وجه قائد الثورة الإسلامية سماحة آية الله العظمى الخامنئي، بيانا إلى حجاج بيت الله الحرام استعرض فيه ما يجب أن تنهل منه الأمة الإسلامية من حكم وتعاليم الحج وما تواجهه من تحديات لاسيما على صعيد إلغاء القضية الفلسطينية وكيفية التعاطي معها مشددا على أن صفقة القرن محكوم عليها بالفشل بفضل عزم وإيمان جبهة المقاومة.

 

وفيما يلي نص البيان..

 

بسم‌اللّه‌الرّحمن‌الرّحيم

 

والحمد للّه ربّ العالمين وصلّي اللّه علي رسوله الكريم الامين، محمّد خاتم النّبيين، وعلى آله المطهّرين سيما بقية اللّه في الارضين، وعلى اصحابه المنتجبين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين.

إن موسم الحج في كل عام، ميعاد الرحمة الإلهية على أمتنا الإسلامية. فإن الدعوة القرآنية "وأذّن في الناس بالحج" هي دعوة للناس كافة على مرّ التأريخ إلي مائدة الرحمة هذه، ليتمتعوا من بركاتها بقلوبهم وأرواحهم التواقة إلى الرب تعالى كما برؤاهم وأفكارهم المتعقلة، ولتبلغ في كل عام دروس الحج وتعاليمه بواسطة جموع من الناس إلى كل أرجاء العالم الإسلامي.

إن إكسير الذكر والعبودية الذي يشكل العنصر الرئيس في تربية الفرد والمجتمع وإعلاء شأنهما، يأتي في الحج إلى جانب عنصر الاجتماع والاتحاد الذي يمثل رمز الأمة الواحدة، مقترناً بالالتفاف حول مركز واحد وباتجاه هدف مشترك ـ ما يمثل رمز حركة الأمة ومسعاها على ركيزة مبدأ التوحيد ـ وذلك إلى جانب المساواة بين آحاد الحجيج دون أي تمايز بينهم ـ ما يدل علي إزالة أنواع التمييز وتعميم الفرص ـ كل ذلك يعرض مجموعة من الركائز الأساسية للمجتمع الإسلامي معروضة في لقطات سريعة. وكل عمل من أعمال الحج ـ من إحرام وطواف وسعي ووقوف ورمي وحركة وسكون ـ يمثل إشارة رمزية إلى جزء من هيكل الصورة التي قدمها الإسلام عن مجتمعه المثالي المنشود.

كما أن تبادل المعلومات والمعطيات بين الشعوب التي تنتمي إلي دول ومناطق متباعدة جغرافياً، ونشر الوعي والتجارب والاطلاع على ظروف بعضهم البعض وأحوالهم، وإزالة حالات سوء الفهم، وتقريب القلوب، واختزان القدرات المتاحة لمواجهة الأعداء المشتركين، كله يشكل إنجازاً حيوياً هائلاً جداً تحققه فريضة الحج، الأمر الذي لا يمكن تحقيقه عبر مئات من المؤتمرات المعتادة الرائجة.

إن إحدى البركات العظيمة للحج والتي توفر فرصة مؤاتية للشعوب المسلمة المظلومة، هي مراسم البراءة التي تعني التبري من كل ما يتصف به طواغيت كل عصر من قساوة وظلم وجور وبشاعة وفساد، كما تعني الوقوف بوجه ما يمارسه مستكبرو العصور من قهر وابتزاز. إن البراءة من جبهة الشرك والكفر التي يمثلها المستكبرون وعلى رأسهم أمريكا؛ تعني اليوم البراءة من قتل المظلومين ومن تأجيج الحروب، كما تعني إدانة بؤر الإرهاب من قبيل "داعش " وبلاك ووتر الأمريكية؛ تعني صرخة الأمة الإسلامية بوجه الكيان الصهيوني قاتل الأطفال ومن يقفون وراءه ويدعمونه، تعني إدانة ما تقوم به أمريكا وأعوانها من تأجيج حروب في منطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا الحساسة، حروب أوصلت الشعوب إلى أقصي حدود معاناتها ومحنتها وأخذت تكبدّها كل يوم بمصائب كبرى؛ تعني البراءة من التمييز العنصري علي أساس الجغرافيا والعرق ولون البشرة؛ تعني البراءة من السلوك الاستكباري الخبيث الذي تنتهجه القوى المعتدية والمثيرة للفتن إزاء السلوك الشريف النبيل العادل الذي يدعو إليه الإسلام كل الناس.

هذا غيض من فيض بركات الحج الإبراهيمي الذي دعانا إليه الإسلام الأصيل. وهو رمز متجسد لجزء مهمّ من تطلعات المجتمع الإسلامي، حيث يجري عرض سنوي عظيم مفعم بالمضامين من إخراج الحج، ويشارك فيه أبناء الأمة الإسلامية ليدعوَ الجميع ـ بلغة معبرة ـ إلى بذل الجهد لتحقيق مجتمع كهذا.

إن نخب العالم الإسلامي ـ الذين توافد بعضهم حاليا من مختلف البلدان لأداء مناسك الحج ـ يتحملون رسالة كبيرة وخطيرة. وبفضل همم هؤلاء ومبادراتهم الفاعلة ينبغي أن تُنْقَل هذه الدروس إلي جميع الشعوب وإلى الرأي العام، لتتحقق علي أيديهم عملية التبادل المعنوي للأفكار والدوافع والتجارب والمعلومات.

تُعَدُّ قضية فلسطين اليوم من أهم قضايا العالم الإسلامي وهي تأتي في مقدمة كل القضايا السياسية المتعلقة بالمسلمين من أي مذهب أو عرق أو لغة كانوا. فقد وقع في فلسطين أكبر ظلم شهدته القرون الأخيرة. حيث صودِر في هذا الحدث المؤلم كل ما يملكه شعب، بما فيه أرضه وداره ومزرعته وأمواله وحرمته وهويته. وبتوفيق من الله تعالى لم يرضخ هذا الشعب للهزيمة ولم ينثنِ عن الجهد، فهو متواجد اليوم في الساحة باندفاع وشجاعة أكثر مما كان عليه بالأمس. إلا أن تحقيق النتيجة بحاجة إلي دعم كل المسلمين. إن الخدعة المتمثلة في "صفقة القرن"، والتي يجري التمهيد لها من قبل أمريكا الظالمة وأعوانها الخونة، تشكل جريمة ليس بحق الشعب الفلسطيني فحسب وإنما بحق المجتمع البشري قاطبة. إننا ندعو الجميع إلي مشاركة فعالة لإفشال هذا الكيد والمكر المدبَّر من قبل العدو، ونري بحول الله وقوته أن هذه المؤامرة وغيرها من أحابيل جبهة الاستكبار كلها مكتوب عليها الفشل والهزيمة أمام عزيمة جبهة المقاومة وإيمانها.

قال الله العزيز: "أم يريدون كيدا، فالذين كفروا هم المكيدون، صدق الله العلي العظيم". أسأل الباري تعالي لجميع الحجيج الكرام التوفيق والرحمة والعافية وقبول الطاعة.

 

السيد علي الخامنئي

8 ذي الحجة 1440هـ