أي رجل أنت؟!
عبد الرحمن العلوي
إنها المرة الأولى التي تُتاح لي فيها الفرصة لزيارة الإمام الخميني الراحل، وحينما علمت أني سأزوره في اليوم التالي داخلني شعور غريب في تلك الليلة.. لا أدري ما هي طبيعة ذلك الشعور، وجدت نفسي غارقاً في حالة من البهت والترقب والسرور.. بدا عليّ أني أعيش في جو من القلق.. لماذا القلق؟! هل هو قلق أم انتظار؟ وكيف يمكن التمييز بينهما؟.. ربما هو انتظار مشفوع بقلق.. لا أدري.. لم استطع ان اكبت مشاعر تفاعلي مع الخبر.. خبر لقاء الإمام.. هل سأراه حقاً؟! هل سألمح عينيه المتوهجتين؟! هل سأبصر طلعته التي تشعّ التقوى والصلابة؟
مداعبة الخواطر
قلت في نفسي: لأخلد إلى النوم.. علّي اختصر الزمن بالنوم.. وكيف يمكن أن ينقضي الوقت مع الاستيقاظ والدقائق تمر عليّ كالساعات؟ واستحسنتُ الفكرة، وأطفأت مصباح الغرفة وأسرجت مصباح النوم.. وأخذ هذا المصباح الأخير يبعث ضوءاً خافتاً أثار فيَّ الكثير من الذكريات الحلوة والمرة، ذكريات الطفولة والصبا والشباب، لا أدري لماذا لم يثر هذا المصباح من قبلُ عندي مثل هذه الذكريات؟ لماذا كنت حينما أسرج مصباح النوم واضطجع على السرير اشعر أن خدر الكرى أخذ يدبّ في عيني، أما هذه المرة فالأمر يختلف تماماً؛ أين هو النوم؟! ألم يقولوا إن سلطان النوم أقوى السلاطين، فلماذا هو مشلول هذا اليوم؟! ألا يحق لي أن أقول أن سلطان الانتظار أقوى سلطان في الكون؟
تذكرت كيف كنت أسرع أيام طفولتي إلى سرير النوم في ليلة العيد، كنت اعزف عن طعام العشاء وأهرول مبكراً نحو سريري وأدس نفسي في الفراش، لكنني لم أكن أذق طعم النوم مطلقاً.. كان العيد يملك عليّ عقلي وفكري وعواطفي.. كان العيد بلونه الذهبي واشراقته الحلوة وابتسامته العذبة ينتزع النوم من عيني. كنت احلّق على أجنحته السندسية إلى آفاق الجمال والخيال وأنا أرتدي الحلّة الجديدة التي اشتراها لي أبي وأحمل المحفظة المليئة بالنقود.. لا أدري لماذا تذكرت العيد في تلك الليلة.. ولماذا لازالت ذكريات العيد الرائعة منقوشة في مخيلتي.. ولماذا اشعر بلذة خاصة وأنا أرى شريط تلك الذكريات يمر من أمام بصري؟ ربما كانت حالة الترقب والانتظار هي التي ذكّرتني بليلة عيد طفولتي؛ ما أحلاها من ليلة وما أقساه من انتظار..!
أغمضت عيني كي اجبر نفسي على النوم، لكنّ أجفاني كانت ترتعش.. كان ارتعاشها تعبيراً عن رفضها للنوم.. ولم أطق تحمل ذلك الارتعاش ففتحتهما، وأخذت أحدق من جديد في ذلك النور الخافت.. كم هي ليلة طويلة وأخذت أتململ في الفراش، شعرت أن أبراً أخذت توخزني.. قفزت من على السرير وأسرعت نحو النافذة المغلقة.. فتحتها بحركة مضطربة، داعبت انفي نسمات منعشة.. أخذت استنشق تلك النسمات بعمق.. كانت نسمات ربيعية بهيجة.. وتدفق في ذهني سؤال مندهش: ربيع في الشتاء؟!
وانطلق بي شريط الذكريات إلى الأيام التي عاد فيها الإمام إلى الوطن بعد سنوات عجاف عاشها بعيداً عن الأمة.. طبعاً لم يكن بعيداً عنها بروحه ومشاعره وفكره واهتماماته.. كما أن الأمة كانت تعيش على إيقاع نبضات قلبه وتقوم وتقعد بقيامه وقعوده.. عاد الإمام إلى طهران في الشتاء.. فكان الربيع الذي قدم في الشتاء، وحوّل شتاء طهران في عام1979 إلى ربيع.. ربيع رائع لم تشهد إيران مثيله سوى في صدر الإسلام.
ألقى الإمام بقدومه الدفء والجمال والحب على كل شيء.. تدفقت الحياة في الأشجار والنباتات الذابلة، وحطمت البراعم أغلال الشتاء لتنطلق منها أزهار بألوان زاهية تحمل كل زهرة في حُقّها قنينة عطور.. وعبقت رائحة زكية عطرة في كل مكان.. وانفلتت الطيور من بين قضبان الأعشاش لتحلق في الفضاء اللامتناهي أسراباً أسراباً وهي تغرد للربيع الجديد الذي طرد الشتاء وعلّق قناديل الحرية في اجياد السرو، وقلائد الكرامة في أعناق الحور..
سر الحب
لا أدري ما هذا الحب الذي ينفجر في قلبي للإمام؟ لماذا أنا مغرم به إلى هذا الحد؟ وكدت استخف بمثل هذه الأسئلة.. فلم أكن أنا الوحيد الذي يذوب في حبه.. هذا الشعب بأسره يعشقه، يهيهم فيه، يرى به الأمل والحياة، وتتجسد له فيه صورة النقاء والشموخ والإيمان.. انه اجتذب كافة القلوب، واختطف كافة الأفئدة، وعانق كافة الأرواح.. فعاش في ضمائر الجماهير، وامتزج مع آمالها، وأصبح جزءاً لا يتجزأ منها.
إذن ما هي حقيقة هذا الرجل؟ فهل هو ملاك هبط من السماء إلى الأرض، هل هو مخلوق من مخلوقات الجنة، ما هو؟ ما سر هذا التأثير الذي يهز به العواطف والضمائر؟ ما معنى هذا الانشداد الجماهيري إليه؟ لماذا كل هذه القلوب تخفق حباً له، وكل هذه الحناجر تنشد له، وكل هذه الهتافات تحييه وتشيد به؟! لابد وان هناك سراً في الأمر.. لابد وان هناك ألغاز وطلاسم لا نعرفها.
وأخذت أرثي لنفسي ثانية واردّد: أية الغاز؟ أية طلاسم؟ ثم أطلقت آهة من فمي وأدرت ظهري للنافذة، وامتدت يدي إلى زر المصباح الكهربائي وضغطت عليه.. ملأ الغرفة ضوء ساطع بدّد ذلك النور الخافت وقطع عليّ سلسة أفكاري لبعض الوقت.. إلاّ أن تيار الذكريات سرعان ما عاد مرة أخرى عندما جلست على الكرسي الوحيد في الغرفة.. أطبقت جفني وشعرت بلذة عجيبة وأنا استرجع صور عودة الإمام إلى الوطن على أجنحة النصر.. وعاد السؤال السابق يضغط على دماغي باحثاً عن سرّ ذلك الحب الجارف الذي تكنّه الجماهير للإمام.. فلماذا هذا الحب الفريد؟
وأخذت ابحث عن الجواب بين تلافيف دماغي.. كان هناك الكثير من الإجابات.. وشعرت بالإعياء، فأيها الصحيح؟ كانت كلها صحيحة.. لكنني كنت ابحث عن إجابة مركزية تكون الإجابات الأخرى فروعاً لها.. وضغطت على رأسي بأصابع يدي كأنما أريد أن استخرج الإجابة بالقوة.. وانشلتني من بحر التفكير الذي كنت غارقاً فيه طرقات خفيفة على باب الغرفة، فانتفضت كالمرعوب، وشعرتُ بألم لانقطاع تيار أفكاي، فقد كان تياراً لذيذاً يقذفني على هذا الساحل تارة وعلى ذلك الساحل تارة أخرى.. وكانت كلها سواحل دافئة تعانق رمالها أشعة الشمس الذهبية الضاحكة.. إذن ها إنني قد عدت مرة أخرى إلى الواقع الذي يعني الانتظار..
وترامى إلى أذني صوت أمي الهادئ وهي تقول: لازلت مستيقظاً يا بني! وبعث صوتها في نفسي موجةً من الهدوء، وأسرعت نحو الباب وفتحته، كان القلق مرتسماً في عينيها، حاولتُ أن ابتسم كي أبدد شبح القلق، وقلت لها: أدخلي يا أماه.. دلفت إلى غرفتي وعيناها مثبتتان على عيني كأنها تبحث فيهما عن شيء ما.. ربما كانت تبحث عن سبب استيقاظي في هذا الوقت المتأخر، بينما المعروف عني إنني أنام مبكراً.
جلست على الكرسي وهي تمسح عينها بسبابتها كأنما تريد أن تطرد عنها النعاس.. شعرت بتأنيب الضمير لأني أيقظت بمصباحي أمي من نومها.. جلست على السرير وقلت لها بلهجة معتذرة: "لقد أزعجتك يا أماه". رمقتني بنظرة يشع منها الحب وقالت بصوتها الهادئ: داهمني القلق حينما رأيت غرفتك مضاءة في هذا الوقت المتأخر.
ثم صمتت وعيناها تحدقان فيَّ كأنها لازالت تصر على معرفة السبب. طأطأتُ رأسي إلى الأرض، فأنا لا أقوى على مجابهة نظراتها الثاقبة. ولم أرفع رأسي إلا حينما سمعتها تقول: "بني، هل هناك شيء تخفيه عليَّ"؟ وشعرت بالحيرة تستولي عليَّ، فماذا أقول لها؟ هل أقول لها أن انتظار رؤية الإمام قد سلب النوم من عيني؟ ألا يمكن أن تعد ذلك مبالغة مني؟ لا أدري بم أجيبها.. حاولت أن افتح شفتيّ إلا أن الكلمات ماتت بينهما… أدركت أمي أن شيئاً ما يتلجلج في صدري.. فازداد قلقها وعظم اضطرابها، وامتدت يدها لتضغط على كفي بحرارة.. شعرت براحة عجيبة تسري في أوصالي، أية قوة سحرية لدى الأمهات! نظرتُ في عينيها.. كانتا عميقتين كالبحر.. فأخذت أغوص فيهما دون إرادتي، إلا أنها سرعان ما قذفتني إلى الساحل حينما قالت: "ولدي.. هل تفكر في قضية الزواج"؟.
وكدت اصرخ: أيّ زواج؟ لكنني كتمت صرختي، ثم أطلقت زفرة من فمي، بعدها أدرت بصري في أرجاء غرفتي الصغيرة ثم أوقفته على صورة للإمام.. ولا أدري لماذا تستمر عيني على صورته، فهل أردت أن تكون حركتي هذه جواباً لأمي عن سؤالها، أم أن مغناطيسية الإمام التي تحملها حتى صوره قد جذبتها؟ وفهمت أمي جوابي بشكل مجمل.. وكانت على علم بمدى حبي له وذوباني فيه، كما كنت أعلم أيضاً كيف كانت تدعو له بطول العمر بعد كل صلاة، وتنذر النذور لسلامته..
قالت لي بصوت متهدّج: أنه هدية الله إلينا يا ولدي. هززت رأسي موافقاً، وقلت فيما يشبه الغمغمة: "انه ولي من أولياء الله يا أمي، انه…" وانقطع صوتي، وربما كان الحماس قد قطعه، إلا أنها سرعان ما قالت: "انه شخصية إلهية نادرة". وأخذت أتفرس في وجه أمي.. كانت ملامح وجهها تعبّر عن حالة لم افهمها بالضبط.. ربما كانت حالة تأثر أو تأمل.. لا أدري.. وأثارت عبارة أمي في نفسي زوابع التفكير من جديد.. وأخذت أتساءل: لماذا أصبحت شخصية الإمام نادرة؟
وكأن أمي أدركت هذا السؤال، فقالت وهي ترمق صورة الإمام: "الإيمان حينما يملأ القلب بشكل كامل ويكتسح كلّ شيء عداه مهما كان صغيراً، لابد وان يصنع شخصيات عظيمة مثل الإمام". وفغرت فمي.. واستولت عليَّ الدهشة.. لقد أجابت أمي إذن عن السؤال الذي كنت ابحث عن جوابه.. فالإيمان بالله، الإيمان الحقيقي الخالص يصنع أولياء الله، يصنع رجال المهمات والصعاب، يحول المرء إلى أمة كاملة، إلى قمة من الشموخ والتحدي، إلى عطاء وخير لا ينضب. الإيمان الصادق الواعي يصنع الثوار والأبطال والمجاهدين..
وفيما كنت أُحلّق مع الكلمات، أعادتني الأم إلى حيث كنت، وإذا بها تقول: "ولدي، الإيمان حينما تتفتح أزهاره في القلب، يبعث أريجه في الروح والجسم، فتعبق به الأنفاس والكلمات والسجايا والمواقف.." وتوقفت عن الكلام ريثما تبتلع ريقها، ثم قالت بنبرة تنم عن سلامة قلب وصدق يقين: "الإيمان بالله، حينما يكون قوياً صادقاً خالصاً ينعكس على نفس المؤمن على شكل تقوى تعصمه من الزلل والانزلاق.. وعلى شكل ورع يولّد لديه الخوف من الله والحذر من الوقوع في شراك المعاصي وفخاخ الآثام.. وعلى شكل تيار قوة تتدفق في الشرايين وتصنع المواقف المبدئية التي لا تتزعزع والثورة التي تلتهم كل مظاهر الشر وعناصر الانحراف والرذيلة..".
ومسحت بكمها دمعة انبجست من عينها، ثم أردفت قائلة: "وهذا الرجل يا ولدي كان إيماناً خالصاً ونموذجاً إيمانياً رائعاً.. كان ترجمة كاملة للإيمان، ولهذا نفذ إلى القلوب وامتزج مع النفوس، ووجدت فيه الجماهير كل ما كانت ترنو إليه من آمال وأمان، وعرفت فيه البطل المقدس الذي يقود مسيرتها نحو الله، ويكسر عنها أصفاد الخنوع واليأس، ويجني لها ثمار الحرية والاستقلال من بستان الجمهورية الإسلامية، ذلك البستان الذي زرع بذوره وشتلاته وفسائله بيديه وسقاه من ينابيع جهده ودماء أنصاره، وتعهده بالرعاية، حتى أصبح اليوم غاية في الروعة والجمال والعطاء..".
وكنت أصغي لكلمات أمي بدهشة.. أنها المرة الأولى التي تتحدث بهذا الشكل، لم أكن أتوقع أن اسمع منها مثل هذه الكلمات الحلوة.. إذن لم أكن قد عرفت أمي قبل تلك الساعة على حقيقتها.. أيّ أم أمي..! إنها أكثر معرفة بالإمام مني وأشد حباً له.. وأخذت أحدق في وجهها الذي غضّنته السنون وفي عينيها اللتين لم يختطف الزمن بريقهما.. أريد أن أتزود من ذلك الوجه ومن تلكما العينين الصلابة والعزيمة، وأسترفد الإيمان والورع.
حرارة الشوق
لا أدري كيف اطلّ الصباح.. ولا اعتقد أن عيني قد سرقت شيئاً من النوم في تلك الليلة رغم خلودي إلى الفراش بعد خروج أمي.. كانت صلاة صباحي في ذلك اليوم تختلف عن الأيام الأخرى.. كانت صلاة لذيذة ومفعمة بالروحانية.. وكنت اشعر وأنا أصلي أني قريب من الله قرباً لم أعهده من قبل.. وحينما فرغت منها أخذت أدعو وأتضرع والدموع تنهمر من عيني... لماذا هذه الدموع.. لماذا لم اعرف البكاء خلال الدعاء من قبل..؟ وامتدت يدي نحو المصحف.. أخذت أرتله وكأنّي اقرأ كلماته لأول مرة.. وحلّقت على أجنحتها إلى الجنة، إلى رحاب الله، إلى آفاق الملك والملكوت.. وبتّ أبصر أشياء لم أكن أبصرها من قبل.. ماذا يعني كل هذا؟!
وربما مرّ علي وقت طويل وأنا اقرأ القرآن.. اجتذبني إلى الأرض صوت أمي: "ولدي، لقد حان وقت خروجك". نظرت إلى ساعتي بقلق، لم يكن أمامي متسع من الوقت.. قبّلت المصحف ووضعته في موضعه، ثم أخذت ارتدي ملابسي على عجل.. كانت أمي قد أعدت طعام الفطور.. رمقت المائدة بقلق ثم نظرت إلى أمي نظرة تحمل شكري لها على إعداد الطعام واعتذاري عن تناوله.. وفهمت أمي مغزى نظرتي، لهذا بادرت قائلة: "ولكن تناول لقمة أو لقمتين على الأقل"، ووضعت لقمة خبز وجبن في فمي على عجل، ثم قلت لها: "أماه، ربما أتأخر، اعذريني".
واقتربت مني وطوقتني بذراعيها النحيفتين، وأجهشت في بكاء طويل، وأخذت دموعها الحارة تسيل من عينيها على صدري.. واغرورقت أنا الآخر عيناي بالدموع.. وأدركت ما كان يجول في خاطر أمي.. كانت تريد بهذه الطريقة أن تعبّر عن حبها للإمام، وان تنقل من خلالها رسالة حبها وولائها له.. وقبلت يديها ثم طبعت قبلة على رأسها وأخذت ابتعد عنها فيما كانت العبرة تنكسر في صدرها.. وخرجت من البيت وأنا أعدّ نفسي لرؤية الإمام.
كانت صورة الإمام ماثلة أمام عيني طوال الطريق إلى جماران.. وكانت عيناي ترنوان إلى تلك الصورة بانشداد عجيب، كان قلبي يدق دقات أكاد اسمعها، وكانت هذه الدقات تزداد كلما اقتربت من المكان.. لم أكن اصدق أني سأرى الإمام عن كثب، هل سأراه حقاً؟ هل سأملأ عيوني من جماله ووقاره وأتزود من نبع الإيمان المتدفق من عينيه، من حنجرته، من ملامح وجهه...؟!
ووضعت قدمي اليمنى داخل حسينية جمران وأنا أقول "بسم الله"، كان قلبي يخفق بشدة وعيناي في شوق شديد لرؤيته.. وجدت الحسينية مكتظة بالناس.. وداخلني العجب وأخذت أتساءل: متى قدم هؤلاء؟! وغمغمت: إذن أنا آخر من جاء.. كل هؤلاء أكثر شوقاً مني وأشدّ حباً ولهذا سبقوني إلى هنا، فأين أنا عنهم؟! ورثيت لحالي، فقد كنت أتصور أنني أكثر الناس حباً له.. وأخذت أخترق الجماهير المحتشدة بصعوبة بالغة.. كنت ابحث عن مكان لي بينهم أستطيع من خلاله مشاهدة الإمام على أفضل وجه.. ولم أجد مكاناً.. وبقيت واقفاً والاضطراب قد استولى عليَّ والقلق قد انبعث في نفسي.. لكن القلق لم يستمر طويلاً، إذ لمحت بين الجموع أحد أصدقائي.. شعرت بشيء من السرور، أخذت اتجه نحوه، لكن حركتي كانت في غاية الصعوبة.. ووصلت إليه آخر المطاف وأنفاسي تتلاحق، فهبّ واقفاً وعانقني عناقاً حارّاً.. لم اشعر بمثل حرارة هذا العناق من قبل.. واستطعت أن أجد لنفسي مجلساً إلى جانبه بشق الأنفس..
ونسيت أنني بين ذلك الحشد الغفير من الناس وإلى جانب صديقي، ولم أشعر أني قطرة في بحر تلك الجماهير التي كانت تنتظر ظهور الإمام على أحر من الجمر.. أخذت أعيش عالمي الخاص، لم أعد أفكر إلا بالإمام وذلك الكرسي المتواضع الذي تغطيه قطعة قماش بيضاء.. أهذا هو الكرسي الذي سيجلس عليه؟!
وأخذت شخصية الإمام تكبر في نفسي أكثر من أي وقت مضى.. هذا هو الزعيم الإسلامي الحق.. انه لا يبحث عن مظاهر الدنيا وزخارفها كما يفعل الزعماء في عالمنا الراهن.. وأخذت أدور بعيني في أرجاء الحسينية، المكان الذي اعتاد أن يلتقي فيه الجماهير.. مكان متواضع للغاية.. ليس فيه أي فنّ معماري أو زخرفة.. مكان ينطق بالفقر والبساطة.. نعم هذه هي الأماكن الخالدة.. ومن هذه الأماكن يخشى الطغاة.. وإلى مثل هذه الأماكن تهفو قلوب المستضعفين.. واستقرت عيني آخر المطاف على المكان الذي اعتاد أن يخرج منه الإمام.. كانت العيون مصوّبة بأسرها نحوه.. جميعها بانتظار ظهوره.. كانت الأنفاس حبيسة والقلوب خافقة والمشاعر متأججة.. كان عقرب الساعة لا يكاد يتحرك.. ما أقسى تلك الدقائق.. دقائق الانتظار الأخيرة! وأشرقت شمس الإمام فجأة.. ملأ نوره المكان واختطف الأبصار والقلوب.. تكهرب الفضاء.. وتصاعدت من الحناجر هتافات وكلمات وشعارات لا إرادية.. وراح كل واحد من المحتشدين يعبّر عن حبّه وتفاعله وتأثّره بطريقته الخاصة.. لم يعد بإمكان المرء في ذلك الحين أن يسيطر على نفسه وحركاته وكلماته.. أخذ كل منا يتجاوب مع سحرية الإمام تجاوباً عضوياً ويعبر عن انسحاره بالأسلوب الذي ينسجم مع حجم التأثر وطبيعة استيعابه لشخصيته.
بزوغ النور
وأخذت الدموع تنهمر من عيني بغزارة.. لماذا هذه الدموع؟ وباتت تلك الدموع تشكل حاجزاً خفيفاً راح يضبّب صورة الإمام، إلا أنه ضباب كان يرتفع بها إلى الأفق ويحلق بعيني أيضاً إلى تلك الآفاق.. لم استطع إيقاف تلك الدموع.. إلهي هل كل أوليائك هكذا؟ هل جميعهم ينتزعون من العباد الحب والإخلاص والأفكار والعواطف والدموع؟!
كنت أشاهد نوراً، ليس مثل هذا النور الذي ألفناه، يتصاعد من جبين الإمام.. وأخذ قلبي يغترف منه ويطير على أجنحته إلى عالم العرفان وفضاء النقاء والطهر والفضيلة.. كانت قامته معتدلة شامخة لم تحنها العقود، وعيناه تبرقان بريق الإيمان والصلابة.. طفقت اهتف بحماس رغم أن هتافي كان يضيع بين هتافات الآخرين: "أي رجل أنت! أنت بحق الزلزال الذي أماد الأرض تحت أقدام الطغاة.. أنت شموخ الجبال، وعنفوان الربيع، وإشراقة الشمس، وصلابة الحديد.. وأنت الصرخة الإسلامية التي دوت في هذا اليوم كي تؤذن بطلوع فجر إسلامي جديد على هذه الأرض، واندثار عهد رهيب كبلت فيه الإرادة وكُمَّت الأفواه وسحقت القيم…".
كان يوزع نظراته على الجميع ويلوح بيده تحية لهم وترحيباً بهم.. كنت أطيل النظر إلى تلك اليد السحرية التي أذعرت الشرق والغرب وأطاحت بالشجرة الخبيثة التي كانت تلقي بظلالها المرعبة على هذه البلاد.. تلك اليد التي زرعت الأمل في قلب كل محروم وضخّت الحياة في الرئات التي كاد أن يخنقها اليأس.. أية يد مباركة هذه اليد وأي قلب إلهي عظيم يحركها!
وما أن جلس على ذلك الكرسي حتى جلس الناس فجأة وبشكل تلقائي.. وسكنت الأنفاس، وخمدت الأصوات، واتجهت العيون بأسرها إليه، واستعدت آذان الروح قبل آذان الجسم لسماع ما سينطلق من حنجرته الربانية. وكنت خلال تلك الفترة التي كانت فيها شفتاه تتحركان بهدوء، مشغولاً بالنظر إلى وجهه، إلى عينيه، إلى النور المتألق في جبينه، إلى شفتيه، إلى الطريقة التي كان ينطق بها.. كنت كالعاشق الوله الذي حظي بوصال الحبيب بعد سنين من برحاء العشق والتتيم، فلم أعد أفكر في مغزى الكلمات بقدر انشدادي إلى رنتها وعذوبتها..
ولا أدري كيف أنهى حديثه.. فإذا به يهب واقفاً فجأة بحيوية الشباب، فينهض الجمع الحاشد أيضاً، ويلوح بيده تلويحة الوداع هذه المرة.. ويغلي الجميع وينفجر حماساً وهتافاً وعواطف ودموعاً.. ويداهمني شعور غامر بالأسى.. فما أسرع أن انتهت فرصة لقائي بالحبيب.
تعليقات الزوار