بين عامي 1979 و 2017 مسيرة مستمرة، لم تنقطع ولم تضع عن نقطة الهدف.

مسيرة بدأت مع الوصول إلى أرض إيران بعد رحلة طويلة في المنافي، ولم تنتهِ مع لحظة الرحيل إلى الباري، بل تواصلت واستطالت وباتت عصيّة على الامّحاء، وصنعها عزم رجل غيّر نفسه منذ البدايات، فاستطاع أن يغيّر بلداً، ويغيّر أمة، وربما أن يغيّر العالم.

إنه رجل فرد، ضعيف البنية، ولكنه قوي الإرادة، وقف لملك الملوك في موقع الندّ، وحاربه بلا شيء، إلا العزيمة والموقف والكلمة، وصبر فنال، وضحّى فانتصر.

لم يكن جهاده إلا استعادة لذلك الجهاد الذي استطاع أن يبني دولة على امتداد العالم القديم، مستنداً على توفيق الله وصوابية النهج وصلابة القيادة وتضحية المؤمنين.

وفي هذه الاستعادة أثبت هذا الرجل أن التغيير ليس مستحيلاً، وأن تحقيق الاهداف ليس وهماً، ولكن الوصول إلى هذه النتائج ليس أمراً سهلاً، ولا يمكن تحقيقه بالركون والقعود والدعاء.. بلا عمل.

إنه الخميني، الذي قَلَبَ عملية رسم المستقبل، وبدل أن يضيّع جهده بأحلام لا يعيشها إلا العاجزون، بنى نفسه بناءً يريده رب العالمين، وحمل إرادة صلبة لا تلين، ومضى على هدي من مضى، فكان النصر العظيم.

وعرف ذلك الرجل أن الحفاظ على النصر أصعب من النصر نفسه، فثبت في وجه العواصف وفي وجه المغريات، وأعاد بناء ذلك النهج العلوي الذي لا يعرف الاستسلام ولا الانحناء، فكان الاستمرار، وكانت الإنجازات التي لا تُحصى.

إنه الخميني، الإمام الذي شغل العالم في حياته، وما يزال يشغله بعد مرور ما يقرب من ثلاثين عاماً على وفاته، ليس من باب التذكّر والاعتبار، وإنما من باب المعايشة لفكره، والتأثر بهديه والتفاعل مع دولته التي بناها، والتي بقيت تحمل النهج نفسه، بلا تبديل، إلا باتجاه التفاعل مع تطورات العصر.

إنه الخميني، الذي وقف لقوى الهيمنة وقفة عزّ وصمود، وجعل الاستكبار في موقع الرهبة والخوف، وأعطى للمستضعفين أملاً بالمستقبل، وزرع البسمة على شفاه المحرومين الذين سحقهم التكبّر والتجبّر على مدى القرون.

إنه المجدّد الذي أخرج الإسلام من بطون الكتب، ليجعله واقعاً حيّا يطبق على الأرض وطريقاً متّبعاً من قبل أهله، بعد أن كان مهجوراً، إلا من بعض عُبّاد، وبعض رُوّاد.

إنه في الوقت نفسه المحافظ على تراث كادت تطورات العصر أن تطيح به، وأن تضعه في موقع القديم البالي الذي لا يتناسب مع هذا الزمان.

هو إذاً من ربط  الماضي بالحاضر، وجعل من الممكن ترتيب مسيرة الحياة لتنساب بسلاسة ومنطقية، بدل التصادم الذي كان سائداً بين الحداثة والتراث، بين الجديد والقديم، بين العلم والدين.. وفي ذلك التصادم كان التراث والقديم والدين في موقع المهزوم والضحيّة.

جاء الخميني في لحظة تاريخية قدّرها الله تعالى، ليثبت على أرض الواقع أن الدين يمكنه ان يبني دولة، وأن تكون هذه الدولة متقدمة وعصرية وناجحة، وفي الوقت نفسه محافظة على أصولها، متمسكة بجذورها، ثابتة على نهجها، لا تحول ولا تزول حتى تحقق أهدافها الربّانية، وبوسائل العصر الحالية.

هذا هو الخميني لمن لا يعرفه، وهكذا عاش الناس فكره وثورته وكلماته، فصنعوا المعجزة التي لا تنتهي، والتي لها في كل يوم جديد، مما يسرّ الأصدقاء ويعطيهم الأمل بالمستقبل الآتي، ومما يدهش الأعداء ويجعلهم في حيرة، لا يعرفون كيف يتعاملون مع هذا الفعل الذي يضعهم دائماً في موقع رد الفعل.

وكما صنع الخميني دولةً، فهو صنع رجالاً فهموا أطروحته ومضوا على نهجه، فكانوا استمراراً له وتكملة لطريقه. إنهم رجال آمنوا بربّهم فزادهم هدى، تقدّمهم عالم ربّاني واعٍ مضحٍ متواضع، يحمل الراية بلا كلل ولا ملل، ويسير دون تردد على طريق ذات الشوكة، لا تهزّه الصعاب، ولا تمنعه كل العراقيل من أن يقود المسيرة نحو برّ الأمان.

من ضياء الخميني، ومن سنا الخامنئي، قامت دولة، وتستمر إلى أن يحقق بها الله ما يريد أن يتحقق.

وليس رحيل الخميني رحيلاً، إنما هو احتجاب وراء غمام.. ويبقى دفئه في كل قلب، وأثره في كل روح.