الدرس الأربعون

مصاديق الأنفال (القسم الثاني)

 

السادس من مصاديق الأنفال ميراث من لا وارث له:

فهو من الأنفال فيكون ملكاً للإمام، وادّعيَ الإجماع على أنه للإمام جماعة، فقال الشيخ في فرائض الخلاف: ميراث من لا وارث له ولا مولى نعمة لإمام المسلمين سواء كان مسلماً أو ذمّيّاً، وقال جميع الفقهاء: إن ميراثه لبيت المال وهو لجميع المسلمين، دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم[1].

وقال أيضاً فيها: ميراث من لا وارث له لا ينقل إلى بيت المال وهو للإمام خاصة، وعند جميع الفقهاء ينقل إلى بيت المال ويكون للمسلمين... دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم... فأما الذمي إذا مات ولا وارث له فإن ماله لبيت المال فيئاً بلا خلاف بينهم، وعندنا أنه للإمام مثل الذي للمسلم سواء، دليلنا عليه واحد وهو إجماع الفرقة[2].

وقال ابن زهرة في الغنية ـ بعد ذكر الوارث بالنسب والسبب والولاء وذكر أحكامهم ـ : فإن دعم جميع هؤلاء الورّاث فالميراث للإمام، فإن مات انتقل إلى من يقوم مقامه في الإمامة دون من يرث تركته، وسهم الزوج والزوجة ثابت مع جميع من ذكرناه على ما مضى بيانه، وكل ذلك بدليل الإجماع المشار إليه[3]. وقد مضى نقل عبارته في عد الأنفال وإن منها ميراث من لا وارث له، وادعى هناك أيضاً نقل الإجماع[4].

ودلالة كل واحدة من العبارات الثلاث على دعوى إجماع الفرقة الإمامية واضحة.

وقد نقل عن العلامة في المنتهى نسبته إلى علمائنا أجمع، قال (قدس سره): ومن الأنفال ميراث مَن لا وارث له، ذهب علماؤنا أجمع إلى أنه يكون للإمام خاصة ينقل إلى بيت ماله، وخالف فيه الجمهور كافة وقالوا إنه للمسلمين أجمع[5].

وقال أيضاً في التذكرة ـ في فصل الأنفال وعدّ مصاديقه ـ : ومنه ميراث مَن لا وارث له عند علمائنا كافة خلافاً للجمهور كافة[6]. وواضح أن نقل قول علمائنا كافة قريب من نقل الإجماع.

وفي بحث الأنفال من المدارك قريب من عبارة التذكرة فقال: ومن الأنفال ميراث من لا وارث له عند علمائنا أجمع[7].

ولم نجد في أصل هذه المسألة خلافاً من أحد من أصحابنا وإن عبّر في مجمع الفائدة بقوله: ثم كون ميراث من لا وراث له للإمام هو المشهور بين الأصحاب[8].

وقال في الرياض ـ بعد عد الأنفال وأن منها ميراث مَن لا وارث له ـ: بلا خلاف أجده في شيء من ذلك[9].

ثم إن الإجماعات المنقولة إنما هي على أن ميراث من لا وارث له للإمام ولم يصرّح على أنه من الأنفال. نعم إن ذكره في باب الأنفال كما في التذكرة وتاليتها قرينة على إرادة ذلك مضافاً إلى تصريح المدارك والرياض به.

والعمدة في سند الإجماع هي الأخبار العديدة الواردة في المسألة، فالإجماع لا أقل من أنه مظنون المدرك ولا حجة فيه، بل لا بد من ملاحظة الأخبار المذكورة فنقول:

إن الأخبار الدالة على أن ميراث مَن لا وراث له للإمام (عليه السلام) كثيرة وهي على طائفتين:

الأولى: ما دلت على أنه من الأنفال، فلما كانت الأنفال للإمام فلا محالة يكون ميراثه أيضاً له، وهي أخبار متعددة:

1ـ فمنها صحيحة محمّد بن مسلم التي رواها المشايخ الثلاثة عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: من مات وليس له وارث من قرابته ولا مولى عتاقه قد ضمن جريرته فماله من الأنفال[10].

2ـ ومنها صحيحة محمّد الحلبي التي رواها الكليني والشيخ (قدس سرهما) عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ﴾ قال: من مات وليس له مولى فماله من الأنفال[11].

3ـ ومنها موثقة أبان بن تغلب ـ التي رواها الشيخ (قدس سره) ـ قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): مَن مات ولا مولى له ولا ورثة فهو من أهل هذه الآية: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ ﴾[12]. ومعلوم أن المراد أن ماله من الأنفال.

4ـ ومنها ما رواه المشايخ الثلاثة (قدس سرهم) عن أبان بن تغلب. عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الرجل يموت ولا وارث له ولا مولى، قال: هو من أهل هذه الآية: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ﴾[13]. ولعله وما سبقه واحد واختلاف التغبير من باب النقل بالمعنى.

5ـ ومنها موثقة إسحاق بن عمار ـ المروية في تفسير علي بن إبراهيم ـ عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وفي ذيلها: ومن مات وليس له مولى فماله من الأنفال[14].

6ـ ومنها صحيحة أخرى للحلبي ـ التي رواها عنه الكليني (قدس سره) ـ عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من مات وترك دَيناً فعلينا دَينه وإلينا عياله، ومن مات وترك مالاً فلورثته، ومن مات وليس له موالي فماله من الأنفال[15].

هذه هي الطائفة الأولى من الأخبار، ودلالتها على أن ميراث مَن لا وارث له من الأنفال واضحة.

وأمّا الطائفة الثانية فهي أيضاً أخبار متعددة:

1ـ منها ما رواه حماد بن عيسى عن بعض أصحابنا عن العبد الصالح (وفي نقل الشيخ عن العبد الصالح أبي الحسن الأول (عليه السلام) في حديث طويل، وفيه: وهو (يعني الإمام) وارث من لا وارث له، يعول من لا حيلة له[16]. روى هذا الحديث الكليني والشيخ (قدس سرهما).

2ـ ومنها ما رواه الكافي عن حماد بن عيسى عن بعض أصحابنا عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) قال: الإمام وارث من لا وارث له[17]. ولعل هذا الحديث الثاني مقطّع من الأول الطويل، وكيف كان فدلالتهما وإطلاقهما واضح.

3ـ ومنها ما رواه أحمد بن محمّد عن بعض أصحابنا رفع الحديث، وفيه: وما كان من القرى وميراث من لا وارث له فهو له خاصة، وهو قول الله عز وجل: ﴿مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾[18]. والحديث وارد في بيان ما يختصّ بالإمام (عليه السلام)، فالضمير المجرور يرجع إليه، ومضمون هذا الحديث أيضاً مضمون ما سبقه إلا أن في سنده إرسال ورفع.

4ـ ومنها ما رواه الشيخ في التهذيبين عن محمّد بن القاسم بن الفضيل بن يسار عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) في رجل صار في يده مال لرجل ميت لا يعرف له وارثاً كيف يصنع بالمال؟ قال: ما أعرفك لمن هو. يعني نفسه[19].

وقول «يعني نفسه» من الراوي، فهو ظهور الحديث، فالحديث دل على أن مال من لا يعرف له وارث للإمام (عليه السلام) وهو مطلق شامل لجميع الموارد، فدلالته تامة، إلا أن في السند عبّاد بن سليمان وهو لم يوثّق.

5ـ ومنها ما رواه الشيخ بسند صحيح إلى ابن محبوب عن خالد بن نافع عن حمزة بن حمران، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن سارق عدا على رجل من المسلمين فقعره وغصب ماله، ثم إن السارق بعدُ تاب، فنظر إلى مثل المال الذي كان غصبه الرجل، فحمله إليه وهو يريد أن يدفعه إليه ويتحلل منه مما صنع به، فوجد الجل قد مات، فسأل معارفه هل ترك وارثاً؟ وقد سألني عن ذلك أن أسألك عن ذلك حتى ينتهي إلى قولك. قال: فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إن كان الرجل الميت يوالي إلى رجل من المسلمين وضمن جريرته وحدثه أو شهد بذلك على نفسه فإن ميراث الميّت له، وإن كان الميّت لم يتوال إلى أحد حتى مات فإن ميراثه لإمام المسلمين فقلت له: فما حال الغاصب فيما بينه وبين الله تعالى؟ فقال: إذا هو أوصل المال إلى إمام المسلمين فقد سلم، وأما الجراحة فإن الجروح يتقصّ منه يوم القيامة[20].

وفي سند الحديث لم يوثق خالد بن نافع ولا حمزة بن حمران إلا أنه روى صفوان بن يحيى عن حمزة وصفوان من الثلاثة الذين لا يروون إلا عن الثقات، كما أنه راوي خالد في حديثنا الحسن بن محبوب الذي قد عده بعض من أصحاب الإجماع، ولذلك فليس السند في درجة الانحطاط.

وأما دلالته فلا ريب في أنها تدل على أن ميراث ذلك الميت إذا لم يتوال إلى أحدِ لإمام المسلمين، إلا أنه لا إطلاق له بالنسبة إلى غير هذا الشخص وإن لم ينف الإطلاق، وبقرينة سائر الأخبار يُعلم أنه لا اختصاص لحكمه بمورده الخاص.

6ـ ومنها صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) فيمن أعتق عبداً سائبة أنه لا ولاء لمواليه عليه، فإن شاء توالى إلى رجل من المسلمين فليشهد أنه يضمن جريرته وكل حدث يلزمه، فإذا فعل ذلك فهو يرثه، وإن لم يفعل ذلك كان ميراثه يرد على إمام المسلمين[21].

ودلالته واضحة وهو مطلق في كل ميت كان عبداً فأعتق سائبة، ولعله لا إطلاق له لكل أحد وإن كان دعوى ظهروه في أنه حكم كل مَن مات ولم يكن له وارث ويلغى الخصوصية عن المورد ليست بعيدة.

ثم إن (سائبة) اسم فاعل من ساب يسيب سَيباً: جرى وذهب كل مذهب، وإذا كان العبد المعتق لا ولاء عليه سائبة يضع ماله حيث شاء، وقد ذكر ميزان كونه سائبة في صحيحة علي بن رئاب الآتية.

7ـ ومنها صحيحة علي بن رئاب ورواية عمار بن أبي الأحوص ـ وقد رواها الشيخ والكليني قدس سرهما ـ قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن السائبة فقال: انظروا في القرآن، فما كان فيه ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾[22] فتلك يا عمار السائبة التي لا ولاء لأحد عليه إلا الله، فما كان ولاؤه لله فهو لرسول الله، وما كان ولاؤه لرسول الله صلى الله عليه وآله فإن ولاءه للإمام وجنايته على الإمام وميراثه له[23]. ودلالتها واضحة في خصوص السائبة، ولا تنافي جريان حكم الإرث في كل ميت لا وارث له.

8ـ ومنها ما رواه الشيخ في التهذيب بسند صحيح عن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) فيمن كاتب عبداً أن يشترط ولاءه إذا كاتبه، وقال: إذا أعتق المملوك سائبة أنه لا ولاء عليه لأحد إن كره ذلك، ولا يرثه إلا من أحب أن يرثه، فإن أحب أن يرثه وليّ نعمته أو غيره فليُشهد رجلين بضمان ما ينوبه لكل جريرة جرّها أو حدث، فإن لم يفعل السيد ذلك ولا يتوالى إلى أحد فإن ميراثه يردّ إلى إمام المسلمين[24].

وهو في أصل الدلالة ومقدارها مثل الصحيحة السابقة.

فهذه الروايات بكلتا طائفتيها تدل على أن ميراث من لا وارث له للإمام، والطائفة الأولى بيّنة للطائفة الثانية وأن ميراثه من الأنفال ولذا كان ملك الإمام.

وقد روى المستدرك في أبواب ولا ضمان الجريرة روايات أخر بهذا المضمون، وربما يظفر المتتبع بأخبار أخر أيضاً، والله العالم.

ثم إن هنا أخباراً ربما تعدّ معارضة للأخبار السابقة وهي على طوائف ثلاث:

الأولى: ما ربما تدل على أن ميراث من لا وارث له يجعل في بيت مال المسلمين:

1ـ ففي صحيحة سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام): سألته عن مملوك أعتق سائبة، قال: يتولى من شاء، وعلى مَن تولاه جريرته وله ميراثه، قلت: فإن سكت حتى يموت؟ قال: يجعل ماله في بيت مال المسلمين[25].

2ـ وقريب منها خبر معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: من أعتق سائبة فليتوال مَن شاء، وعلى مَن والى جريرته وله ميراثه، فإن سكت حتى يموت أخذ ميراثه فجعل في بيت مال المسلمين إذا لم يكن له ولي[26].

3ـ وفي صحيحة أخرى لسليمان بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رجل مسلم قُتل وله أب نصراني لِمن تكون ديته؟ قال: تؤخذ فتُجعل في بيت مال المسلمين، لأن جنايته على بيت مال المسلمين[27].

4ـ وفي خبر رواه قرب الإسناد عن أبي البختري عن جعفر بن محمّد عن أبيه (عليهما السّلام) السلام أن علياً (عليه السلام) أعتق عبداً نصرانياً، ثم قال: ميراثه بين المسلمين عامة إن لم يكن له ولي[28].

5ـ وفي المستدرك عن دعائم الإسلام: قال أبو جعفر (عليه السلام): مَن مات ولم يدع وارثاً فماله من الأنفال، يوضع في بيت المال لأن جنايته على بيت المال[29].

فالأخبار الثلاثة الأول قد حكمت بأن ميراث من لا وارث له يجعل في بيت مال المسلمين، وعلّلته الصحيحة الثانية بأن ذلك لأن جنايته على بيت مال المسلمين. نعم لا إطلاق لهذه الأخبار، فالأولان فيمن أعتق سائبة، والثالث في ذمّي مات، وأما خبر قرب الإسناد الضعيف السند فقد حكى ما فعله الأمير (عليه السلام) في عبد أعتقه ولا دلالة على أنه حكم العبد المعتق فلعل ميراثه كان له (عليه السلام) فأعطاه المسلمين فقال: «ميراثه بين المسلمين عامة». نعم رواية الدعائم مطلقة لكنها حكمت بأن ميراثه من الأنفال ومع ذلك حكمت بوضعه في بيت المال معلّلة بأن جناية مَن لا وارث له على بيت المال.

ولا يبعد أن يقال: إن المراد من ببيت المال أو بيت مال المسلمين في هذه الروايات هو بيت مال الإمام (عليه السلام) ولو بلحاظ أنه (عليه السلام) يصرف أمواله في مصالح المسلمين وإن كان ربما يصرفه حيثما شاء من المصارف الشخصية أيضاً، وهذا بقرينة روايات متعددة دالة على هذا المعنى:

1ـ فمنها صحيحة أبي ولاّد الحنّاط قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) في الرجل يُقتل وليس له ولي إلا الإمام.

إنه ليس للإمام أن يعفو، له أن يقتل أو يأخذ الدية فيجعلها في بيت مال المسلمين، لأن جناية المقتول كانت على الإمام، وكذلك ديته يكون لإمام المسلمين[30]. فترى أنه (عليه السلام) قد عبّر أولاً بأن ديته تجعل في بيت مال المسلمين ثم علّله بأنه لما كان الإمام عاقلته فلذا يكون ديته التي بمنزلة ميراثه للإمام (عليه السلام). فالتعليل المشير إلى عقل الإمام دليلٌ واضحٌ على أن الدية لشخص الإمام ومع ذلك قد عبر عن محل الدية ببيت مال المسلمين، فهي دليل على أنه قد يعبر ببيت مال المسلمين عما يجعل فيه أموال الإمام بما أنه إمام.

2ـ ومنها صحيحة أخرى لأبي ولاّد ـ رواها المشايخ الثلاثة قدس سرهم ـ قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل مسلم قتل رجلاً مسلماً (عمداً) فلم يكن للمقتول أولياء من المسلمين إلا أولياء من أهل الذمة من قرابته، فقال: على الإمام أن يعرض على قرابته من أهل بيته الإسلام، فمن أسلم منهم فهو وليه يدفع القاتل إليه فإن شاء قتل وإن شاء عفا وإن شاء أخذ الدية، فإن لم يسلم أحد كان الإمام ولي أمره فإن شاء قتل وإن شاء أخذ الدية فجعلها في بيت مال المسلمين؛ لأن جناية المقتول كانت على الإمام فكذلك تكون ديته لإمام المسلمين، قلت: فإن عفا عنه الإمام؟ قال: فقال: إنما هو حق جميع المسلمين، وإنما على الإمام أن يقتل أو يأخذ الدية، وليس له أن يعفو[31].

وبيان دلالتها أيضاً مثل ما مر في السابقة. لا يقال: إن قوله (عليه السلام) تعليلاً لنفي حق العفو عن الإمام: «إنما هو حق جميع المسلمين» قرينة على الخلاف وعلى أن الدية لجميع المسلمين، فبيت مال المسلمين أريد منه ما فيه أموال المسلمين عامة.

قلت: إن الظاهر أن مراده أن لزوم التعرض للقاتل حق المجتمع الإسلامي فلا مجال للعفو عنه بل إما يقتله وإما يأخذ الدية لنفسه.

3ـ ومنها صحيحة عبد الله بن سنان وموثّقة عبد الله بن بكير جميعاً عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في رجل وجد مقتولاً لا يدري مَن قتله، قال: إن كان عرف له أولياء يطلبون ديته أعطوا ديته من بيت مال المسلمين ولا يبطل دم امرئٍ مسلم، لأن ميراثه للإمام فكذلك تكون ديته على الإمام... الحديث[32].

فتعليل الذيل شاهد على أن بيت مال المسلمين أريد منه بيت مال الإمام، والتعليل إشارة إلى القاعدة المرتكزة من أن «من له الغُنم فعليه الغُرم».

4ـ ومنها صحيحة ثالثة لأبي ولاّد ـ رواها عنه المشايخ الثلاثة قدس سرهم ـ عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ليس فيما بين أهل الذمة معاقلة فيما يجنون من قتل أو جراحة، إنما يؤخذ ذلك من أموالهم، فإن لم يكن لهم مال رجعت الجناية على إمام المسلمين، لأنهم يؤدون إليه الجزية كما يؤدي العبد الضريبة إلى سيده. قال: وهم مماليك للإمام، مَن أسلم منهم فهو حر[33].

وهذه الصحيحة قد استدلوا بها على أن الإمام عاقلة، فلا محالة تكون الدية لشخصه (عليه السلام) في قبال أن عليه ضمن الجريرة، وهذا الاستدلال عين لما ذكر في ذيل الصحيحة الثانية التي حكيناها عن سليمان بن خالد، وقد عبّر فيها ببيت مال المسلمين عمّا عليه الجناية وله الدية، فصحيحة أبي ولاّد هذه قرينة على أن المراد به بيت مال الإمام (عليه السلام) لما ذكرناه آنفاً.

فهذه الروايات الأربع ثلاثها الأولى شاهدة بنفسها على إطلاق بيت مال المسلمين على ما فيه مال الإمام بما أنه إمام والرابعة دالة على أن دية أهل الذمة لشخص الإمام وقرينة على أن المراد ببيت مال المسلمين في الأخبار التي ربما تعد معارضة لأخبار الباب هو بيت مال الإمام (عليه السلام)، فاندفعت المعارضة بحمد الله تعالى.

ولعل ما ذكرناه هو سرّ عدم عمل الأصحاب بما قد يجيء في الذهن بادي الرأي من الروايات المعارضة ففهموا أن المراد ببيت المال أو بيت مال المسلمين المذكور فيها هو ما يعمّ بيت مال الإمام، ففي الحقيقة قد عملوا بتلك الروايات أيضاً ولم يعتقدوا معارضةً، ومنه تعرف أن ما ذكره صاحب الجواهر هنا في كتاب الفرائض بقوله: «إنا لم نعثر على عامل بالنصوص القاصر أكثر أسانيدها المشتملة على أن إرثه لبيت المال، وفي بعضها لبيت مال المسلمين، الموافقة للعامة، إلا الإسكافي والشيخ في محكيّ الاستبصار، فلتطرح أو تحمل على التقية، أو على أن المراد ببيت المال ـ وإن أضيف إلى المسلمين ـ مال الإمام (عليه السلام) بقرينة الأخبار الأخر وما عن جماعة من شيوع إطلاق بيت المال وإرادة بيت مال الإمام (عليه السلام)[34] مما لا يمكنا تصديقه لما عرفت من صحة ما أفاده ذيلاً الراجعة إلى انتفاء المعارضة. نعم لو سلّمت المعارضة كان عمل الأصحاب بروايات أن ميراث مَن لا وارث له للإمام دليلاً على أنها المشهور فيؤخذ بها ويترك مقابلها، ومع الغضّ عنه فموافقة العامة ومخالفتهم أيضاً دليل على تقدم ما أفتى به الأصحاب كما أفاد.

ثم إن القول بأن ميراث مَن لا وارث له لبيت مال المسلمين حكاه العلامة في المختلف عن ابن الجنيد[35]، وأما ما حكى من الاستبصار فهو خلاف ظاهر كلام الشيخ (رحمه الله) فيه، وذلك أنه (قدس سره) روى فيه أولاً صحيحة سليمان بن خالد الأولى ـ بحسب ترتيب حكايتنا ـ ثم رواية عمار بن أبي الأحوص المصرٍّحة بأن ولاء السائبة التي لا مولى له للإمام وعليه جنايته وله ميراثه، ثم روى موثقة أبي بصير التي فيها أن ميراث ذاك السائبة لأقرب الناس لمولاه الذي أعتقه، ثم قال: فهذا الخبر غير معمول عليه لأنه إذا لم يوال أحداً كان ميراثه لبيت المال ويكون عليه جريرته على ما تضمّنته الأخبار الأولى[36]. فملاحظة كلامه يعطي أنه أيضاً يرى أن بيت مال المسلمين المذكور في رواية سليمان بن خالد هو بيت المال الذي يكون فيه أموال الإمام، وهذا بقرينة نقله لرواية عمار بن أبي الأحوص الدالة على أن الميراث للإمام وعدم تعليق عليها. والحاصل: أن الظاهر أن منشأ حكاية هذا القول الموافق للعامة عن الاستبصار هو هذا الموضع من الاستبصار ولا دلالة له أصلاً كما مر.

ومما ذكرنا تعرف أنه لا شهادة بوجه ولا تأييد في أخبار الباب لأن ميراث مَن لا وارث له الذي من أنفال ملك لعموم المسلمين ليكون فيه تأييد لأن الأنفال ليست ملك شخص الإمام كما ربما يلوح استفادة هذا التأييد من كلمات بعض الأعاظم[37].

الطائفة الثانية: ما ربما تدل على أن ميراث السائبة الذي لا مولى جريرة له لأقرب الناس من سيّده الذي أعتقه، وهي صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: السائبة ليس لأحد عليها سبيل، فإن والى أحداً فميراثه له وجريرته عليه، وإن لم يوال أحداً فهو لأقرب الناس من مولاه الذي أعتقه[38].

وقد عرفت كلام الشيخ ذيله أن هذا الخبر غير معمول عليه، وقال في الجواهر: لم نعثر على عامل به[39]. فإعراض الأصحاب عنه مع وجوده في التهذيبين مسقط له عن الاعتبار ولا يقوى على معارضة ما عملوا به من الأخبار.

الطائفة الثالثة: ما ربما تدل على أن ميراث مَن لا وارث له لهمشاريجه:

1ـ ففي ما رواه الكليني بسند صحيح عن ابن عمير عن خلاّد السندي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «كان علي (عليه السلام) يقول في الرجل يموت ويترك مالاً وليس له أحد: أعط المال همشاريجه»[40].

2ـ وفي ما رواه الشيخ في التهذيب بسند صحيح عن ابن أبي عمير عن خلاّد عن السري يرفعه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) في الرجل يموت ويترك مالاً ليس له وارث فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): أعط المال همشاريجه[41].

3ـ وفي ما رواه كلاهما عن داود عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: مات رجل على عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يكن له وارث، فدفع أمير المؤمنين (عليه السلام) ميراثه إلى همشهريجه (همشيريجه)[42].

4ـ ولعل إلى بعض هذه الأخبار ما يشير ما عن الصدوق قدس سره: وروى في خبر آخر أن (من مات وليس له وارث فميراثه لهمشاريجة) يعني أهل بلده[43].

والحق ـ كما قال الشيخ في التهذيب[44] ـ أن هذه الأخبار إنما تضمنت أن أمير المؤمنين (عليه السلام) أمر بأن يعطى تركته همشاريجه وهو يجتمع مع أن يكون الميراث ملكاً له، وإنما فعل ذلك لبعض الاستصلاح، فإنه ـ كما مر في أخبار الأنفال ـ جاز أن يعمل بماله ما شاء. هذا ولو سلم تمام دلالتها واعتبار سند الكافي لوجود ابن أبي عمير فلم يقل بها أحدٌ فلا تقاوم الأخبار الكثيرة المعمول بها الدالة على أن ميراث مَن لا وارث له ملكٌ خاصٌّ للإمام (عليه السلام).

وبعد ذلك ينبغي التنبيه على نكتة وهي أن موضوع هذا العنوان هو ميراث من لا وارث له، والميراث يعم كل ما يورث من أي الأموال والحقوق، فيشمل جميع أقسام الأموال نقداً كان أو أرضاً أو فرشاً وفراشاً وغيرها، ولا يختص بقسم خاص منها كما لا يخفى.

هذا تمام الكلام في ميراث مَن لا وارث له، وقد تحصل أنه من الأنفال وملكٌ للإمام (عليه السلام).

السابع والثامن والتاسع من مصاديق الأنفال:

ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب وما صالحوا عليه وما أعطى الكفار بأيديهم.

فإذا ارتفع صيت الإسلام وقدرته أو بعث ولي الأمر أو المنصوب من قبله جنداً للقتال مع قوم فخافوا وانجلوا عن مقرهم وبلادهم فما بقي منهم فهو مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب وهو من الأنفال، كما أن الأعداء إذا بعثوا وفداً وصالحوا المسلمين على ترك مقاتلتهم في قبال شيء فهذا الشيء أيضاً من الأنفال، كما أنه إذا لم يكن صلح وابتدأ الأعداء بإعطاء شيء للمسلمين رجاء رفقٍ أو صفح عنهم فأخذه المسلمون فهذا الشيء أيضاً من الأنفال.

قال المحقق في الشرائع في مقام عد أول مصاديق الأنفال: وهي ـ يعني الأنفال ـ خمسة: الأرض التي تملك من غير قتال سواء انجلى أهلها أو سلموها طوعاً. وفي الجواهر بعده: بلا خلاف أجده، بل الظاهر أنه إجماع[45].

وقال ابن زهرة في الغنية: وأما أرض الأنفال وهي كل أرض أسلهما أهلها من غير حرب أو جلوا عنها... ودليل ذلك كله الإجماع المتكرر وفيه الحجة[46].

وفي الرياض بعد عبارة النافع بمثل ما في الشرائع: بلا خلاف في شيء من ذلك أجده[47].

والأمر كما قالوا، فإنّا أيضاً وجدنا الأصحاب ـ فيما عثرنا على كلماتهم ـ متوافقين ولم نجد فيه خلافاً.

ثم إن تعبير الأصحاب عن موضوع هذه العناوين الثلاثة مختلف، فتارةً عبروا بكل أرض فتحت من غير أن يوجف عليها بخيل ولا ركاب كما في أصول الكافي ومقنعة المفيد ومراسم سلاّر والكافي للحلبي. وأخرى بالأرض التي تملك من غير قتال كما في النافع والشرائع للمحقق وحدائق البحراني وولاية الفقيه لبعض الأعاظم، وقد قسّموها بما انجلى أهلها عنها أو سلموها طوعاً. وثالثة بكل أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب أو يسلمونها بغير قتال كما في نهاية الشيخ وسرائر الحلي وإصباح الشريعة للكيدري. والتعبير الأول مطلق ولعله مساوٍ للتعبير الثاني إلا أن الثالث بقرينة التقسيم لا يشمل ما سلموها بغير قتال. ورابعة بكل أرض جلا عنها أهلها أو أسلمها الكفار بغير قتال أو لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب كما في الوسيلة لابن حمزة والغنية والتذكرة. وخامسة بخصوص ما انجلوا عنها أو أسلموها كما في الدروس واللمعة للشهيد.

إلا أن الظاهر أن اختلاف التعابير إنما حصل تبعاً للأخبار العديدة الواردة في موضوع الكلام وربما انجرّت الدقة والاجتهاد إلى بعض هذه التعبيرات، فاللازم هو الرجوع إلى الأدلة اللفظية من الكتاب والسنة فإنها المعتمد الأصيل لأقوال الأصحاب والإجماع المدّعى في المسألة فنقول:

إنه قد ورد في الباب بعض آيات الكتاب وأخبار كثيرة، ومقتضى الدقة فيها أن المصداق للأنفال هنا عناوين ثلاثة ذكرناها، فقد قال الله تبارك وتعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ * وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ * وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[48].

فالآيتان الأوليان تحكيان أن جماعة من أهل الكتاب كتب الله عليهم الجلاء عن ديارهم فأخرجوا بيوتهم واجلوا عنها، والآية الأخيرة تحكي أنه قد بقى منهم أشياء وأنّ هذه الأشياء قد أفاءها الله على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعللت هذه الإفاءة عليه بأن المؤمنين لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب فلم تحصل ولم تبق بالجهاد لهم فلا وجه لأن تكون للمؤمنين من باب غنائم الحرب بل هي مختصة بالرسول (صلى الله عليه وآله). هذا مفاد نفس الآيات.

وقد ذكر المفسرون أن هذه الجماعة هم يهود بني النضير الذين كانوا ساكنين قرب المدينة فملكان قيامهم مقام إظهار العداوة للمسلمين حاصرهم النبي والمسلمون فأخربوا بيوتهم وذهبوا بأموالهم مهما أمكن ولا محالة بقيت منهم أراض دائرة وربما بقيت منهم أشياء أخر، فهذه الأمور هو المراد بالموصول في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ﴾ وواضح أن صدق الإفاءة إنما هو لمكان أن هذه الأمور قد أرجع الله من تحت أيديهم إلى الرسول الأعظم[49].

فالمستفاد من الآيات لاسيما الثالثة منها أن الفيء المذكور مختص بالرسول وليس غنيمة حربية لكي يكون للمسلمين فيه نصيب، فمورد الآية هو هذه الأموال شخصاً، إلا أنه بقرينة التعليل المذكور لا يبعد استفادة قاعدة كلية هي: أن كل ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ووقع تحت يد الإسلام والمسلمين فهو خاص بالرسول ليس لغيره فيه نصيب.

والآية كما ترى لم تحمل على هذه الأمور إلا عنوان الفيء ولم تذكر عنوان الأنفال، إلا أن روايات كثيرة قد نصّت على أن ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فهو من الأنفال، فلا بد من ملاحظة الأخبار.

فالأخبار الواردة في المسألة ـ بالنسبة إلى النظر إلى الآية المباركة ـ تنقسم قسمين، فقسم منها بمنزلة شرح وتفسير للمراد من المذكور في الآية، وقسم آخر ليس فيه هذا اللسان.

أما القسم الأول فهو أخبار أربعة أو ستة وهي موثقة ابن مسلم وخبر الحلبي ومرفوعة أحمد بن محمّد وخبر النعماني وخبر ابن أسباط[50].

وخبر آخر رواه الصدوق في الأمالي وعيون الأخبار، وسيأتي هذا الخبر والأخبار الأخر إن شاء الله تعالى.

وحق الكلام في الأخبار أن لسانها ـ في موضوع كلامنا ـ يختلف، والتحقيق في تحصيل مقتضاها أن يقال:

إن ظاهر صحيحة حفص بن البختري أن مصداق الأنفال هنا أحد أمور ثلاثة، وذلك انه روى عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب أو قوم صالحوا أو قوم أعطوا بأيديهم... الحديث[51].

فذكر هذه العناوين الثلاثة وعطف كلاً منها على ما قبله بـ (أو) وهو ظاهر في التنويع، فكل منها عنوان مستقلّ في أن يكون من الأنفال ومصاديقها ثلاثة وعليها اعتمدنا أول العنوان.

ومثل هذه الصحيحة ما عن دعائم الإسلام عن جعفر بن محمّد (عليهما السلام) أنه قال: ما كان من أرض لم يوجف عليها المسلمون ولم يكن فيها قتال، أو قوم صالحوا أو أعطوا بأيديهم... فذلك كله للرسول (صلى الله عليه وآله) يضعه حيث أحب وهو بعده للإمام[52].

وأيضاً مثلها ما عن تفسير العياشي عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: إن الفيء والأنفال ما كان من أرض خربة، أو بطون الأودية الحديث[53].

وقد وردت أخبار مفادها أن كل أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب من الأنفال:

1ـ ففي موثّق إسحاق بن عمار ـ الذي رواه علي بن إبراهيم في تفسيره ـ قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الأنفال، فقال: هي القرى التي قد خرّبت وانجلى أهلها فهي لله وللرسول، وما كان للملوك فهو للإمام، وما كان من أرض الجزية لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب وكل أرض لا رب لها والمعادن منها ومن مات وليس له مولىً فماله من الأنفال[54].

فظاهر هذه العبارة المذكورة في التفسير أن أرض الجزية ـ يعني التي بيد أهلها ـ إذا لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب فهي من الأنفال وهي لله والرسول، ومن المعلوم أن مثلها لا ينفاي صحيحة حفص فإنه صرح بأن ما لم يوجف عليه فهو من الأنفال ولم يتعرض للعنوانين الآخرين، والصحيحة تثبتهما أيضاً ولا منافاة.

2ـ وفيما رواه العياشي عن داود بن فرقد عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في حديث): قلت: وما الأنفال؟ قال: بطون الأودية ورؤوس الجبال والآجام والمعادن وكل أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب وكلّ أرض ميتة قد جلا أهلها وقطائع الملوك[55] ومقدار دلالتها والكلام فيها عين ما مر في الموثق.

3ـ وفي الخبر المروي عن تفسير النعماني عن علي (عليه السلام): والفيء يقسم قسمين: فمنه ما هو خاص للإمام، وهو قول الله عز وجل في سورة الحشر: ﴿مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ وهي البلاد التي لا يوجف عليها بخيل ولا ركاب[56].

وهذا الخبر وإن خالفته موثّقة محمّد بن مسلم في تفسير الآية المذكورة ـ كما ستأتي ـ إلا أنه عد البلاد التي لا يوجف عليها بخيل ولا ركاب خاصة بالرسول والإمام، ولا منافاة بينهما فيه، كما لا منافاة فيه بين هذا الخبر وصحيحة حفص كما ذكرنا في الموثق.

4ـ وفي مرفوعة رواها أحمد بن محمّد عن بعض أصحابنا: وما كان من فتح لم يقاتل عليه ولم يوجف عليه بخيل ولا ركاب إلا أن أصحابنا يأتونه فيعاملون عليه فكيف ما عاملهم عليه النصف أو الثلث أو الربع أو ما كان يسهم له خاصة وليس لأحد فيه شيء إلا ما أعطاه هو منه، وبطون الأودية ورؤوس الجبال والموات كلها هي له، وهو قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ﴾ أن تعطيهم منه ﴿قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ﴾ وليس هو يسألونك عن الأنفال، وما كان من القرى وميراث من لا وارث له فهو له خاصة، وهو قوله عز وجل: ﴿مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾... الحديث[57].

فهذه المرفوعة أيضاً قد عدّت الأرض التي لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب للإمام (عليه السلام) ومن الأنفال المذكورة في الآية وهي التي قلنا أنها لا تنافي صحيحة حفص الماضية. نعم تفسيرها لآية الحشر المذكورة بالفيء الذي هو له (صلى الله عليه وآله) تنافيه موثقة محمّد بن مسلم الآتية إن شاء الله تعالى كما ذكرنا في خبر النعماني أيضاً.

5ـ وفي مضمرة سماعة بن مهران قال: سألته عن الأنفال، فقال: كل أرض خربة أو شيء يكون للملوك فهو خالص للإمام وليس للناس فيها سهم، قال: ومنها البحرين لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب[58]. ورواها العياشي أيضاً[59]. فقوله في الذيل: «ومنها البحرين... إلى آخره» يدل على أن البحرين من الأنفال لأنها لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، فيدل على كبرى كلية هي، أنه كل ما لم يوجف عليه فهو من الأنفال، وهذه الكبرى قد فهمت من صحيحة حفص أيضاً ولا منافاة بينهما كما مر.

6ـ وفي معتبر الريان بن الصلت ـ المروي في أمالي الصدوق وعيون الأخبار ـ عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في مباحثته للعلماء بمحضر المأمون قال (عليه السلام): والآية الخامسة قول الله عز وجل: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾ خصوصية خصهم الله العزيز الجبار بها واصطفاهم على الأمة، فلما نزلت هذه الآية على رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: ادعوا لي فاطمة عليها السلام، فدُعيت له، فقال: يا فاطمة، قالت: لبيك يا رسول الله، فقال (صلى الله عليه وآله): هذه فدك، هي مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب وهي لي خاصة دون المسلمين، وقد جعلتها لك لما أمرني الله به، فخذيها لك ولولدك[60].

فقوله (صلى الله عليه وآله): «هذه فدك هي مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب وهي لي خاصة» وإن كان في مورد خاص إلا جملة «هي مما لم يوجف عليه...» ظاهرة في أنها علة اختصاصها بشخصه، فتدل على قاعدة كلية هي: أن كل ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فهو له (صلى الله عليه وآله) خاصة وهي متوافقة المضمون للكبرى التي محل البحث.

7ـ وفي خبر علي بن أسباط ـ الذي رواه الكليني والشيخ ـ قال: لما ورد أبو الحسن موسى (عليه السلام) على المهدي رآه يردّ المظالم، فقال: يا أمير المؤمنين، ما بال مظلمتنا لا ترد؟ فقال له: وما ذاك يا أبا الحسن؟ قال: إن الله فتح على نبيه فدك وما والاها لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فأنزل الله على نبيه: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾ فلم يدر رسول الله (صلى الله عليه وآله) من هم، فراجع في ذلك جبرائيل، ورادع جبرائيل ربه، فأوحى إليه أن ادفع فدك إلى فاطمة ـ إلى أن قال (عليه السلام) بعد ذكر حدود فدك في جواب سؤال المهدي ـ : نعم إن هذا كله مما لم يوجف أهله على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بخيل ولا ركاب[61].

وبيان دلالة هذا الخبر أيضاً قريب ممّا مرّ في معتبر الريّان، فإن جملة: «لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب» بيان لعلة اختصاص فدك به وتدل على تلك الكبرى الكلية.

8ـ وفي رواية أبي بصير ـ المروية في المستدرك عن كتاب عاصم بن حميد الحنّاط ـ عن أبي جعفر (عليه السلام): ولنا الأنفال، قلت له: وما الأنفال؟ قال: المعادن منها والآجام وكل أرض لا رب لها، ولنا ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب وكانت فدك من ذلك[62].

ودلالتها على أن ما لم يوجف عليه لهم بل وعلى أنها من الأنفال واضحة.

فهذه الأخبار الثمانية قد دلت على أن ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فهو للرسول والإمام صلوات الله عليهما وآلهما وقد تضمّن بعضها أنها من الأنفال كما عرفت، وهي من هذه الجهة موافقة لما دلت عليه صحيحة حفص ورواية الدعائم ولا تنافي ذكر أمرين آخرين أو غيرهما فيهما أو غيرهما، فإنه لا دلالة فيها على الحصر.

وهنا أخبار ثلاثة أخر ظاهرها تفسير الأنفال بما لم يوجف عليه ولعلها تنفي بمقتضى ظهور الانحصار أن يكون ذانكما الأمران أيضاً منها:

1ـ ففي ما رواه العياشي عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: الأنفال ما لم يوجب عليه بخيل ولا ركاب[63].

2ـ وفيما رواه العياشي عن أبي أسامة زيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الأنفال فقال: هو كل أرض خربة وكل أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب[64].

3ـ وفيما رواه المفيد في المقنعة عن محمّد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الأنفال، فقال: كل أرض خربة أو شيء كان يكون للملوك، وبطون الأودية ورؤوس الجبال وما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فكل ذلك للإمام خالصاً[65].

ففي هذه الروايات أن أريد مما لم يوجف عليه ما لم يقع عليه قتال دخل فيه ما أعطوا بأيديهم وما صولحوا عليه، وإن أريد ما لا يشملهما يُحمل على المثال ويكون إرادة غيره بقرينة سائر الروايات بلا إشكال، كما أن الأمر كذلك بالنسبة إلى ما لم يذكر في شيء منهما كميراث مَن لا وارث له والآجام فليس في هذه الأخبار أيضاً دليل على خلاف مفاد الصحيحة.

ومثل هذه الأخبار الثلاثة خبر محمّد بن علي الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الأنفال، فقال: ما كان من الأرضين باد أهلها وفي غير ذلك الأنفال هو لنا، وقال: سورة الأنفال فيها جدع الأنف، وقال: ﴿وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء﴾ وقال: الفيء ما كان من أموال لم يكن فيها هراقة دم أو قتل، قال: والأنفال مثل ذلك هو بمنزلته[66].

فقوله (عليه السلام) في الذيل: «الفيء ما كان... إلى آخره» يُحمل على المثال ويراد غيره أيضاً بقرينة مثل صحيحة حفص وغيرهما فلا منافاة.

ومثلها أيضاً ما عن الدعائم عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال في قول الله عز وجل: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ﴾ قال: هي كل قرية أو أرض لم يوجف عليها المسلمون وما لم يقاتل عليها المسلمون، فهو للإمام يضعه حيث أحب[67].

كما أن قول العبد الصالح أبي الحسن الأول في مرسلة حماد الطويلة: «وله بعد الخمس الأنفال، والأنفال كل أرض خربة باد أهلها، وكل أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ولكن صالحوا صلحاً وأعطوا بأيديهم على غير قتال»[68] حيث جمع فيه قيود عدم الإيجاف والمصالحة والإعطاء بغير قتال فهو محمول أيضاً على المثال قطعاً، وإلا فلا ريب في أن الجلاء عن الأرض بلا قتال الذي هو مع عدم الإيجاف عليها بخيل ولا ركاب كافٍ قطعاً في أن تصير من الأنفال كما في مورد الآية المباركة، فلا يراد منها التقييد، ومعه فلا يكون منافاة أصلاً.

ثم إنه إذا كان أرض قد جلا أهلها عنها بغير قتال فهي مصداق لما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب بل هي عبارة أخرى عنها، وعليه فلا منافاة بين مثل صحيحة حفص وما عدّ من الأخبار ما جلا عنها أهلها من الأنفال:

1ـ ففي موثقة زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: ما يقول الله ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ﴾؟ قال: الأنفال لله والرسول (صلى الله عليه وآله)، وهي كل أرض جلا أهلها من غير أن يُحمل عليها بخيل ولا رجال ولا ركاب فهي نفل لله والرسول[69].

2ـ وفي خبر محمّد بن مسلم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول ـ وسئل عن الأنفال ـ فقال: كل قرية يهلك أهلها أو يجلون عنها فهي نفل لله عز وجل... الحديث[70].

3ـ وفي خبر حريز المروي عنه في تفسير العياشي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته أو سئل عن الأنفال، فقال: كلّ قرية يهلك أهلها أو يجلون عنها فهي نفل، نصفها يقسّم بين الناس ونصفها للرسول (صلى الله عليه وآله)[71].

فهذه الأخبار أيضاً لا تنافي مثل صحيحة حفص، نعم ما في ذيل مرسل حريز وخبر ابن مسلم من أن نصف الأنفال فقط للرسول فهو خلاف سائر الأخبار العديدة المعتمدة ولم يعمل به أحد من الأصحاب كما مر أوائل البحث، فتذكر.

فقد تحصّل ممّا مرّ إلى هنا أنه لم يقم دليل على خلاف ظاهر صحيحة حفص والروايتين الأخريين التي بمعناها، بل اللازم من الجمع العرفي بين الأخبار أن كل واحد من العناوين الثلاثة ـ أعني ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب وما أعطاه الكافر بأيديهم وما صولحوا عليه ـ عنوان ومصداق خاص من الأنفال.

إلا أنه توجد هنا طائفتان أخريان من الأخبار ربما يقال بمنافاتهما لصحيحة حفص:

الأولى: روايتان من محمّد بن مسلم، أحداهما: موثّقته عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سمعه يقول: إن الأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة دم أو قوم صولحوا وأعطوا بأيديهم، وما (فما ـ خ ل) كان من أرض خربة أو بطون أودية، فهذا كله من الفي، والأنفال لله وللرسول، فما كان لله فهو للرسول يضعه حيث يحب[72].

وثانيتهما: موثقته الأخرى عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: الفيء والأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة الدماء وقوم صولحوا وأعطوا بأيديهم، وما كان من أرض خربة أو بطون أودية، فهو كلّه من الفيء، فهذا لله ولرسوله فما كان لله فهو لرسوله يضعه حيث شاء، وهو للإمام بعد الرسول، وأما قوله: ﴿وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ﴾ قال: ألا ترى؟ هو هذا. وأما قوله ﴿مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ فهذا بمنزلة المغنم، كان أبي يقول ذلك، وليس لنا فيه غير سهمين: سهم الرسول وسهم القربى، ثم نحن شركاء الناس فيما بقي[73].

فهاتان الموثقتان قد ذكرتا من الأنفال ما لم يكن فيه هراقة الدماء وهو بعينه ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، فلا تنافيان صحيحة حفص ولا سائر الأخبار الماضية إلا أنهما ذكرتا بعدها «قوماً صولحوا وأعطوا بأيديهم» عنواناً واحداً، فلا محالة يكون الإعطاء باليد عقيب المصالحة ولا يبقى لما أعطوه بأيديهم من عند أنفسهم بلا مصالحة محل مستقل، اللهم إلا أن يدخل في عنوان ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فبالنتيجة يكون عنوان ما لم يوجف عليه أوسع مما أريد منه في مثل صحيحة حفص، وهذا بخلاف تلك الصحيحة فإنّ ما أعطوه بأيديهم عنوان مستقل فيها، ولا محالة يكون خارجاً عمّا لم يوجف عليه وعدلاً له.

لكن الحق أن يقال: إن ظهور صحيحة حفص في كون كل من الثلاثة عنواناً خاصاً لمصاديق الأنفال وفي أن ما لم يوجف عليه أريد منه معنى أخص لا يدخل فيه ما أعطوه من عند أنفسهم ولا ما صولحوا عليه، فظهورها في الأمرين واضح. وحينئذ فلا محالة تكون الموثقتان من باب الجمع في التعبير بالنسبة لعنوان ما لم يوجف عليه فأريد منه فيهما ما أعطوه من عند أنفسهم وما جلوا عنه مثلاً بغير قتال، وقد جاءت صحيحة حفص فرّقت بينهما وأفادت أن كلاً منهما مصداق وعنوان خاص، فالجمع العقلائي هو الأخذ بظاهر صحيحة حفص، وربما يؤيده أن الدعائم قد روت ـ كما مر ـ رواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) بلفظة «أو» وهي متحدة المضمون مع الصحيحة، فتأمل.

الطائفة الثانية: صحيحة معاوية بن وهب قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): السرية يبعثها الإمام فيصيبون غنائم كيف يقسم؟ قال: إن قاتلوا عليها مع أمير أمّره الإمام عليهم أخرج منها الخمس لله وللرسول وقسّم بينهم أربعة أخماس، وإن لم يكونوا قاتلوا عليها المشركين كان كل ما غنموا للإمام يجعله حيث أحب[74].

فقد حكم (عليه السلام) بمقتضى الفقرة الأخيرة بأن كل ما لم يقاتل عليها المشركون فهي للإمام، وهي عنوان واحد يعم ما لم يوجف عليه وما أعطوه بأيديهم وما صولحوا عليه فيسقط صحيحة حفص وكل ما ذكر فيه عنوان ما لم يوجف عليه أو عنوان ما جلوا عنه، بل وموثّقتا ابن مسلم الآنفتي الذكر عن الاعتبار إذ هي كلها بظاهرها دلت على اعتبار هذه الخصوصيات في مصداق الأنفال.

اللهم إلا أن يقال بمثل ما مر منا آنفاً بالنسبة إلى الموثقتين وهو أن ظهور تلك الأخبار الكثيرة في أن لكلٍّ من هذه الخصوصيات دخلاً في المصداق قرينة على أن ما ذكر في صحيحة معاوية بن وهب إنما هو من باب الجمع في التعبير.

فالحاصل: أن التحقيق أن كلاً من العناوين الثلاثة مصداق للأنفال ومصاديقها هنا كما ذكرنا أول ثلاثة: ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب وما أعطوه من عند أنفسهم بأيديهم وما صولحوا عليه، والحمد الله.

ثم إنه لا ينبغي الريب في أن موضوع ما يعطيه الكفار وما يصالحون عليه هو ما يصدق عليه الموصول فيعم كل مال بل وحقّ قابل للنقل إلى الغير ولا يختصّ بخصوص الأرض، وأما ما لم يوجف عليه فهل يختص بالأرض والبلاد والقرى كما وقع التعبير بإحداهما في أخبار كثيرة قد مضت كمرسلة حماد والموثّقة الثانية والأولى لابن مسلم وموثّق زرارة وموثّق إسحاق بن عمار المروي في تفسير القمي وما أرسله العياشي عن حريز عن أبي إبراهيم وعن أبي أسامة وعن داود بن فرقد[75] فقد ذكر فيها الأرض وكخبر النعماني[76] الذي ذكر فيه البلاد وكخبر ابن مسلم وما أرسله العياشي عن عبد الله بن سنان وعن حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) وعن ابن سنان[77] فإنها قد ذكر فيها القرى؟ أم يُحمل كل منها على المثال ولو بإرادة معنى أعم من البلاد والقرى من لفظة الأرض ويقال إنه لا خصوصية لشيء منها في مصداقيته للأنفال بل الموضوع هنا كل مال بل كل ما يصدق عليه الموصول كما في الأمرين الآخرين؟

الظاهر هو الاحتمال الأخير، وذلك لأن الموضوع هنا في خبر الحلبي ما كان من أموال فيعمّ الأموال كلها، بل لا يبعد أن يقال: أن الموضوع في آية الفيء هو الموصول، يقول الله تعالى: ﴿وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ﴾ وما يبقى من أهل الكتاب الذين جلوا عن مقرّهم يعمّ أراضيهم الدائرة وبساتينهم وأشجارها وأثاث بيتهم مما لم يحملوها مع أنفسهم إذا ما انجلوا.

وبالجملة: يعم كلم ما له قيمة عند العقلاء من الأموال والحقوق فالموصول يشمل كلها، وجعل صلته «أفاء الله على رسوله» يدل على أن كل هذه الأشياء للرسول (صلى الله عليه وآله)، وبعد ذلك فقوله تعالى: ﴿فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ﴾ ظاهر في بيان سر هذه الملكية له (صلى الله عليه وآله) يعني فما أوجفتم عليه بأدوات الحرب حتى يكون لكم نصيب فيها، فهذه الفقرة ذكر علة ذاك الاختصاص ومؤكدة لإرادة الإطلاق من الموصول.

وفي المرتبة التالية من الآية الشريفة ـ بحسب الدلالة ـ صحيحة حفص، فإن المذكور فيها أيضاً: «الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب» فقد ذكر فيها الموصول وصلته أيضاً عدم الإيجاف والموصول شامل لكل ما له عند العقلاء قيمة كما عرفت. ومثلها مرفوعة أحمد بن محمّد عن بعض أصحابنا وما أرسله المفيد في المقنعة عن محمّد بن مسلم وما أرسله العياشي عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب»[78].

فالآية الشريفة وهذه الروايات تدل على أن مصداق الأنفال هنا كل أمر له قيمة عند العرف، ولا يختص بمثل الأرض والبلاد والقرى، بل تحمل المذكورات على المثال.

ويؤيد هذا الإطلاق أن عنوان الغنائم المذكورة في صحيحة معاوية بن وهب أيضاً شامل وعام للأمر المذكور، فقد حكم الإمام (عليه السلام) بأنها إذا لم يقاتلوا عليها المشركين فهي كلها للإمام.

وبالجملة: فالحق عدم اختصاص ما لم يوجف عليه بالأرض أو البلاد أو القرى بل يعمّها وكل مال أو حق له قيمة عقلائية. والحمد الله، وهو العالم بحقائق الأحكام.

[1] الخلاف: ج:4 ص:5 و 22 ـ 23 المسألة:1 و 14.

[2] الخلاف: ج:4 ص:5 و 22 ـ 23 المسألة:1 و 14.

[3] الغنية: قبيل آخر بحث الفرائض ص:608 من الجوامع الفقهية.

[4] الجوامع: ص:585، وقد مضت في ص:223 ـ 224.

[5] الحدائق الناضرة:، ج:11 ص:479، عن المنتهى، ج:1 ص:553 الطبعة الأولى.

[6] التذكرة، ج:5 ص:441.

[7] المدارك، ج:5 ص:418.

[8] مجمع الفائدة، ج:11 ص:464.

[9] رياض المسائل، ج،5 ص،255 طبع مؤسسة آل البيت (عليهم السلام).

[10] الوسائل، الباب:3 من أبواب ولاء ضمان الجريرة... ج:17 ص:547 ـ 549 الحديث:1 و 3 و 8.

[11] الوسائل، الباب:3 من أبواب ولاء ضمان الجريرة... ج:17 ص:547 ـ 549 الحديث:1 و 3 و 8.

[12] الوسائل، الباب:3 من أبواب ولاء ضمان الجريرة... ج:17 ص:547 ـ 549 الحديث:1 و 3 و 8.

[13] الوسائل، الباب:1 من الأنفال ج:6 ص:369 الحديث:14.

[14] الوسائل، الباب:1 من أبواب الأنفال ج:6 ص:371 الحديث:20.

[15] الوسائل، الباب:3 من أبواب ولاء ضمان الجريرة، ج:17 ص:548 الحديث:4 و 5.

[16] الوسائل، الباب:1 من أبواب الأنفال، ج:6 ص:365 الحديث:4.

[17] الوسائل، الباب:3 من أبواب ولاء ضمان الجريرة ج:17 ص:548 الحديث:4 و 5.

[18] الوسائل، الباب:1 من أبواب الأنفال، ج:6 ص:369 الحديث:17.

[19] الوسائل، الباب:3 من أبواب ولاء ضمان الجريرة، ج:17 ص:551 و 550 الحديث:13 و 11.

[20] الوسائل، الباب:3 من أبواب ولاء ضمان الجريرة، ج:17 ص:551 و 550 الحديث:13 و 11.

[21] الوسائل، الباب:3 من أبواب ولاء ضمان الجريرة، ج:17 ص:550 و 549 الحديث:12 و 6.

[22] النساء: 92.

[23] الوسائل، الباب:3 من أبواب ولاء ضمان الجريرة، ج:17 ص:550 و 549 الحديث:12 و 6.

[24] الوسائل، الباب،43 من كتاب العتق، ج:16 ص:49 الحديث:3.

[25] الوسائل، الباب،4 من أبواب ولاء ضمان الجريرة، ج:17 ص:553 و 552 الحديث:8 و 5.

[26] الوسائل، الباب،3 من أبواب ولاء ضمان الجريرة، الحديث:9.

[27] الوسائل، الباب:4 من أبواب ولاء ضمان الجريرة، ج:17 ص:553 و 552 الحديث:8 و 5.

[28] الوسائل، الباب:4 من أبواب ولاء ضمان الجريرة، ج:17 ص:553 الحديث:9.

[29] مستدرك الوسائل، الباب:2 من أبواب ولاء ضمان الجريرة، ج:17 ص:207 الحديث:1.

[30] الوسائل، الباب:60 من أبواب القصاص في النفس، ج:19 ص:93 الحديث:2 و 1.

[31] الوسائل، الباب:60 من أبواب القصاص في النفس، ج:19 ص:93 الحديث:2 و 1.

[32] الوسائل، الباب:6 من أبواب دعوى القتل وما يثبته به، ج:19 ص:109 الحديث:1.

[33] الوسائل، الباب:1 من أبواب العاقلة، ج:19 ص:300 الحديث:1.

[34] جواهر الكلام، ج:39 ص:260.

[35] المختلف، ج:9 ص:98 طبع مؤسسة النشر الإسلامي قم.

[36] الاستبصار، ج:4 ص:197 ـ 198.

[37] دراسات في ولاية الفقيه، ج:4 ص:89.

[38] الوسائل، الباب:4 من أبواب ولاء ضمان الجريرة، ج:17 ص:552 و 551 الحديث:6 و 1 و 2.

[39] الجواهر، ج:39 ص:260.

[40] الوسائل، الباب:4 من أبواب ولاء ضمان الجريرة، ج:17 ص:552 و 551 الحديث:6 و 1 و 2.

[41] الوسائل، الباب:4 من أبواب ولاء ضمان الجريرة، ج:17 ص:552 و 551 الحديث:6 و 1 و 2.

[42] الوسائل، الباب:4 من أبواب ولاء ضمان الجريرة، ج:17 ص:552 الحديث:3 و 4.

[43] الوسائل، الباب:4 من أبواب ولاء ضمان الجريرة، ج:17 ص:552 الحديث:3 و 4.

[44] التهذيب، ج:9 ص:387.

[45] الجواهر: ج،16 ص:116.

[46] الجوامع الفقهية، ص:585.

[47] رياض المسائل، ج:5 ص:254 ـ 255.

[48] الحشر: 2 ـ 5.

[49] راجع تفسير القمي، ج:2 ص:358، ومجمع البيان، ج:5 ص:257.

[50] الوسائل، الباب:1 من أبواب الأنفال، ج،6 ص:366 ـ 370 الأحاديث:12 و 11 و 17 و 19 و 5.

[51] المصدر السابق، ص:364 الحديث:1، وروى موثق إسحاق في تفسير القمي، ج:1 ص:254.

[52] المستدرك، الباب:1 من أبواب الأنفال، ج:7 ص:297 الحديث:9.

[53] المستدرك، الباب:1 من أبواب الأنفال، ج:7 ص:296 الحديث:3، تفسير العياشي، ج:2 ص:47.

[54] الوسائل، الباب:1 من أبواب الأنفال، ج:6 ص:371 الحديث:20، وروي موثّق إسحاق في تفسير القمي، ج:1 ص:254.

[55] الوسائل، الباب:1 من أبواب الأنفال، ج:6 ص:372 الحديث:32.

[56] الوسائل، الباب:1 من أبواب الأنفال، ج:6 ص:370 و 369 الحديث:19 و 17.

[57] الوسائل، الباب:1 من أبواب الأنفال ج:6 ص:370 و 369 الحديث:19 و 17.

[58] الوسائل، الباب:1 من أبواب الأنفال ج:6 ص:367 الحديث:8.

[59] تفسير العياشي، ج:2 ص:48 الحديث:18.

[60] الأمالي، المجلس:79 ص:314 ـ 315، العيون، الباب:23 ج:1 ص:233.

[61] الكافي، ج:1، ص:543، رواه عنه وعن التهذيب الوسائل: الباب:1 من أبواب الأنفال، ج:6 ص:366 الحديث:5.

[62] المستدرك، الباب:1 من أبواب الأنفال، ج:7 ص:295 الحديث:1.

[63] الوسائل، الباب:1 من أبواب الأنفال، ج:6 ص:372 الحديث:23 و 27.

[64] الوسائل، الباب:1 من أبواب الأنفال، ج:6 ص:372 الحديث:23 و 27.

[65] الوسائل، الباب:1 من أبواب الأنفال، ج:6 ص:371 الحديث:22.

[66] الوسائل، الباب:1 من أبواب الأنفال، ج:6 ص:367 الحديث:11.

[67] المستدرك، الباب:1 من أبواب الأنفال، ج:7 ص:297 الحديث:10.

[68] الوسائل، الباب:1 من أبواب الأنفال، ج:6 ص:365 و 367 الحديث:4 و 9 و 7.

[69] الوسائل، الباب:1 من أبواب الأنفال، ج:6 ص:366 و 367 الحديث:9 و 7.

[70] الوسائل، الباب:1 من أبواب الأنفال، ج:6 ص:366 و 367 الحديث:9 و 7.

[71] الوسائل، الباب:1 من أبواب الأنفال، ج:6 ص:372 و 367 الحديث:25 و 10.

[72] الوسائل، الباب:1 من أبواب الأنفال، ج:6 ص:372 و 367 الحديث:25 و 10.

[73] الوسائل، الباب:1 من أبواب الأنفال، ج:6 ص:368 الحديث:12.

[74] الوسائل، الباب:41 من أبواب جهاد العدو، ج:11 ص:84 الحديث:1، والباب:1 من أبواب الأنفال ج:6 ص:365 الحديث:3، عن الكافي، ج:5، ص:43.

[75] الوسائل، الباب:1 من أبواب الأنفال، ج:6 ص:365 ـ 372 الحديث:4 و 10 و 12 و 9 و 20 و 26 و 27 و 32.

[76] الوسائل، الباب:1 من أبواب الأنفال، ج:6 ص:370 الحديث:19.

[77] الوسائل، الباب:1 من أبواب الأنفال، ج:6 ص:367 و 372 الحديث:7 و24 و 25.

[78] الوسائل، الباب:1 من أبواب الأنفال، ج:6 ص:369 و 371 و 372 الحديث:17 و 22 و 23.