الدكتور الشيخ وهبة الزحيلي
لقد بزغ فجر الاسلام كالشمس المضيئة في رابعة النهار، حاملاً لواء الدعوة الشاملة إلى الله (عز وجل) في العقيدة والعبادة والشريعة والمنهج، محتضناً مبدأ القوة والنظام، وعنصر التلازم بين الدين والدولة الذي على أساسه شب الاسلام قوياً عزيزاً كريماً، وعلى نهجه تفيأ المسلمون ظلاله السامية في مظلة الدولة الرشيدة الحكيمة التي تلتزم قانون السماء، وتخضع لشريعة الله حكماً فصلاً عادلاً في شؤون الناس المختلفة.
وبدأت مقومات الدولة، وتحققت أركانها الأساس، وبدأ الوجود الدولي للمسلمين في رحاب المدينة المنورة في العهد النبوي وما تلاه من العهود المتلاحقة، وكانت دولة الاسلام واحدة تحت شعار: (الإمامة) أو (الخلافة)، وظل المسلمون يداً واحدة تحت حكم سلطان واحد إلى عصرنا الحاضر، إلى أن امتدت اليد الآثمة لكمال أتاتورك فألغى دولة الخلافة سنة 1924 بالتآمر مع الاستعمار الخبيث والصهيونية الماكرة واليهودية الحاقدة.
وتجزأت الوحدة الاسلامية، وتقوقعت تحت ظل كيانات هزيلة ودول ضعيفة، عملاً بالتخطيط الاستعماري، وأصبح للمسلمين قرابة خمسين دولة في منظمة الأمم المتحدة، ولكنها جميعاً لا تجسد ولا تحقق الكثير من أحكام الدستور الاسلامي في القرآن المجيد، بسبب بعدها عن هداية الله تعالى وسُنة نبيه (ص) وتطبيقها للقوانين الوضعية الدخيلة المستوردة من موائد الغرب الصليبي تحت عناوين الحداثة والمعاصرة والمدنية والحضارة والديمقراطية ونحوها من الشعارات البراقة، وبسبب انشغالها بتصفية الوجود الاستعماري وآثاره البغيضة، ثم حدث في أغلب هذه الدول ما هو مقرر في الدول الغربية من مبدأ فصل الدين عن الدولة.
وجاء في الثمانينات من القرن العشرين دور اليقظة أو الصحوة الاسلامية، واستبد الحنين بالجيل الناشئ الى مجد الاسلام التليد وقوة الدولة الاسلامية ووحدة المسلمين، وكان ميلاد الثورة الاسلامية المباركة، وأسلمة الدولة في جمهورية إيران الاسلامية، وإسقاط نظام الشاه على يد الامام روح الله الخميني تتويجاً لمشاعر الصحوة، بل كان ذلك أعظم حادث اسلامي معاصر، حيث برز وجود دولة اسلامية لا شرقية ولا غربية، وإنما قرآنية محمدية، فاغتبط العالم الاسلامي بها، وعمت الفرحة الكبرى قلوب جميع المسلمين قاطبة لنجاح التجربة الرائدة في اقامة نظام دولة اسلامية معاصرة، وتعلقت آمال المسلمين بهذا الحادث العظيم الذي ندعو الله دائماً أن يسدد فيه الخطى، وتتحقق فيه أطيب الثمرات، لأن بقاء واستمرار هذه التجربة نجاح للاسلام نفسه، وأي نكسة أو هزة أو تآمر على هذه التجربة والثورة المباركة خيانة للاسلام وشريعته ومبادئه.
لقد جسد الامام الخميني (قده) ببنائه الحكم الاسلامي في ايران تطلعات الاسلام وأهله لإقامة دولة اسلامية، وكان الجبل الأشم الذي حطم كبرياء المستعمرين، ومثل عزة المسلم وكرامته، وإيمانه بالله، وإخلاصه لله، واستقامته على شريعة الله، ووعيه النفاذ إلى آفاق الحياة المعاصرة، وحنينه لمظلة دولة الاسلام، وتطبيق شريعة الله.
كما أن هذا العمل الجبار الذي حققه الامام الخميني (قده) أثبت فيه صلاحية الاسلام لإقامة دولة في الأرض، هازماً بذلك شكوك المشككين وأراجيف المستعمرين وإفك المستشرقين في أن الاسلام لا يصلح أساساً للحياة المعاصرة، أو التفاعل مع النظام الدولي الحديث.
وبرزت في هذه الثورة المباركة اللحمة بين الفقاهة والقيادة السياسية بعد 1400 سنة، وأن العلماء والفقهاء اكفاء لقيادة الدولة الحديثة وإدارتها وتحقيق عزتها وهيبتها. وها اني أتناول في بحثي المعنون: "أهمية الحفاظ على الحكومة الاسلامية" ما يلي:
إيجاد الدولة وإقامة مؤسساتها
مؤامرة فصل الدين عن السياسة
الدولة الاسلامية والوحدة
الإصلاح السياسي والاجتماعي المنتظر
مقومات الحفاظ على الحكم الاسلامي وضرورته
والله أسأل أن يوفقنا لما فيه الخير والسداد، وأن يجنب أمة الاسلام العثار والزلل، ويحقق لها المجد والخلود.
إيجاد الدولة وإقامة مؤسساتها
أجمعت الأمة الاسلامية ـ استناداً الى مصدريها الأصليين: القرآن والسنّة ـ على ضرورة إقامة الدولة بمختلف أجهزتها ومؤسساتها اللازمة؛ لأن تطبيق الشريعة على النحو المطلوب لا يتحقق بغير ذلك، وهذا ما عبر عنه العلماء بقولهم: إن الإمامة أمر واجب وفرض محتم(1).
قال ابن حزم: اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة، وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيهم أحكام الله، ويسوسهم بأحكام الشريعة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، حاشا النجدات، فإنهم قالوا: لا يلزم الناس فرض الامامة، وإنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم(2).
نوع الفرضية هو الغرض الكفائي، قال الماوردي: فاذا ثبت وجوب الامامة، ففرضها على الكفاية كالجهاد وطلب العلم، فاذا قام بها من هو من أهلها، سقط فرضها عن الكافة(3).
وأما ضرورة المؤسسات التنفيذية، فقد عبر عنه بجلاء وصراحة الامام الخميني (قدس سره) في كتابه القيم "الحكومة الاسلامية" حيث قال:
"مجموعة القوانين لا تكفي لإصلاح المجتمع، ولكي يكون القانون مادة لإصلاح وإسعاد البشر، فإنه يحتاج الى السلطة التنفيذية، لذا فان الله (عز وجل) قد جعل في الأرض ـ الى جانب مجموعة القوانين ـ حكومة وجهاز تنفيذ وإدارة؛ الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يترأس جميع أجهزة التنفيذ في إدارة المجتمع الاسلامي، وإضافة الى مهام التبليغ والبيان وتفصيل الأحكام، كان قد اهتم بتنفيذها، حتى اخرج دولة الاسلام إلى حيز الوجود"(4).
ثم أضاف الامام الخميني قوله:
"نستفيد من سُنة الرسول (ص) وسيرته ضرورة تشكيل الحكومة؛ أما أولاً: فلأنه هو بدوره قد شكل الحكومة، والتاريخ يشهد بذلك، وكان قد تزعم ادارة المجتمع، وأرسل الولاة، وجلس للقضاء بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأرسل إلى أنحاء البلاد من يقضي بين الناس بالعدل. وكان يرسل السفراء إلى خارج حدود دولته، إلى رؤساء القبائل، وإلى الملوك، وكان يعقد المعاهدات، ويقود الحروب، وبالتالي كان هو ينفذ جميع أحكام الاسلام.
أما ثانياً: فقد استخلف بأمر من الله من يقوم من بعده على هذه المهام، وهذا الاستخلاف يدل بوضوح على ضرورة استمرار الحكومة من بعد الرسول الأكرم (ص). وبما أن هذا الاستخلاف كان بأمر من الله، فاستمرار الحكومة وأجهزتها وتشكيلاتها، كل ذلك بأمر من الله أيضاً"(5).
وركز الشيعة الامامية على دور العقل في إيجاد الدولة، فقالوا: تجب الإمامة عقلاً للحاجة الى زعيم يمنع التظالم، ويفصل بين الناس في التنازع والتخاصم، ولولا الولاة لكان الأمر فوضى.
براهين إيجاد الدولة
يمكن تفصيل ما ذكرناه بإيراد البراهين الشرعية والعقلية والضرورات الوظيفية على وجوب الامامة:
البرهان الشرعي: أجمع الصحابة ومن بعدهم التابعون على وجوب الإمام، وأقام المسلمون الإمامة بعد الرسول (ص) واقتصر الخلاف على شخص الإمام، كما أوضح الامام الخميني في كتابه "الحكومة الاسلامية"(6).
قال الايجي في المواقف وشارحه الجرجاني: إنه تواتر إجماع المسلمين في الصدر الأول، بعد وفاة النبي (ص)، على امتناع خلو الوقت من إمام(7).
وقال الماوردي: جاء الشرع بتفويض الأمور الى وليه في الدين، قال الله (عز وجل): {يا أيها الذينَ آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}(8) (النساء/59) ففرض علينا طاعة أولي الأمر فينا، وهم الأئمة المتأمرون علينا(9). وقال الله تعالى: {وأنِ احكُمْ بينهم بما أنزلَ الله ولا تتبع أهواءهم} (المائدة/ 49) {وشاورهم في الأمر فإذا عزمتَ فتوكل على الله} (آل عمران/159). وقد مارس النبي (ص) سلطات سياسية لا تصدر من غير قائد دولة، كإقامة الحدود، وعقد المعاهدات، وتعبئة الجيوش، وتعيين الولاة، وفصل الخصومات بين الناس في الشؤون المالية والجنائية ونحوها(10). ومن أهم هذه المعاهدات وثيقة المدينة أو الصحيفة بين فئات الأنصار والمهاجرين واليهود بعد الهجرة.
البرهان العقلي: يتفق العقلاء والمفكرون على ضرورة توفير النظام ودرء الفوضى في كل مجتمع يريد العيش بأمان واستقرار وسعادة؛ فالاجتماع والتمدن طبيعي في البشر، وكل اجتماع يؤدي الى التنازع والتزاحم والتنافس والاختلاف بين حب الذات (الأنانية) والحرص على تحقيق أكبر قدر من المصالح الشخصية، والتنازع يفضي غالباً إلى الخصام والصراع والهرج والمرج والفوضى وبالتالي هلاك البشر، وانقراض النوع الانساني إذا لم تنظم الحقوق، وتحدد الواجبات، ويفرض النظام، ويقوم الوازع الرادع، ويتم ذلك بالسلطان.
قال الماوردي: تجب الإمامة عند طائفة عقلاً، لما في طباع العقلاء من التسليم لزعيم يمنعهم من التظالم، ويفصل بينهم في التنازع والتخاصم، ولولا الولاة لكانوا فوضى مهملين، وهمجاً مضاعين. وقد قال الأفوه الاودي، وهو شاعر جاهلي:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهّالهم سادوا(11)
وهذا يدل دلالة واضحة على أن ضرورات الحياة والحفاظ على حقوق الانسان تقتضي وجوب الإمامة أو السلطة السياسية.
قال الامام الخميني (قده): "بما أن تنفيذ الأحكام بعد الرسول الأكرم (ص) وإلى الأبد من ضرورات الحياة، لذا كان ضرورياً وجود حكومة لها مزايا السلطة المنفذة المدبرة. إذاً، لولا ذلك لساد الهرج والمرج والفساد الاجتماعي، والانحراف العقائدي والخُلقي، فلا سبيل الى منع ذلك إلا بقيام حكومة عادلة تدير جميع أنحاء أوجه الحياة.
فقد ثبت بضرورة الشرع والعقل أن ما كان ضرورياً أيام الرسول (ص) وفي عهد الامام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) من وجود الحكومة، لا يزال ضرورياً إلى يومنا هذا"(12).
برهان الوظيفة: إن قيام الانسان بوظيفته بكونه خلفية في الأرض وحامل الأمانة (الفروض والتكاليف الدينية) يتوقف على وجود السلطة السياسية التي تمكنه من أداء وظيفته على نحو أكمل.
وهذه الواجبات لا تتحقق إلا في ظل وجود دولة، سواء أكانت عبادات محضة؛ كالصلوات والحج والعمرة، أو شعائر عامة؛ كالأذان والجمعة والأعياد، أو معاملات اجتماعية؛ كالعقود بأنواعها، أو تكاليف جماعية؛ كالجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة بنيان المجتمع الفاضل المستقر، والتعاون في سبيل الخير، والحق والسلام، وقمع الشر، ومحاربة الأهواء، وإشاعة الأمن.
وجدير بالذكر، أن كل رسالة إصلاحية وعلى رأسها الاسلام لا يمكن أن يقر قرارها، أو تظهر فائدتها إلا في سياج منيع من القوة المنيعة والسطوة الرادعة التي تلازم وجود الدولة(13).
ومن الغريب أن يرفض الفكر الانساني هذا المنطق أو يعارض هذا التصور الواقعي النابع من تلاحق الأجيال والمجتمعات.
قال النسفي: والمسلمون لابُد لهم من إمام يقوم بتنفيذ أحكامهم، وإقامة حدودهم، وسد ثغورهم، وتجهيز جيوشهم، وأخذ صدقاتهم (زكواتهم) وقهر المتغلبة والمتلصصة وقطاع الطريق، وإقامة الجمع والأعياد، وقطع المنازعات الواقعة بين العباد، وقبول الشهادات القائمة على الحقوق، وتزويج الصغار والصغائر الذين لا أولياء لهم، وقسمة الغنائم(14). أي نحو ذلك من الأمور المتطلبة لوجود الحاكم.
وقال الايجي في "المواقف": "ان في نصب الإمام دفع ضرر مظنون، وإن دفع هذا الضرر واجب شرعاً. وبيان ذلك أننا نعلم علماً يقارب الضرورة أن مقصود الشارع ـ فيما شرع من المعاملات، والمناكحات، والجهاد، والحدود، والمقاصات، وإظهار شعائر الشرع في الأعياد والجماعات ـ إنما هو مصالح عائدة إلى الخلق معاشاً ومعاداً، وذلك المقصود لا يتم إلا بإمام يكون من قبل الشارع يرجعون إليه فيما تعين لهم"(15).
ومن البراهين الدالة على وجوب الإمامة واستمرارها بين المسلمين وغيرهم: أن مرفق القضاء الذي تقوم به الدولة أمر ضروري لفض المنازعات الدائمة بين البشر، لاسيما بعد زوال النظام القبلي الذي يحكم فيه رئيس القبيلة بالعُرف والهوى الشخصي والتقاليد الموروثة، وعدم جدوى اللجوء إلى التحكيم إذا تعذر اتفاق المتخاصمين، فلم يبق إلا القضاء الذي يلجأ إليه كل إنسان بمفرده ولحماية حقوقه ودفع الأضرار عنه.
ومهمة القضاء في الاسلام لا تقتصر على إقامة العدل بالمفهوم الإلهي المجرد الشامل، وفصل الخصومات، وتطبيق أحكام الشريعة، وإنما يشمل كل من شأنه رعاية الحرمات الدينية، واحترام الفضيلة وإقرار المعروف، ومكافحة المنكرات والفواحش بمختلف ألوانها.
فلولا القضاء لا ستأصل البشر بعضهم بعضاً، وهلكوا جميعاً، فكان وجوده رحمة، وتنظيمه فريضة، وقيام الدولة به ووجودها من أجله أمراً محتماً.
وإذا كنا نعلم أن مهمة الدولة في الاسلام حراسة شؤون الدين والدنيا، وتحقيق السعادة للبشر في الحياة الدنيا والآخرة، علمنا مدى الأهمية المنوطة بالدولة، المستلزمة للسعي الفوري في إيجادها، ولولا ذلك لعمت الفوضى، وشاع الفساد، وانتشر الظلم بين العباد.
ومهام الدولة ووظائفها العامة تتمثل في الرسالة الشهيرة لأمير المؤمنين علي (ع) إلى واليه على مصر الأشتر النخعي، وهي ترشد إلى ضرورة وجود الدولة أو الامامة، ومن تلك المهام: جباية الخراج، وجهاد العدو، واستصلاح العباد، وعمارة البلاد، والتزام الحق والعدل، ومدارسة العلماء ومناقشة الحكماء، ونصرة المستضعفين، وإقامة الفرائض، وتنفيذ الأحكام، والوفاء بالعهود، وإيثار السلام، ومنع سفك الدماء، وتحقيق المساواة، واتباع الكتاب والسّنة، والاجتهاد في المستجدات(16).
والخلاصة: أن تلازم وجود الدولة مع دعوة الاسلام وتطبيق شرع الله أمر لا يمكن فصله في المفهوم أو التصور الاسلامي، منذ أن قامت دولة المدينة بعد الهجرة باعتبارها أول نواة لوجود الدولة بالمعنى الحديث القائم على أركان ثلاثة، هي: الشعب، والاقليم (الوطن)، والسلطة السياسية أو السيادة.
وإن استمرار الدولة الاسلامية وصونها والتفاني في سبيل إيجادها فرض إسلامي وعقيدة لا يجوز التهاون بها، أو الاخلال بكيانها(17).
قال الامام علي (ع) وبيده نعل يخصفها: "والله لهي أحب إلي من إمرتكم، إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً"(18).
مؤامرة فصل الدين عن السياسة
تميزت القرون الوسطى في الغرب بالصراع على السلطة الزمنية بين رجال الدين في الكنيسة من جهة، والملوك والحكام من جهة أخرى، ووقف رجال الدين أمام العلم وتطورات الحياة موقف الرافض والمعارض، وانتهى الصراع في الغرب المسيحي إلى فصل الدين عن الحياة والسياسة والعلوم التطبيقية والنظرية.
وظل الغربيون بالرغم من هذا الفصل في ديارهم يضمرون العداء للمسلمين، فغزوا بلاد المسلمين في الحروب الصليبية، وتم بفضل الله النصر للمسلمين على الصليبيين، وفي القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين تمكن هؤلاء الأعداء من استعمار أغلب بلاد المسلمين والعرب، وبعد أن طرد المستعمرون من ديارنا، أبقوا آثارهم في الفكر والسياسة بتأثير عامل النهضة الصناعية والتفوق الحضاري للغربين وتخلف المسلمين.
وكان من أهم آثار الاستعمار في عقلية أولئك الذين تتلمذوا في جامعات الغرب هو: فصل الدين عن السياسة في بلاد المسلمين، وأشاعوا أن التقدم الحضاري لا يتم بغير إبعاد الدين عن السياسة، وزعموا أنه (لا حكومة في التشريع الاسلامي، ولا مؤسسات حكومية أو دستورية في الاسلام، وعلى فرض وجود أحكام شرعية مهمة، فانها تفتقر إلى ما يضمن لها التنفيذ، وبالتالي فالاسلام مشرع لا غير)(19)! وهذا جزء من المخططات الاستعمارية، لإبعاد المسلمين عن التفكير في السياسة والحكم والادارة، تخوفاً من ظهور المارد الجبار في وجوههم، وهو الاسلام الصحيح القوي بمبادئه ورجالاته.
والاسلام يختلف عن الدين المسيحي الذي يفصل في مبادئه بين الدين والحياة، عملاً بما قال السيد المسيح: "دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله".
وأما الاسلام، فهو نظام شامل للعقيدة والعبادة والمعاملة والحكم والسياسة، وهو دين ودولة معاً، لا ينفصل فيه حكم شرعي عن آخر، وتجتمع في رحابه الامامة والسياسة والحياة والدنيا مع الدين في جميع مجالاته، ويسيران معاً جنباً إلى جنب.
وأدلة وجود هذا الدمج والتلازم كثيرة في صريح القرآن الكريم والسّنة النبوية اللذين ينظمان علائق المسلمين مع غيرهم في السلم والحرب، وقواعد نظام الحكم؛ كالشورى، والعدالة، والحرية، والمساواة، وصرح القضاء، وإقامة الحدود، وتنفيذ النبي (ص) أحكام الشريعة في الجنايات، والحدود والتعازير، واستمرار هذه الصفة في الحكم الراشدي، وتتابع الدول الاسلامية أربعة عشر قرناً، وشعار كل ذلك ومبدؤه قول الله تعالى: {… وإذا حكمتُم بين الناس أن تحكموا بالعدل…} (النساء/58).
الدولة الاسلامية والوحدة
الأمة الاسلامية أُمة واحدة متماسكة، متعاونة على السراء والضراء، متراحمة متآزرة متآخية بين أبنائها، تقف صفّاً واحداً أمام أعدائها؛ ألزمها القرآن المجيد بهذا المنهج، ونهاها عن التفرق والخلاف، فقال الله تعالى آمراً بالاعتصام بالكتاب والسّنة:
{واعتصِموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقُوا…} (آل عمران/ 103).
ووصف الله الأمة بالوحدة وحذرها من الفُرقة قائلاً: {إنَّ هذه أُمتكم أُمةً واحدةً وأنا ربُكم فاعبدون * وتقطعوا أمرهُم بينهُم كُل إلينا راجعون} (الأنبياء/92 ـ 93).
وفي سورة أخرى: {وإن هذه أُمتكُمْ أمةً واحدةً وأنا ربكم فاتقون* فتقطعوا أمرهم بينهم زُبُراً كُل حزبٍ بما لديهم فرحون} (المؤمنون/ 52 ـ 53).
وأكد النبي (ص) رابطة الوحدة بين المسلمين، فقال: "ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم"(20).
وفي رواية: "المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم"؛ أي ينتصرون على الفئات المحاربة لهم.
وجعل النبي (ص) المؤمنين كالجسد الواحد، فقال: "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمى"(21).
وإذا عمل الاستعمار على تجزئة الوحدة الاسلامية بدوافع الكراهية والحقد وحب التسلط، فما على المسلمين إلا أن يتحركوا لإعادة بناء وحدتهم من جديد، بعد أن أفل نجم الاستعمار.
ولقد حاولت بعض الشعوب الاسلامية توحيد صفوفها على أساس قومي، ففشلت وتعثرت، فلم يبق أمام المسلمين إلا الوحدة القائمة على قاعدة الاسلام، فلم يتوحد العرب في الماضي إلا به، ولن يتوحدوا في المستقبل إلا في مظلته، وآية ذلك واقع التاريخ كما أبان القرآن الكريم، فقال الله سبحانه: {وألّف بين قُلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألّفت بين قلوبهم ولكن الله ألّف بينهم إنه عزيزٌ حكيم} (الأنفال/ 63).
ومن المناهج التي ربما تؤدي الى الوحدة أن يبدأ المسلمون بالوحدة التشريعية القانونية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والاعلامية والتربوية، والدفاعية والسلمية، بتوحيد السفارات الخارجية.
والأهم والأجدى والجديد هو ما أبانه الامام الخميني (ره) فقال: "ونحن لا نملك الوسيلة إلى توحيد الأمة الاسلامية وتحرير أراضيها من يد المستعمرين، وإسقاط الحكومات العميلة لهم، إلا أن نسعى إلى اقامة حكومتنا الاسلامية، وهذه بدورها سوف تتكلل أعمالها بالنجاح يوم تتمكن من تحطيم رؤوس الخيانة، وتدمر الأوثان والأصنام البشرية والطواغيت التي تنشر الظلم والفساد في الأرض" (22).
الإصلاح السياسي والاجتماعي المنتظر
إن إقامة الدولة الاسلامية القوية الموحدة كفيلة بتحقيق أمجاد الاسلام، وبناء صروح عزة المسلمين وكرامتهم، وتخليصهم من ألوان القلاقل والمعاناة والاضطرابات التي يمرون بها.
وفي ظل هذه الدولة تتحرر سياستنا من الخوف والتبعية والعمالة للمستعمرين، وتصبح قواعد الحرية والمساواة والعدالة والشورى مسارات تنفيذية واقعية، لا مجرد شعارات، ويكون الاقتصاد الاسلامي نشيطاً قوياً لا يخدم مصالح الغرب أو الشرق، ويتمكن المسلمون حيئذ من رفع راية الجهاد المقدس لتحرير فلسطين وسائر الأقاليم الاسلامية المغتصبة، ويكون للذات الاسلامية كلمتها المرفوعة وهيبتها المنيعة، ويتربى المواطنون تربية اسلامية سامية وناضجة، ويكون العلم الحديث والبناء الصناعي والتقني والحربي منسجماً مع البناء الديني الرشيد، المتفتح غير المنغلق، المتسامح غير المتعصب، المترفع عن أي عصبية قومية أو عِرقية.
ونقضي بالوحدة على مختلف مظاهر الدمار والفساد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحقق هدف الإمامة السياسية الواحدة من حراسة الدين وسياسة الدنيا، بتنفيذ أحكام شريعة الله في الأرض، وحفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة، وحماية كيان الامة ومنعة الدولة، وإقامة الحدود لتصان محارم الله عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من الاتلاف والاستهلاك، وتحصين الثغور وحماية البلاد بالجيش القوي، وجهاد المعاندين والمعادين، وتأمير الأمناء وتقليد النصحاء أعمال الأمة، كما ذكر الماوردي(23).
ومن مهام الوحدة: إنقاذ المظلومين وتحطيم زمر الخائنين والجائرين من حكام الشعوب، وحماية المستضعفين، وأداء حقوق الفقراء، وعون المعذبين والمحرومين، وإسعاد جميع الناس، وإبعاد شبح الفقر والجوع والتخلف، والمرض والجهل، وحفظ الأمن والنظام، كل ذلك باعتدال وتوازن من غير إفراط ولا تفريط، كما قال الامام الخميني (قده)(24).
وعملاً بقول الله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات الى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نِعِمّا يعظُكم به إن الله كان سميعاً بصيراً} (النساء/ 58).
مقومات الحفاظ على الحكم الاسلامي وضرورته
لا يكفي المسلمين في هذا العصر وفي أي عصر أن يقوموا بتبليغ الدعوة الى الله وتوجيه الناس الى سبيل الهداية والرشاد؛ فلم يكتف الرسول الأعظم (ص) بتلاوة القرآن وترتيله من غير إقامة لحدوده، وتنفيذ لأحكامه، ولم يكتف خلفاؤه من بعده بإبلاغ الأحكام الشرعية إلى الناس، ثم يتركون الحبل على الغارب بعد ذلك، على حد تعبير الامام الخميني(25).
المسلمون مكلفون بحفظ الاسلام وصون أحكامه، وإقامة دولة الاسلام، والحفاظ على وجودها وديمومتها، وحمايتها من عوامل الهدم والضياع، والانتكاس والانحراف، لأن أي نكسة للنظام السياسي الاسلامي ربما تفسر بأنها نكسة للاسلام ذاته.
ومقومات ذلك: تطبيق شريعة الله في القرآن والسّنة، والاهتداء بسنة السلف الصالح، وإعداد الجيش القوي، وبناء الاقتصاد المتين، وجعل مناهج التربية والتعليم والإعلام والتخطيط من وحي الهدي النبوي، والبعد عن التعصب الاقليمي والمذهبي.
فقد كان من أهم عيوب أواخر الحكم العثماني محاولة تتريك الشعوب الاسلامية، ومن المهم جداً استمرار الشورى في جميع مؤسسات الدولة منعاً من الاستبداد، ويجب التزام العدل، والحق وتحقيق المساواة ونحو ذلك من قواعد الحكم في الاسلام، والتي هي أساس بقاء الدولة، والحرية مطلوبة ضمن قيود الشرع.
ولابُد ـ مع كل ذلك ـ أن ندرك أوضاع العصر وظروف المجتمع الدولي الحديث، وأن نعيش في واقعنا غير بعيدين عن مشكلاته وتطلعات الجيل المعاصر، ولا مانع من الاستفادة من ثقافة وفكر العلماء المعاصرين.
ومن الضروري تقويم أو تقييم ما أنجز، ودراسة أحوال التنفيذ، وجعل الاسلام أساس السياسة، لا أن يسخر الاسلام لخدمة أغراض السياسة والساسة. ومن أهم المبادئ الاسلامية: أن نقاوم الظلم، ونقمع الفساد بمختلف أشكاله، وأن نزيل مختلف الممارسات النافية للاسلام قبل البناء والإصلاح، لأن النهي مقدم على الأمر، والتخلي مقدم على التحلي.
إن إصدار الثورة الاسلامية في ايران دستوراً إسلامياً عمل رائع، ولكن لابُد من دراسة واقع التطبيق الاسلامي، والبحث في أن هذا الدستور يصلح أن يكون عاماً شاملاً أم محلياً موضعياً.
ولقد حدد الامام الخميني تطلعات الحكومة الاسلامية ورسم سياستها ومنهجها، وذلك في خمسة أمور:
ـ تخليد أحكام الشرع عملياً.
ـ ومنع الفساد في الأرض، من أجل تطبيق أحكام الشرع بشكل عادل.
ـ ومحاربة البدع والضلالات التي تقررها المجالس النيابية ـ البرلمانية ـ المزيفة.
ـ ومنع نفوذ وتدخل الأعداء في شؤون المسلمين(26).
ـ ومن خلال إقامة الدولة المسلمة يمكن إعادة الوحدة الاسلامية، واسترداد الحقوق المغتصبة في فلسطين وغيرها من ديار الاسلام.
وفي دوحة هذه الدولة نتمكن من التطبيق الكامل لشرع الله ودينه في الإعلام، والسياسة، وجهاد الأعداء، وتنفيذ حدود الله، والحفاظ على عزة المسلم وكرامته.
الحفاظ على وجود الدولة المسلمة ضرورة حتمية وتقتضي بالغ العناية، وذلك أهم من إيجاد الدولة المسلمة، فقد تعيش فترة، إن لم نحمها، ثم تضعف وتنهار في النهاية.
(الهوامش)
(1) "شرح العقائد النسفية" للتفتازاني: ص 142 وما بعدها، ومقالات الاسلاميين واختلاف المصلين للأشعري: 2/ 133، "اصول الدين للبغدادي": ص171 وما بعدها ، ط استانبول، و "الأحكام السلطانية" للماوردي: ص2،و "حجة الله البالغة" للدهلوي: 2/110.
(2) "الفصل في الملل والنحل" : 4/87، "المحلى" 9/ 428، مسألة 1768 "مراتب الاجماع" لابن حزم: ص 124.
والنجدات: فرقة من الخوارج تأثروا بالنظريات المثالية، والواقع خلاف ذلك.
(3) "الأحكام السلطانية" : ص 2.
(4) "الحكومة الاسلامية" : ص 23.
(5) المرجع السابق: ص 24ـ25.
(6) وواقع التاريخ العريق يشهد بذلك ( ينظر على سبيل المثال "معالم المدرستين" للسيد مرتضى العسكري: 1/ 141وما بعدها).
(7) "المواقف" وشرحه: ص 603 وما بعدها، "نهاية الاقدام" للشهرستاني: ص 489.
(8) أي أن طاعة أولي الأمر تقتضي وجوب نصبهم وإقامتهم، أي إيجادهم.
(9) "الأحكام السلطانية" ص 3.
(10) "زاد المعاد" لابن القيم: 2/ 124 وما بعدها.
(11) "الأحكام السلطانية" ، ص3.
(12) "الحكومة الاسلامية": ص 25ـ 26.
(13) "نظام الاسلام" للباحث: ص 193ـ 199.
(14) "شرح العقائد النسفية" للتفتازاني: ص 142 وما بعدها.
(15) المرجع السابق.
(16) "نهج البلاغة" بشرح الشيخ محمد عبده: 2/59ـ80، طبع طرابلس الشام سنة 1313هـ.
(17) "الحكومة الاسلامية": ص 119 وما بعدها.
(18) المرجع السابق: ص 53، "نهج البلاغة" 1/ 80.
(19) "الحكومة الاسلامية": ص 18.
(20) أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وابن ماجة، عن علي بن أبي طالب(ع).
(21) أخرجه أحمد ومسلم، عن النعمان بن بشير (رضي الله عنه).
(22) "الحكومة الاسلامية": ص 25.
(23) "الأحكام السلطانية": ص 3، 14.
(24) "الحكومة الاسلامية: ص 34، 64، 82، 84.
(25) المصدر نفسه: ص 66 وما بعدها.
(26) المصدر نفسه: ص 29.
تعليقات الزوار