الشيخ سامر توفيق عجمي
انطلاقاً من رؤيتنا الكونيّة القائمة على أساس أنّ الله تعالى هو خالق الإنسان ومالكه، وأنّ له على الإنسان حقّ طاعته والخضوع له، ينبغي للإنسان إنفاذ إرادته تعالى وفقاً لما يأمرنا به وينهانا عنه، حينها تجتمع أهداف الإنسان كلّها تحت مظلّة هدف واحد، هو الغاية الحقيقيّة من وجوده؛ أي القرب من الله تعالى.
* تربية الإنسان للقرب من الله
بما أنّ التربية عمليّةُ إيصال الإنسان إلى الأهداف المتوافقة مع كمال طبيعته التي خُلق مستعداً لها بأصل فطرته، تكون التربية الإسلامية هي الوسيلة التي تساهم في إيصال الإنسان إلى الغاية النهائيّة، التي هي عبادة الله تعالى. لكنّ الأهداف لا تنتقل من مرحلة الارتسام الذهنيّ إلى الواقع الخارجيّ مباشرة، بل تحتاج إلى طرق، إذا طبقها الإنسان توصله إلى النتائج المطلوبة. ويصطلح على هذه الطرق الموصِلة إلى الهدف اسم "الأساليب".
وثمّة أصول وأساليب عديدة يستخدمها علماء التربية في بناء الشخصية الإنسانيّة بنحو تصل فيه إلى الأهداف المنشودة، من ضمنها: التربية باللعب، والتربية بالقصّة، والتربية بالقدوة، والتربية بالترغيب والترهيب... إلخ.
وهذه الأساليب التربويّة غير منحصرة بعدد معيّن، وإنما تتجدّد وتتطوّر مع تطوّر طبيعة الحياة البشرية، وبعبارة أخرى: لا يوجد أسلوب تربويّ واحد لإيصال الإنسان إلى الأهداف، بل تتنوع الأساليب وتتعدد. والمهم في المحصّلة أن يكون الأسلوب طريقاً موصلاً إلى الهدف.
* الشهداء: نموذج للتربية بالقدوة
من أهم الأصول التربويّة في الرؤية الإسلاميّة هو أصل التربية بالقدوة. وهو عبارة عن اتّخاذ نموذج مشحون بالقيم المُجَسّدة، التي يمكن أن نحاكيها في حياتنا من أجل تحقيق أهدافنا.
ولا شكّ في أنّ الشهيد الذي قدّم روحه على طريق العشق الإلهيّ، يشكّل أفضل نموذج للمحاكاة؛ لأنّ شهادته طريق حياة، حياة عند ربّه اختارها الله تعالى له، وحياة في الدنيا؛ إذ يقع على عاتقنا -نحن الذين أحيانا الشهيد بشهادته- أن نعمل على إبقاء المشروع الذي قدّم دمه لأجله حيّاً فينا.
* وصيّة الشهيد: أسلوب جديد
من أفضل أساليب التربية بالقدوة، التربية بوصيّة الشهيد؛ بمعنى اتّخاذ وصيّة الشهيد صلة وصل بين الحياة الكائنة التي نعيش، والحياة التي يراد لنا أن نحقّقها ونعيشها، والتي قدّم الشهيد روحه كي تتحقّق هي.
ومن أهم السنن الحسنة التي تركّز عليها المقاومة الإسلامية وصايا الشهداء؛ بمعنى أنّ المجاهد الذي يعيش مشروع الشهادة، يقوم بتدوين وصيّته أو تسجيلها، وتكون هذه الوصيّة مشحونة بمجموعة من العقائد والمفاهيم والقيم والآداب والسلوكات، التي -يمكن القول- إنّ الشهيد ناضل وجاهد وقاوم من أجلها، واستشهد على طريق تحقيقها.
فالتربية بوصيّة الشهيد، تعني أن نوظِّف هذه الوصيّة كأسلوب في تربية الإنسان، وأن نعتبرها فرصة استثمار تربويّ لجميع أفراد مجتمعنا، من خلال غرس المفاهيم والعقائد والقيم والآداب والسلوكات التي خطّتها أنامل الشهيد في وصيته.
* قيم إنسانيّة في وصاياهم
بعد عملية رصدٍ سريعٍ لوصايا الشهداء، يمكن استخراج مجموعة من المفردات المشتركة التي يمكن اعتبارها قيماً وأهدافاً، تنبغي التربية عليها، والسعي إلى تحقيق هذه الأهداف التي استشهدوا من أجلها، منها:
1. الإخلاص لله تعالى في النيّة والعمل.
2. الارتباط بأئمّة أهل البيت عليهم السلام، وتذكّر مصابهم ومدى تحمّلهم وصبرهم، واتّخاذهم قدوة ونموذجاً.
3. الارتباط بالإمام الحسين عليه السلام لخصوصيّة تقديمه لنفسه وأصحابه وأولاده وسبي نسائه.
4. الارتباط بالإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف كحاضر ومراقب وشاهد في عصرنا.
5. الاقتداء بالمرأة الرساليّة، كالسيّدتين فاطمة وزينب L، خصوصاً في عصر الفساد الأخلاقيّ.
6. التمسّك بطريق الجهاد والمقاومة والدفاع عنه، وتحمّل الصعوبات والمشقّات والابتلاءات كافّة على هذا الطريق.
7. العمل على مواجهة مشاريع الاستكبار العالميّ وتهديداته وسلبه لخيراتنا وتحدّي إرادة الإخضاع ومحاولات الإذلال.
8. حفظ دماء الشهداء؛ لأنّها أمانة.
9. الالتزام بنهج ولاية الفقيه وطاعة أوامر القيادة.
10. مفهوم أداء التكليف واحترامه.
11. الزهد في الدنيا.
12. طلب المسامحة من الناس والأهل عن كلّ ما صدر من أخطاء في حقّهم.
13. تمسّك المرأة المؤمنة بالحجاب وثقافة الستر والعفاف.
وغيرها الكثير من المفردات التي تمثّل في حقيقتها قيماً تربويّة، ينضوي تحتها كثير من الوسائل لإيصال هذه القيمة عند ملاحظة كيف عبّر الشهيد عنها، ليكون ارتباطه بها دافعاً إلى ارتباط أجيال أخرى بها.
* كيف نستفيد من وصيّته؟
لأجل اعتماد أسلوب التربية بوصيّة الشهيد، والاستفادة منها، ينبغي لنا أن نلتفت إلى النقاط التالية:
1. العمل على تجميع هذه الوصايا، وتنقيحها، وطباعتها في كتب، لتكون في متناول الجميع.
2. العمل على قراءة هذه الوصايا، واستخراج منظومة المفاهيم والعقائد والقيم والآداب والسلوكات الموصى بها منها، خصوصاً الأصول المشتركة بين وصايا الشهداء، ووضعها في جداول أو مشجّرات، واعتبار مفردات هذه المنظومة قيماً ينبغي تربية الإنسان عليها.
3. تشجيع طلّاب الجامعات على دراسة وصايا الشهداء، كموضوعات لأبحاث الماستر أو الدكتوراه، والعمل عليها في ضوء منهج تحليل المضمون.
4. انتخاب مقاطع من هذه الوصايا وتحويلها إلى شعارات ثقافيّة وجهاديّة، يتمّ وضعها في مناسبات المقاومة المختلفة على البانوهات أو غيرها، كما حصل سابقاً مع شعار: "أختي حجابك أغلى من دمي". وإذا تأمّلنا وصايا الشهداء وجدنا فيها الكثير من المقاطع التي تصلح أن تكون شعارات تحتوي على قيم تربويّة. مثلاً، وصية الشهيد إبراهيم أحمد رمّال: "إنّ الشهادة هي الموت الواعي على طريق الهدف المقدّس". تختصر هذه العبارة فلسفة الشهادة بكلمات قليلة، فيمكن تحويلها إلى شعار يسهل تداوله، ويُرسّخ القيمة.
5. تحويل بعض مقاطع الوصايا إلى نصوص أدبيّة، تدرج في كتب الأدب، ويتمّ تدريسها للطلاب في المدارس.
6. إنشاء صفحات خاصة على مواقع التواصل الاجتماعيّ، حول وصايا الشهداء، وإثراء النقاشات حولها، والتشجيع على استخدام مقاطع من وصايا الشهداء كمنشورات في الفايسبوك أو غيره.
7. التشجيع والتحفيز على تحويل مقاطع من وصايا الشهداء إلى فلاشات إعلاميّة بطريقة فنيّة ومحترفة وجذّابة، تدخل فيها عناصر المؤثّرات الصوتيّة والبصريّة.
8. تداول مقاطع من وصايا الشهداء كشواهد قيميّة في أدبيّاتنا الإعلاميّة والثقافيّة وغيرها.
أخيراً، إنّ عمل الشهيد قد وصل إلى هدفه، حين ارتفع إلى السماء، تبقى الاستفادة من الثراء المعنويّ الذي حقّقه على الأرض. وهذا المقال كان محاولة أوّلية في طرح فكرة وصايا الشهداء كأسلوب في التربية، ما زال يتحمّل الإضافة والتطوير وكثيراً من الإبداع.
رحم الله الشهداء، ورزقنا شفاعتهم في الآخرة.
مجلة بقية الله
تعليقات الزوار