الفصل الثامن

في بيان حضور القلب

من الآداب القلبية حضور القلب الذي يمكن أن يكون كثير من الآداب مقدمة له والعبادة بدونه ليس لها روح وهو بنفسه مفتاح قفل الكمالات وباب أبواب السعادات وقلّ ما ذكر في الأحاديث الشريفة شيء بهذه المثابة، وقلّ ما اهتمّ بشيء من الآداب كهذا الأدب، ونحن وان ذكرنا في رسالة سر الصلاة ، وهكذا في كتاب الأربعين قدرا مستوفى منه وبيّنا درجاته ومراتبه ولكن نذكر في هذا المقام أيضاً شيئا منه تتميما للفائدة وتحرزا عن الإحالة فنقول :

كما ذكرنا سابقا بأن العبادات والمناسك والأذكار والأوراد إنما تنتج نتيجة كاملة إذا صارت صورة باطنية للقلب وتخمّر باطن ذات الإنسان بها ويتصور قلب الإنسان بصورة العبودية ويخرج عن الهوى والعصيان، وذكرنا أيضاً أن من أسرار العبادات وفوائدها أن تتقوى إرادة النفس وتتغلب النفس على الطبيعة وتكون القوى الطبيعية مسخّرة تحت قدرة النفس وسلطنتها وتكون الإرادة الملكوتية نافذة في ملك البدن بحيث تكون القوى بالنسبة إلى النفس كملائكة الله بالنسبة إلى الحق تعالى " لا يعصون الله ما أمرهم " ( التحريم - 6 ) " وهم بأمره يعملون " ( الأنبياء – 27).

ونقول الآن: إن من أسرار العبادات وفوائدها المهمة التي تكون بقية الفوائد مقدمة لها. أن تكون مملكة البدن بجميعها ، ظاهرها وباطنها، مسخّرة تحت إرادة الله ومتحركة بتحريك الله تعالى وتكون القوى الملكوتية والملكية للنفس من جنود الله وتكون كلها كملائكة الله بالنسبة إلى الحق تعالى، وهذه من المراتب النازلة لفناء القوى والإرادات في إرادة الحق ويترتب على هذا بالتدريج النتائج العظيمة ويكون الإنسان الطبيعي إلهيا وتكون النفس مرتاضة بعبادة الله وتنهزم جنود إبليس بالمرة وتنقرض ويكون القلب مع قواه مسلّما للحق ويبرز الإسلام ببعض مراتبه الباطنية في القلب وتكون نتيجة هذا التسليم لإرادة الحق في الآخرة أن الحق تعالى ينفذ إرادة صاحب هذا القلب في العوالم الغيبية ويجعله مثلا أعلى لنفسه تعالى، فكما أنه تعالى وتقدس يوجد كل ما أراد بمجرد الإرادة يجعل إرادة هذا العبد أيضاً كذلك كما رواه بعض أهل المعرفة عن النبي صلى اله عليه وآله في وصف أهل الجنة (ما معناه) أنه يأتيهم ملك فيستأذن للدخول عليهم وبعد الاستئذان يدخل فيبلّغ السلام من الله تعالى عليهم ويعطيهم رسالة مكتوباً فيها (يخاطب الإنسان الذي هو مخاطب به) من الحي القيوم الذي لا يموت إلى الحي القيوم الذي لا يموت أما بعد فإنني أقول للشيء كن فيكون وقد جعلتك تقول للشيء كن فيكون، فقال صلى الله عليه وآله : فلا يقول أحد من أهل الجنة للشيء كن إلا ويكون . (قال الشيخ الأكبر في باب الواحد والستين وثلاثمئة من الفتوحات وورد في الخبر في أهل الجنة أن الملك يأتي إليهم فيقول لهم بعد أن يستأذن عليهم في الدخول فإذا دخل ناولهم كتابا من عند الله بعد أن يسلّم عليهم من الله وإذا في الكتاب لكلّ إنسان يخاطب به : من الحّي القيوم الذي لا يموت إلى الحّي القيوم الذي لا يموت . أما بعد: فإني أقول للشيء كن فيكون وقد جعلتك ... وقال أيضاً في السؤال السابع والأربعين ومئة من الباب ثلاثة وسبعين من الفتوحات، بعد أن نقل القول الشريف بسم الله من???العبد بمنزلة كن من الحق قال: اليوم تقول للشيء كن فيكون فقال صلى الله عليه وآله وسلم فلا يقول أحد من???أهل الجنة لشيء كن إلا ويكون . وقال الشيخ في الفصّ الاسحاقي من فصوص الحِكَم : العارف يخلق بهمته ما يكون له وجود من خارج محل الهمّة ولكن لا تزال الهمّة تحفظه .

تبصرة: الخبر المذكور لو كان صحيحا فليس من مختصات أهل المرتبة العالية من الجنة لان من أهل من يتلقّى السلام والكلام والمقام من الله سبحانه بدون واسطة كما أشير إلى ذلك في بعض الأحاديث والمتناولون الكتاب من الله في هذا الخبر بواسطة الملك فهذا المقام عام لجميع أهل الجنة ومن المقامات العامة، ولذلك قال فلا يقول أحد من أهل الجنة بشيء كن إلا ويكون. فافهم).

وهذه هي السلطنة الإلهية التي أعطي العبد إياها لأجل تركه إرادة نفسه وتركه سلطنة الهوى النفسانية وتركه إطاعة ابليس وجنوده ، ولا تحصل كل من هذه النتائج المذكورة إلا بالحضور الكامل للقلب، وإذا كان القلب في وقت العبادة غافلا وساهيا لا تكون عبادته حقيقية بل تشبيه اللهو  واللعب ولا يكون لمثل هذه العبادة أثر في النفس البتة ولا تتجاوز العبادة من الصورة والظاهر إلى الباطن والملكوت كما أشير إلى ذلك في الأحاديث، ولا تكون القوى النفسانية بمثل تلك العبادة مسلمة للنفس ولا تظهر سلطنة النفس لها، كذلك القوى الظاهرية والباطنية لا تكون مستسلمة لإرادة الله ولا تنقهر المملكة تحت كبرياء الحق كما هو واضح جدا، ولذا ترون أنه بعد مضيّ أربعين أو خمسين سنة لا يحصل أثر في أنفسنا بل تزداد يوما فيوما ظلمة القلب وتعصيّ القوى ويزيد اشتياقنا إلى الطبيعة وإطاعتنا الأهواء النفسانية والوساوس الشيطانية آنا فآناً وليس هذا كله إلا من جهة أن عبادتنا قشور بلا لبّ وفاقدة للشرائط الباطنية والآداب القلبية، ولولا هذه الجهة ففي حين أننا نرى أن كتاب الله سبحانه قد نصّ على أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهذا النهي ليس صوريا البتة بل لا بد أن يزهر مصباح في القلب ويضيء نور في الباطن يهدي الإنسان إلى عالم الغيب ، ويوجد زاجر إلهي ينهى الإنسان عن العصيان والتمرد، وها نحن أولاء نحسب لأنفسنا في زمرة المصلين وقد مضت علينا سنون ونحن مشتغلون بهذه العبادة العظيمة ومع ذلك لا نرى في أنفسنا هذا النور ولا نجد في باطننا هذا الزاجر والمانع فالويل لنا يوم نعطى صور أعمالنا وصحيفة أفعالنا في ذلك العالم بأيدينا ويقال " كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا " (الإسراء - 14) وانظر هل تليق تلك العبادات بالقبول من جنابه، وهل هذه الصلاة مع هذه الصورة المشوّهة الظلمانية مقرّبة لك إلى بساط الحضرة الكبريائية ؟ وهل ينبغي لك أن تسلك مع هذه الأمانة الإلهية ووصية الأنبياء هذا السلوك ، وهل يجوز أن تسمح للشيطان الرجيم الذي هو عدو الله أن يتدخل فيها بيده الخائنة ؟ ولماذا صارت الصلاة التي هي معراج المؤمن وقربان كل تقيّ مبعدة لكم عن الساحة المقدسة ومهجرة لكم عن جناب القرب الإلهي ؟ فهل لنا في ذلك اليوم سوى الحسرة والندامة والشقاوة والخجلة والانفعال نصيب ؟ يا لها من حسرة وندامة ليس لها في هذا العالم شبيه، ويا لها من خجلة وانفعال لا نقدر أن نتصور لها نظيرا، فإن الحسرات في هذا العالم مهما بلغت ممزوجة بآلاف من الرجاء، وكذلك الخجلات في هذه النشأة سريعة الزوال وهذا بخلاف ذلك العالم فإنه يوم بروز الحسرة والندامة كما قال تعالى " وأنذروهم يوم الحسرة إذ قضي الآمر " ( مريم - 39 ) فالأمر المنقضي لا يجبر والعمر التالف لا يستعاد فواحسرتاه على ما فرطت في جنب الله.

فيا أيها العزيز: اليوم يوم الإمهال والعمل وقد جاء الأنبياء وأتوا بالكتب ودعوا بدعوات مع هذه التشريفات ومع تحملهم الآلام والشدائد كي يوقظونا من نوم الغفلة وينبهونا من سكر الطبيعة ويوصلونا إلى عالم النور ونشأة البهجة والسرور وإلى الحياة الأبدية والنعم السرمدية واللذائذ الدائمة وينجونا من الهلاك والشقاوة والنار والظلمة والحسرة والندامة وكل ذلك لأجل أنفسنا ومن دون أن تعود عليهم - سلام الله عليهم - نتيجة ومن دون أن تكون لتلك الذوات المقدسة حاجة بإيماننا وأعمالنا، ومع ذلك ما أثّرت فينا دعوتهم وقد أخذ الشيطان بمسامع قلوبنا وتسلط على باطننا وظاهرنا بحيث لم يؤثر فينا شيء من مواعظهم أيّ أثر بل لم يصل إلى سمع قلوبنا شيء من الآيات والأخبار وما تجاوز ظاهر السمع الحيواني .

وبالجملة أيها القارئ المحترم الذي تطالع هذه الأوراق لا تكن ككاتبها خاليا من جميع الأنوار وصفر اليد عن جميع الأعمال الصالحة ومبتلىً بالأهواء النفسانية وارحم أنت نفسك واكتسب من عمرك نتيجة وانظر بالدّقة في حال الأنبياء والأولياء الكمّل وارم الرغبات الكاذبة والوعود الشيطانية ولا تغترّ بغرور الشيطان ولا تنخدع بخدع النفس الأمّارة فإن تدليسات الشيطان والنفس دقيقة وإنما ليعمّيان على الإنسان كل أمر باطل فيراه بصورة الحق ويغران الإنسان حينما يأمل التوبة في آخر العمر وينتهيان بالإنسان إلى الشقاوة. ومع أن التوبة في آخر العمر وعند تراكم ظلمات المعاصي وكثرة مظالم العباد وكثرة حقوق الله أمر صعب ومشكل للغاية. فاليوم مع أن الإرادة في الإنسان قوية والقوى الحيوانية على حالها وشجرة العصيان بعد لم تكبر وسلطنة الشيطان في النفس لم تستحكم والنفس جديدة العهد بالملكوت وقريبة الأفق إلى فطرة الله وشرائط حصول التوبة وقبولها سهلة فهما لا يدعان الإنسان يقوم بالتوبة ويخلع جذور هذه الشجرة الواهنة ويقضي على هذه السلطنة غير المستقلة ويعدانه بالتوبة في أيام الشيب التي تكون الإرادة فيها ضعيفة والقوى نحيفة والأشجار المختلفة للمعاصي ذات جذور عميقة وقوية وسلطنة إبليس في الظاهر والباطن مستقلة ومستقرة وألفة الإنسان للطبيعة شديدة والبعد عن الملكوت أزيد ونور الفطرة خافتا وشرائط التوبة صعبة وشديدة وليس هذا إلا الغرور والافتتان .

وحيناً آخر يبعدان الإنسان بوعد شفاعة الشافعين عليهم السلام عن ساحة قدسهم ويجعلانه عن شفاعتهم مهجورا، فإن الانغمار في المعاصي يجعل القلب بالتدريج مظلما ومنكوسا ويجرّ أمر الإنسان إلى سوء العاقبة ، وانّ طمع الشيطان في أن يسرق إيمان الإنسان وإنما يجعل الدخول في المعاصي مقدمة لها حتى يصل إلى النتيجة المطلوبة. فهذا الإنسان إن كان طمعه في شفاعة الشافعين فلا بدّ له أن يسعى ويجتهد في هذا العالم في الحفاظ على الرابطة بينه وبين الشافعين وأن يتفكر في حال شفعاء يوم الحشر كيف كان حالهم في العبادة والرياضة، ولو فرضنا أنكم ترتحلون من هذه الدنيا مع الإيمان بالله ولكن إذا كانت أثقال الذنوب والمظالم كثيرة يمكن ألا يشفع فيكم في أنواع الذنوب في البرزخ والقبر، وكما نقل عن الصادق عليه السلام من أن البرزخ على عهدتكم وعذاب البرزخ لا يقاس بعذاب هذه الدنيا وطول مدة البرزخ لا يعلمه إلا الله ولعله يطول ملايين من السنين .

ويمكن أن يكون في القيامة أيضاً بعد مدة طويلة في أنواع العذاب التي لا تطاق، إنكم لا تنالون الشفاعة ، كما أن هذا المعنى وارد في الأحاديث أيضاً، فهذا الغرور من الشيطان يمسك الإنسان عن العمل الصالح و يخرجه من الدنيا، إما بلا إيمان أو مع أثقال ذنوب كثيرة ويبتليه بالشقاوة والخسران.

وربما يعد الشيطان الإنسان بالرحمة الواسعة لأرحم الراحمين، وبنفس هذا الوعد يقطع الشيطان يد الإنسان عن ذيل الرحمة. وهذا الإنسان غافل عن أن بعث الرسل وإرسال الكتب وإنزال الملائكة والوحي والإلهام على الأنبياء والهداية إلى طريق الحق كل ذلك من شؤون الرحمة لأرحم الراحمين، وقد اتسعت الرحمة الواسعة لجميع العالم ونحن على جانب عين الحياة نهلك من الظمأ، هذا القرآن هو أكبر رحمة الله فان كنت تطمع في رحمة أرحم الراحمين فتأمل رحمته الواسعة واستفد من هذه الرحمة فانه قد فتح طريق الوصول إلى السعادة وبيّن طريق الهداية من الضلالة، وأنت تلقي تقسك في الهلاك وتنحرف عن الطريق المستقيمة. فليس في الرحمة إذن أي نقصان، ولو كان من الممكن أن يُري الله الإنسان طريق الخير والسعادة في طور آخر لكان سبحانه أراه إيّاه بمقتضى رحمته، ولو كان من الممكن أن يوصل الإنسان إلى السعادة إكراها لكان الأنبياء يوصلونه بالإكراه، لكن هيهات، أن طريق الآخرة طريق لا يمكن أن يسعى فيها إلا بقدم الاختيار، وان السعادة لا تحصل بالجبر، وان الفضيلة والعمل الصالح بلا اختيار ليسا فضيلة ولا عملا صالحا ، ولعل هذا معنى الآية الشريفة " لا إكراه في الدين " ( البقرة - 256 ) . نعم ما يمكن أن يعمل فيه الإكراه والإجبار هو صورة الدين الإلهية لا حقيقته، وان الأنبياء عليهم السلام كانوا مأمورين أن يفرضوا على الناس صورة الدين ما أمكنهم، وبأي نحو ممكن حتى صورة العالم صورة العدل الإلهي، ولكنهم بالنسبة إلى الباطن فليس لهم إلا مجرّد الإرشاد حتى يمشي الناس في هذه الطريق بأنفسهم وينالوا السعادة باختيارهم . وبالجملة ، هذا الوعد بالرحمة الواسعة لأرحم الراحمين هو أيضاً من غرور الشيطان ليقطع يد الإنسان عن الرحمة بطمع الرحمة .