سؤال وجواب

السؤال: ماذا تعني شرعية الحكومة؟ الأستاذ العلاّمة سماحة آية الله مصباح اليزدي «دام ظله» يجيب..

جوابه: قبل الإجابة عن السؤال من الضروري ابتداءاً توضيح وبيان المفاهيم الأساسية فيه وهي:

 

الحكومة

بالرغم من كثرة التعاريف الواردة لهذه المفردة في مصادر العلوم السياسية، فإن من الممكن تعريفها بتعبير بسيط كما يلي:

الحكومة مؤسسة رسمية تتولى الإشراف على السلوكيات الاجتماعية لأبناء المجتمع والعمل على توجيهها؛ فان قبل الناس عملية التوجيه بأسلوب سلمي حصلت الغاية المرجوة، وإلاّ وجدت الحكومة نفسها مضطرةً لاستخدام أسلوب القوة لتحقيق أهدافها، أي لو أن أُناساً تمردوا على القوانين الضرورية لتحقيق الأهداف التي تصبو إليها الحكومة؛ فإنهم يُرغمون على الانصياع لهذه القوانين عبر الاستعانة بالأجهزة الأمنية. وهذا التعريف يشمل الحكومات الشرعية وغير الشرعية.

 

ضرورة الحكومة

أقرَّت مختلف النظريات المطروحة بشأن الحكومة بضرورة قيامها، وشذَّ مذهب الفوضوية وحده حيث أنكر ضرورتها؛ إذ يعتقد أتباعه بإمكانية إدارة الإنسان لحياته الاجتماعية من خلال الالتزامات الأخلاقية، ولا داعي لوجود الحكومة، ويرون وجوب العمل بنحو يوصل إلى هذه النتيجة؛ أي يتعين على الناس التوفر على قدر من التعليم والتربية، بحيث يتسنى لهم إدارة المجتمع دون الحاجة إلى الحكومة. فيما ترى المذاهب الأخرى تناقض هذه النظرية مع الواقع، وبتعبير آخر أنها نظرية غير واقعية، إذ أثبتت التجربة على مدى مئات بل آلاف السنين أن في كل مجتمع ثمة أفراداً لا يلتزمون بالقواعد الأخلاقية، وإذا لم تتولَّ قوةٌ ما السيطرة عليهم؛ فإنهم سيجرفون الحياة الاجتماعية نحو الفوضى.

 

مفهوم الشرعية

إن للشرعية الواردة في إطار الفلسفة السياسية مفهوماً اصطلاحياً، ينبغي عدم الخلط بينه وبين المعنى اللغوي لهذه المفردة والكلمات التي تشترك معها في جذر الاشتقاق، وبتعبير آخر ينبغي عدم النظر إلى «الشرعية» على أنها بنفس معنى لـ «المشروع» و«المتشرعة» و«المتشرعين» المأخوذة من «الشرع»، الذي يعني الدين، وعليه فإن المعنى المراد من هذه المفردة في الأبحاث السياسية يرادف القانوني.

وحينما نقرّ بضرورة وجود الحكومة التي يتمثل قوامها بصدور أمر من جهة ما، وتنفيذه من قبل الآخرين؛ أي أن قوام الحكومة يتمثل بوجود شخص أو مجموعة حاكمة من جهة، وشعب يُفترض به الامتثال لأوامر هذا الشخص أو المجموعة والعمل بها من جهة أخرى. فهل يعني هذا أن الشعب مُلزمٌ بطاعة كلِّ أمر يصدر إليه؟ وهل يحق لكل شخص أو مجموعة إصدار الأوامر للشعب؟

شهد التاريخ على امتداده أشخاصاً حكموا الناس وتسلطوا عليهم بالقوة من غير أن يكونوا أهلا للحكم، وبالعكس فربما كان هنالك شخص أو مجموعة لها الأهلية لذلك، وكان يفترض بالناس إطاعتهم.

في ضوء ما تقدم بوسعنا القول: إن المراد من الشرعية هو أن يتمتع الفرد بحق الحاكمية، والإمساك بالسلطة والحكومة، في حين يُفترض بسائر الناس السمع والطاعة له.

 

التلازم بين الحق والتكليف

يتضح في ضوء ما تقدم وحسب الاصطلاح المنطقي أن بينهما «تضايفا» من معنى الشرعية أن ثمة تلازماً قائماً بين «حق الحاكمية» و«تكليف الشعب بالطاعة» أي عندما يحوز شخصٌ ما هذا «الحق»؛ فإن «تكليف» الآخرين هو رعاية هذا الحق؛ ولغرض تقريب المعنى للأذهان نسوق المثال التالي:

ماذا يعني قولنا: إن للوالد حق إصدار الأمر لولده؟ إنه يعني وجوب الطاعة على الولد، وهذا «الحق» وذلك «التكليف بالطاعة» لا ينفصلان بالمرّة، ولا يتقدم أحدهما أو يتأخر عن صاحبه، وإذا ما تصورنا أن هناك تقدماً أو تأخراً؛ فهو مما لا تأثير له على الصعيد العملي. على أية حال؛ عندما نقول إن للحاكم حق إصدار الأمر فذلك يعني أن على الشعب الامتثال لأمره وطاعته؛ ومن هنا بوسعنا القول: إن الشرعية تعني أن له الحق.

وينبغي الانتباه إلى أننا هنا بصدد توضيح مفهوم الشرعية، وفي التعريف ربما يقتصر الأمر على توضيح المفهوم تارةً، وقد يجري التطرق إلى المصاديق الخارجية للمفهوم وكيفية تحققها والمعطيات المترتّبة على وجودها وما شابه ذلك تارة أخرى. وإذا أردنا التطرق إلى المقصد الثاني؛ يتعين علينا الدخول في قضايا أخرى، مثل معيار الشرعية والرؤى المتباينة بشأنها وسائر الأبحاث المتعلقة به، بيد أننا هنا بصدد بيان هذا المفهوم وحسب.

 

توضيح بشأن الحق

لقد أسلفنا القول بأن شرعية الحكومة تعني أن لها الحق في حكم الناس، ويسود بين الناس عقيدة بأنه في كل مجتمع من المجتمعات البشرية توجد فئة تتمتع بحق الحكم على الناس بينما الآخرون ليس لهم مثل هذا الحق، إذن إذا قيل: إن الحكومة الفلانية شرعية ـ أي لها الحق في الحكم ـ فذلك لا يعني أن القوانين التي تصدرها تلك الحكومة حقة، وتتطابق مع الواقع.

إن الحق الذي نتحدث عنه هنا ما هو إلاّ مفهوم اعتباري، يُطرح على صعيد العلاقات الاجتماعية، ونحن لا نتحدث هنا حول معيار الأحقية أو كيفية نيلها أو المصدر الذي يهب الحق... الخ، بل أن ما نقصده هو بحث حول المفهوم فقط.

إن كل من يتحدث عن شرعية حكومة ما فهو يتصور أن ثمة أناساً يتمتعون بالحق في الحكم، وهنالك مَنْ لا يتمتعون بمثل هذا الحق؛ فعلى سبيل المثال: لا يحق للصبيان أو المجانين أو المتخلفين عقلياً أو الجهلة والأميين وأمثالهم تولي الحكم على الآخرين وإصدار الأوامر لهم.

 

لماذا حق الحاكمية؟ وما هو الدليل على وجوب الطاعة؟

تقدّم القول بتلازم «حق الحاكمية» و«التكليف بالطاعة»، إذن ليس ثمة تفاوت إذا ما سألنا: لماذا يمتلك الحاكم الحق في أن يأمر؟ أو لماذا يتعين على الناس اتباع الحاكم وتطبيق أوامره؟

فإذا ما أقررنا بضرورة قيام الحكومة في كل مجتمع أولا، وأن الحكم يعني تدبير الشؤون الاجتماعية للمجتمع ثانياً، حينها يتعين علينا الإقرار بأن ثمة أناساً يمتلكون الحق في الحكم وإصدار الأوامر، وبالمقابل فإن الناس مكلّفون بإطاعة القوانين التي يصدرها الحاكم، أو الفئة الحاكمة، وإذا لم تكن أوامر؛ فلا يكون هنالك أي وجود للحكومة، أما إذا ما توفرت الأوامر والأحكام، ولم يكن هناك مَنْ يطيعها؛ فإن وجود الحكومة سيكون عبثاً ولا طائل من اعتبار الحاكم والمحكوم.

إن الأدلة العقلية التي تثبت العلاقة بين الحاكم ومحكوميه أو الرئيس ومرؤوسيه، أو الإمام والأمة مثل قولنا من دون التمتع بمثل هذه العلاقة فان مصالح المجتمع لا تؤمّن، هي نفسها تثبت حق الحاكم في الحكم، ووجوب طاعة الناس له.

ونكرر تأكيدنا بأن أصل ضرورة الحكومة، وحق الحاكم في إصدار الأوامر وتكليف الناس بالطاعة؛ كل ذلك يعتبر مسألة منفصلة عن هذه القضية وهي ما الدليل على أن للحاكم حق الحكومة؟ ولماذا من واجب الناس الطاعة له؟ وبحثنا ينصبُّ الآن على القضية الأولى دون الثانية، وسوف نتطرق في موضع آخر لبحث ما إذا كانت الشرعية تُكتسب من خلال إرادة الأمة والقبول العام، أم أنها تنشأ من مصدر آخر؟ وبالتالي سوف نبحث في ما يراه الإسلام بشأن الشرعية.