والشعب عن الثورة، فيسهل عند ذلك على المنتفعين، وهم كثيرون تحريف الثورة إلى خدمة مصالحهم وأطماعهم.

أما الثورة الإسلامية فكان لها شأن آخر وهذا الشأن هو من نتائج وآثار وجود (خط الإمام) داخل الثورة وفي وجدان الأمة ووعيها.

فلم تكن عاطفة ناقمة وغاضبة هي التي أهاجت الناس في إيران وأنزلتهم إلى الشارع، وحركتهم باتجاه إسقاط النظام، وإنما كان وعي سياسي إسلامي سليم، ورؤية سياسية وخط سياسي تصدر عنه العاطفة، وهذا الوعي والخط هو الذي حفظ الناس في جانب الثورة، وأبقاهم في خط الدفاع الأول للثورة منذ انفجار الثورة إلى اليوم، والى أن يستقر حكم الله على وجه الأرض كافة بقيادة الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف إن شاء الله.

فقد كانت الأمة تشعر من خلال إيمانها بالخط: أن لها قضية، وقضيتها لم تنته بإسقاط النظام، وبقي ابن الشارع يشعر بعمق مسؤوليته، في حماية الثورة من كل دعاة التحريف وأصحاب المطامع السياسية والانتهازيين طيلة هذه الفترة، وكان هذا الشعور الواعي والصادق يتطلب منه الحضور الدائم والواعي في الساحة السياسية، والمراقبة الواعية بعينين نافذتين لكل ما يجري في الساحة.

 

إحباط المؤامرات وفرز الخطوط

وهذا الحضور والمراقبة الواعية كان من أهم الأسباب في فشل المؤامرات الداخلية والخارجية، التي كان يحيكها أعداء الثورة الإسلامية، لتطويقها ومصادرتها وإسقاطها.

وكان من أهم الأسباب في فرز الخطوط ـ إذا كان هناك خط سياسي آخر ـ وعزل الخطوط الأخرى، وأصحاب المطامع، والانتهازيين عن صلب الثورة، وحصرهم في الزاوية، ثم إسقاطهم، بإذن الله.

ورغم أن أمريكا قد حاولت المستحيل في الكيد بالثورة، وخططت لمؤامرات ذكية، واستعملت في ذلك كل قدرتها، ونفوذها وسلطانها المالي والسياسي والعسكري، ولم تأل جهداً في ذلك… إلاّ أن الحضور الواعي للأمة، في الساحة السياسية، والمراقبة الواعية للأمة أحبطت كل هذه المحاولات وأفشلتها.

ولا شك أن هذا الحضور الواعي والمراقبة الواعية في الساحة حصيلة إيمان الأمة، وتبنيها العميق لخط الإمام والتحامها به.

 

الخط والموقف

والخط هو الذي يصنع الموقف، وكذلك حدث في الثورة الإسلامية. فقد كان وضوح الخط، والتزام الخط، من قبل جماهير المؤمنين، مصدراً لكثير من المواقف السياسية الصلبة. فلكل ثورة، ولكل حركة شعاراتها، ولكن عندما تقترن الثورة والحركة بخط ثوري، حركي، واضح، مفهوم وملتزم من قبل الأمة، تتحول هذه الشعارات إلى مواقف.

ولقد حدث مثل هذا في الثورة الإسلامية، فارتفعت خلال الثورة مجموعة من الشعارات الثورية والجهادية، وتحولت خلال الثورة هذه الشعارات، بفضل إيمان الأمة والتزامها بخط الإمام، إلى مواقف سياسية وجهادية رائعة بطولية.

نذكر منها الموقف من الدعاة إلى التسامح السياسي مع الدول الاستكبارية، والتنازل عن المواقف السياسية المبدأية.

وقد رفعت الأمة، أمام الدعوة إلى هذه التنازلات، في مسيرة تشييع الشهيد الدكتور بهشتي: (نقاتل ونموت، ولا نتنازل). ورفعت الأمة تجاه الدعوة إلى السلام مع النظام العراقي وإيقاف الحرب (حرباً، حرباً، حتى النصر)... ومن عجب أن الأمة وقفت عند شعاراتها وقفة صامدة، وحولت هذه الشعارات إلى مواقف سياسية صلبة، ووقفت عند هذه المواقف، ودفعت ضريبة الموقف، وليس من شك أن قيمة العمل السياسي بالموقف، وليس بالشعار، وما لم يتحول الشعار إلى موقف لا تستطيع الثورة أن تحقق أهدافها.

ووجود خط سياسي سليم وواضح، والتزام هذا الخط من قبل الأمة، من أقوى العوامل في صناعة المواقف السياسية.