الشيخ أبو صالح عباس
مَن منّا لم تهزُّه هذه الكلمات التي استحالت رمزاً خالداً، وفعلاً استنهاضيّاً يشحذ الهمم، ويُبيّن حجم المسؤوليّة الملقاة على عواتقنا؟ وهذا في حدِّ ذاته يُعدّ من أبرز الدلالات الناصعة على ما تمتاز به وصايا الشهداء من أثر إيجابيّ بالغ على المجتمع بأسره.
* أهميّة الوصيّة في القرآن
ولا أدلّ على مؤثريّة الوصيّة، من النظر إليها على أنّها ممّا اعتمده الله تعالى في وحيه، وعمل به أنبياؤه وأولياؤه فيما بينهم، وفي دعوتهم إلى الله، حيث نجد في القرآن الكريم التصريح بالوصيّة، إمّا منسوبة إلى الله تعالى، وإمّا حكاية على لسان أنبيائه عليهم السلام، نظير: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ﴾ (الشورى: 13)، و﴿وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (الأنعام: 153)، ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ (العنكبوت: 8)، و﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ (البقرة: 132).
وقد استعان النبيّ الأكرم وأهل بيته عليهم السلام بالوصيّة، لحفظ تعاليمهم وتوجيهاتهم لشيعتهم، وللناس أجمعين. وهناك الكثير من الأحاديث القدسيّة التي يوصي الله تعالى فيها أنبياءه. وكذلك لدينا الكثير من الروايات التي تتضمّن وصايا الأئمّة عليهم السلام لبعضهم بعضاً، ولشيعتهم، وللناس أجمعين(1)، وما هذا إلّا لما تختزنه الوصيّة من موعظة دائمة، وحكمة باقية.
* وصايا الشهداء
عملاً بهذه السنّة، وانطلاقاً من أهميّة الوصيّة، تأتي وصايا الشهداء كمعالم حضاريّة لا يمحوها النسيان، وشواهد حيّة على صدق الوعد والبيعة لا يدفنها الزمان.
فهي وصايا الصادقين(2)، وهي تركة قدسيّة تحمل في طيّاتها عبق الشهداء، وزفراتهم، وأشواقهم، وعشقهم. ولأجل ذلك، فقد كان طبيعيّاً أن تترك كلماتهم كلّ هذا التأثير، وأن يومض يراعهم بهذا الألق المتوهّج. كيف لا، والوصيّة من فمِ الشهيد نصٌّ قطعيّ يحمل معه برهان صدقه، وهو دمه الذي بذله في سبيل الله؟ وكما أنّ ذكر الشهيد لا يُمحى، فإنّ كلماته لا تموت، وأخال ذلك بعضاً من الرزق الذي جعله الله تعالى للشهداء، حيث قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ (آل عمران: 169).
هذا، وقد ورد في الأثر عن العترة الطاهرة أنّ "من سنّ سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيء"(3)، فكيف بمن يصنع الخير للأنام، ويسنّ سنّة الفداء، ويخطُّ ميثاق الدم على صفحة الأيام؟
لطالما أثّرت الوصايا في الناس، وزرعت في كيانهم روح الجهاد، وأشعلت فيهم جذوة الإباء، واستنهضت هممهم وعزيمتهم.
"إخوتي الأعزاء، أوصيكم بطريق المقاومة، لأنّه السبيل الوحيد للفوز في هذه الدنيا، وأطيعوا الله حقّاً"(4).
ولا تزال كلمات الشهداء تحفر في الوجدان حروف العزّ، وإرادة النصر، وتزيل عن أعين الناس غشاوة الماديّة، ومن صدور بعضهم حواجز الانهزام، وتؤثر في نفوس الشباب واليافعين، بل في نفوس الأطفال الصغار، وهم ينظرون بعيونهم البريئة إلى "فيديو" الشهيد وهو يتلو درس الجهاد والشهادة.
* "حجابك أختاه أغلى من دمي"
عبارة خطّها شهيد بإصبعه قبيل شهادته، بحبر الدم القاني، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، وتركها على أحد الجدران أمانةً في وجدان كلّ رجل وامرأة، وعلّقها قلادة مجد على جيد كلّ فتاة، لتدرك ما لحجابها من عظمة، ولتعلم أن حفظ سترها من حفظ إرث الشهداء، وأنّ دم الشهيد يرخص دون صون الحجاب وحفظه.
وهناك الكثير من حالات الالتزام بالحجاب، أو ضبطه وفق المعايير الشرعية، حدثت بفعل هذه الوصايا، ليس على مستوى قريبات الشهيد فحسب، بل على مستوى عموم النساء.
* "أهلي الأحبّاء... سامحوني، وادعوا لي. أبي، أمي، إخوتي... سيروا كما أمرنا الله، حافظوا على الصلوات... واقرأوا القرآن، والدعاء، وتعاملوا بالحسنى، وصلوا الأرحام"(5).
أثّرت وصايا الشهداء التي تحضّ على الالتزام الدينيّ وعدم التهاون بالحكم الشرعيّ، على الجوانب الشرعيّة كافّة لدى الأفراد والجماعات. والأهمّ من ذلك أنّها خلقت بيئة من التديّن الثوريّ الذي لا يجمد عند حدود الشعارات، بل يتعدّاها ليشمل التطبيق الذي يجسّد المثل العليا، والفداء بأبهى معانيه، التديّن الذي لا تعوزه البصيرة، بل يتحرك دائماً في الاتجاه الصحيح. كيف لا وهو نتاج الشهداء أصحاب البصائر!
* "... كما أوصيك يا أمّي أن تصبري مثل صبر زينب عليها السلام... حين يأتيك نبأ شهادتي، تذكري شهادة الحسين عليه السلام، واعلمي أنّك يا أمّي سوف تقفين إلى جانب السيدة الزهراء عليها السلام..."(6).
كم تترك هذه الوصيّة ومثيلاتها من تأثير عاطفيّ على أفراد عائلة الشهيد؟ فهي تساهم في تكريس مشاعر المحبّة والتقدير بين أفراد العائلة، كما تحمل في بعدها التربويّ حضّاً للآخرين على تقدير الآباء، والتودُّد إلى الإخوة والأخوات، وإكرام الأقارب والأتراب، مضافاً إلى كونها تحفّز الأسرة والناس على تعميق الارتباط بأهل البيت عليهم السلام.
* "أوصي زوجتي وأبنائي، وسائر أقاربي، أن يولوا في الحياة الأهميّة وقبل كل شيء للنور المتوهّج في قلوب الناس، وأن يفتحوا لأنفسهم طريق السعادة من خلال الإيمان بالله الواحد..."(7).
لقد أصبحت هذه الوصايا بالنسبة إلى عوائل الشهداء، دساتير خالدة رسّخت لهم مفردات الثبات على العهد، وحفظ الدماء، ومداميك ثبّتت في شخصيّتهم أسباب الرسوخ على الحقّ، والسعي لحسن الختام.
فكم من يتيم تسلّح بوصيّة أبيه الشهيد، عندما نكبت به قدم، أو أخذت به هِنَة؟ وكم من زوجة شهيد تذخّرت بكلمات زوجها، عندما واجهتها الصعاب، وداهمتها المحن؟ وكم من عائلة أخجلتها وصيّة شهيدها حينما تهاونت، أو تخلّت عن شيء من قيمها ونهجها؟ وكم من فرد نبّهته كلمات الشهيد، عندما غاصت به غفلة، أو ماجت به نزوة؟
وفي الختام، ممّا تقدّم يتّضح أنّ وصايا الشهداء لا تقف عند حدود الأسرة والأقارب، بل تتعدّاها لتشمل الجيران والمجتمع بأسره.
وهناك شهداء تركوا تأثيرهم ليس على مستوى المبنى أو الحيّ أو المدينة التي ينتمون إليها فحسب، بل أثّروا وما زالوا في مسيرة الإنسانيّة بأسرها، فدفعوها قدماً على خطّ الحقّ في مواجهة الباطل.
وبدماء الشهداء، أصبحت الوصايا -بحقّ- ثقافة حضاريّة عامّة، تمتاز بلغتها الخاصّة، وبمضامينها الراقية، التي كانت وستبقى بمثابة الحجّة والمحرِّك على مستوى الأفراد والمجتمع.
1. يراجع: نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام ؛ الخصال، الصدوق، ص 205؛ الأمالي، الصدوق، ص 702؛ تحف العقول، ابن شعبة الحرّاني، ص 39؛ بحار الأنوار، المجلسي؛ الكافي، الكليني، (في الكثير من المواضع التي لا يتسع المجال لذكرها).
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ (الأحزاب: 23).
2. الكافي، الكليني، ج 5، ص 10.
3. مجلة بقية الله، العدد143، من وصية الشهيد غسان علي غانم.
4. (م.ن)، العدد14، من وصية الشهيد الشيخ وسام زيعور.
5. (م.ن)، العدد63، من وصية الشهيد الحاج حسن قاسم مريش.
6. (م.ن)، العدد3، من وصية الشهيد السيد محمد بهشتي.
تعليقات الزوار