* نبذة مختصرة من حياته ـ عليه السَّلام :

 

ولد الإمام علي في الثالث عشر من رجب عام ٣٠ من عام الفيل في الكعبة. [١]

 

أُمّه فاطمة بنت أسد وأبوه أبو طالب.

استشهد في الواحد والعشرين من رمضان عام ٤٠ هجري في مدينة الكوفة ويقع ضريحه الطاهر في النجف الأشرف.

 

* جوانب من حياته ـ عليه السَّلام :

ونظراً إلى أنّ الإمام كان قد ولد قبل بعثة الرسول بعشر سنوات وانّه كان مع الرسول ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ في أحداث تاريخ الإسلام جنباً إلى جنب وانّه عاش بعد وفاته ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ مدّة ثلاثين عاماً يمكن أن نقسم عمره البالغ ٦٣ عاماً إلى المراحل الخمس التالية:

 

١. من الولادة إلى بعثة نبي الإسلام.

 

٢. ومن البعثة إلى هجرته ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ إلى المدينة.

 

٣. ومن هجرة الرسول إلى وفاته ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ .

 

٤. من وفاة الرسول ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ حتى بداية خلافته ـ عليه السَّلام ـ .

 

٥. فترة خلافته ـ عليه السَّلام ـ .

 

١. من الولادة إلى بعثة نبي الإسلام ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ

 

إننا وكما أشرنا إذا قسمنا مجموع عمر الإمام علي ـ عليه السَّلام ـ خمسة مراحل فانّ حياته قبل بعثة الرسول تكون المرحلة الأُولى منها ولم يكن عمره في هذه المرحلة يتجاوز العشرة أعوام حيث لم يبلغ الرسول أكثر من ثلاثين عاماً. حينما ولد الإمام والرسول قد بعث في الأربعين إذن لم يكن لعلي ـ عليه السَّلام ـ عندئذ أكثر من عشرة أعوام.

 

* في أحضان النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ

 

عاش علي ـ عليه السَّلام ـ خلال هذه المرحلة وهي الفترة الحساسة لتكوين شخصيته وتربيته روحياً ومعنوياً في بيت الرسول محمّد ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ وفي ظل تربيته.

 

وقد كتب المؤرّخون الإسلاميون حول ذلك :

 

وفي إحدى السنوات أصابت قريش أزمة شديدة، وكان أبوطالب ذا عيال كثير، فقال رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ للعباس ـ وكان من أيسر بني هاشم ـ: إنّ أخاك أبوطالب كثير العيال فانطلق بنا فلنخفف عنه من عياله آخذ منهم واحداً، وتأخذ واحداً فنكفيهما عنه، فوافق العباس; فانطلقا حتى أتيا أبا طالب، وفاتحوه بالأمر فوافق أبوطالب بهذا الاقتراح، فأخذ الرسول عليّاً فضمه إليه، وأخذ العباس جعفراً، فلم يزل علي ـ عليه السَّلام ـ مع رسول اللّه في بيته حتى بعثه اللّه نبياً، فاتّبعه علي فأقرّبه وصدقه. [٢]

 

قال رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ بعد أن أخذ علياً من أبيه: اخترت من اختار اللّه لي عليكم علياً. [٣]

 

وحيث قد قضى النبي محمّد ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ طفولته بعد وفاة عبد المطلب في بيت عمّه أبي طالب ونشأ وترعرع تحت رعايته ووصايته أراد أن يكافئه هووزوجته فاطمة بنت أسد برعاية وتربية أحد أبنائهما، وكان ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ يطمح إلى علي ـ عليه السَّلام ـ وقد أشار علي ـ عليه السَّلام ـ زمن خلافته في الخطبة القاصعة إلى هذه الفترة التربوية وقال:

«وقد علمتم موضعي من رسول اللّه بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة. وضعني في حجره وأنا ولد يضمّني إلى صدره، ويكنفني في فراشه ويمسّني جسده، ويشمُّني عرفه. وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه...، ولقد كنت أتبعه اتبّاع الفصيل أثر أُمّه، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به». [٤]

 

* علي ـ عليه السَّلام ـ في غار حراء [٥]

 

كان رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ـ قبل أن يبعث ـ يجاور في غار حراء من كلّ سنة شهراً وكان يطعم في ذلك الشهر من جاءه من المساكين، فإذا قضى جواره من حراء كان أوّل ما يبدأ به إذا انصرف أن يأتي المسجد الحرام قبل أن يدخل بيته فيطوف حول الكعبة سبعاً أو ما شاء اللّه من ذلك ثمّ يعود إلى بيته. [٦]

وقد دلت الروايات ونظراً إلى اهتمامه الكبير به على أنّ رسول اللّه كان يأخذ عليّاً معه إلى غار حراء وحينما هبط ملك الوحي على النبي لأوّل مرّة وكرّمه بالرسالة كان علي بجانبه في ذلك الغار، وكان ذلك اليوم من نفس ذلك الشهر الذي كان الرسول يذهب فيه إلى جبل حراء للعبادة. وقد قال الإمام علي ـ عليه السَّلام ـ حول ذلك في الخطبة القاصعة:

«ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري...ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ فقلت: يا رسول اللّه ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان قد أيس من عبادته، إنّك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، إلاّ أنّك لست بنبي ولكنّك لوزير وانّك لعلى خير». [٧]

قد يكون هذا الكلام مرتبطاً بعبادة الرسول ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ في حراء في فترة ما بعد البعثة غير انّ الروايات السابقة وانّ عبادته في حراء كانت قبل البعثة غالباً، تدلّ جميعها على أنّ هذا الكلام يتعلق بفترة ما قبل البعثة.

وعلى أية حال فانّ روح علي ـ عليه السَّلام ـ الطاهرة وتوجه واهتمام الرسول الدائم أوجبا أن يرى ويسمع بقلب يقظ وبصر ثاقب وأُذن صاغية أشياء وأصواتاً من غير المقدور رؤيتها وسماعها للناس العاديين وهولمّا يزل يعيش فترة الطفولة. وكتب ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة: قد ورد في كتب الصحاح انّه حينما أكرم اللّه محمّد بالرسالة وهبط عليه جبرئيل لأوّل مرّة كان علي معه. [٨]

 

* من البعثة إلى هجرته ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ إلى المدينة

 

تشكل هذه الفترة (من البعثة إلى هجرة الرسول ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ إلى المدينة) المرحلة الثانية من حياة الإمام علي ـ عليه السَّلام ـ وهي فترة زمنية استغرقت ثلاثة عشر عاماً، وتشتمل هذه الفترة الزمنية على مجموعة كبيرة من الخدمات والجهود المتألّقة والأعمال العظيمة والبارزة التي قدمها الإمام في سبيل ازدهار واعتلاء الإسلام، وهومالم يتمتع به غيره من الشخصيات في تاريخ الإسلام.

 

* أوّل من أسلم

 

إنّ أُولى مفاخر الإمام علي ـ عليه السَّلام ـ في هذه المرحلة هوسبقه في الإسلام وتقدّمه، أوبعبارة أصحّ تجاهره بالإسلام القديم، لأنّه ـ عليه السَّلام ـ كان موحداً منذ نعومة أظفاره ولم يتلوث بالوثنية بتاتاً [٩] حتى يكون إسلامه عبارة عن الرجوع عن عبادة الأصنام كما هوالحال عند كافة الصحابة.

 

إنّ للسبق في الإسلام قيمة عوّل عليها القرآن الكريم وأشاد بها، وقد أعلن صراحة بأنّ للسابقين في الإسلام منزلة وقيمة هناك حيث يقول: (وَالسّابِقُونَ السّابِقُونَ* أُولئِكَ الْمُقَرَّبُون).[١٠]

 

إنّ اهتمام القرآن الخاص بموضوع السبق في الإسلام والتقدّم فيه بقدر من الأهمية انّه عدّ الذين آمنوا قبل فتح مكة وقدّموا أنفسهم وأموالهم في سبيل اللّه أفضل من الذين آمنوا وجاهدوا بعد الفتح، فكيف بالذين آمنوا وأسلموا قبل الهجرة وفي السنين الأُولى من ظهور الإسلام هناك حيث يقول: (لا يَسْتَوي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتح وَقاتلَ أُولئِكَ أَعظَمُ دَرَجةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلوا وَكلاً وَعَدَ اللّهُ الحُسنى). [١١]

والسبب في أفضلية إيمان المسلمين قبل فتح مكة في العام الثامن من الهجرة هوانّهم آمنوا في الوقت الذي لم يبلغ الإسلام ذروة عظمته في جزيرة العرب ولم يزل مركز الوثنيين وعبدة الأصنام ـ أي مكة ـ قائماً كقلعة صامدة والأخطار تهدد نفوس وأموال المسلمين من كلّ حدب وصوب.

صحيح انّ المسلمين كانوا بعد مهاجرتهم إلى المدينة وإسلام الأوس والخزرج والقبائل المتواجدة في أطراف المدينة يتمتعون بتقدّم وأمان نسبيين، وانّهم كانوا ينتصرون في كثير من نزاعاتهم العسكرية غير انّ الخطر لمّا يرتفع بعد بشكل كامل، فإذا كان الإيمان بالإسلام وتقديم النفس والمال في هذه الظروف يتمتعان بقيمة وتقدير خاص، فانّه سيكون للتجاهر بالإيمان والإسلام في بداية دعوة الرسول ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ حيث لم تكن هناك قدرة غير قدرة قريش وسلطة غير سلطة الوثنيين قيمة أكبر وأكثر من ذلك بالتأكيد، ومن هنا كان السبق والتقدّم في الإسلام يعد مفخرة من المفاخر الكبيرة بين الصحابة.

وبهذا يتضح جيّداً مدى قيمة تقدم الإمام علي ـ عليه السَّلام ـ وسبقه في الإسلام.

 

* أدلّة سبق الإمام علي وتقدّمه في الإسلام

 

إنّ أدلّة سبقه وتقدّمه في الإسلام كثيرة في الكتب الإسلامية لدرجة انّ سردها ونقلها جميعاً خارج عن نطاق هذا الكتاب وسعته، ولكنّنا نورد بعضاً منها على سبيل المثال:

أ: قد صرّح نبي الإسلام وقبل الكل بتقدّم علي ـ عليه السَّلام ـ وسبقه، وقال هوبين أصحابه:«أوّلكم وروداً عليّ الحوض أوّلكم إسلاماً علي بن أبي طالب» . [١٢]

ب: قد نقل العلماء والمحدّثون: استنبئ النبي يوم الاثنين وصلى عليٌّ يوم الثلاثاء. [١٣]

ج: يقول الإمام في خطبة القاصعة: «ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول اللّه وخديجة وأنا ثالثهما أرى نور الوحي والرسالة وأشم ريح النبوة». [١٤]

د: ويذكر الإمام حول تقدّمه وسبقه في الإسلام بهذا النحو: «اللّهمّ إنّي أوّل من أناب وسمع وأجاب ولم يسبقني إلاّرسول اللّه بالصلاة». [١٥]

هـ: قال علي ـ عليه السَّلام ـ : «أنا عبد اللّه وأخورسوله، وأنا الصديق الأكبر، لا يقولها بعدي إلاّكاذب مفترى، صلّيت مع رسول اللّه قبل الناس سبع سنين». [١٦]

و: قال عُفيف بن قيس الكندي: «كنت في الجاهلية عطّاراً، فقدمت مكة، فنزلت على العباس بن عبد المطلب، فبينا أنا جالس عنده أنظر إلى الكعبة وقد تحلقت الشمس في السماء أقبل شاب كأنّ وجهه القمر حتى رمى ببصره إلى السماء فنظر إلى الشمس ساعة، ثمّ أقبل حتى دنا من الكعبة فصف قدميه يصلي، فخرج على أثره فتى كأنّ وجهه صفيحة يمانية فقام عن يمينه، فجاءت امرأة متلففة في ثيابها فقامت خلفهما، فأهوى الشاب راكعاً فركعا معاً، ثمّ أهوى الأرض ساجداً فسجدا معه، فقلت للعباس: يا أبا الفضل أمر عظيم! فقال: أمر واللّه عظيم! أتدري من هذا الشاب؟ قلت: لا، قال: هذا ابن أخي، هذا محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب، أتدري من هذا الفتى؟ قلت: لا، قال: هذا ابن أخي علي بن أبي طالب، أتدري من هذه المرأة؟ قلت: لا، قال: هذه ابنة خويلد خديجة زوج محمّد هذا، وانّ محمداً هذا يذكر انّ إلهه إله السماء والأرض أمره بهذا الدين... واللّه ما أعلم على وجه الأرض كلّها أحداً على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة». [١٧]

ويدلّ هذا النص بوضوح على أنّه لم يؤمن بدعوة نبيّ الإسلام في البداية وباستثناء زوجته خديجة سوى علي ـ عليه السَّلام ـ .

 

* حامية رسول اللّه وخليفته

 

امتنع نبي الإسلام مدة ثلاث سنوات عن الدعوة العامة العلنية، وكان يدعوفقط وفي لقاءات خاصة الشخصيات التي كان يشعر بأنّها مستعدة للإسلام، وبعد تلك الثلاثة أعوام هبط ملك الوحي وأبلغ أمر اللّه تعالى بأن يبدأ الرسول دعوته العامة من خلال دعوته أهله وعشيرته وهكذا كان أمر اللّه:

(وَأَنْذِرْ عَشيرَتَكَ الأَقْرَبين* وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنينَ * فَإنْ عَصَوك فَقُلْ إِنِّي بَريءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ) . [١٨]

والسبب في اختيار دعوته للعشيرة مبدأً لانطلاق دعوته العامة هوانّه إذا لم يؤمن بالقائد الإلهي أقرباءه وعشيرته ولم يتبعوه، فلن يكون هناك تأثير لدعوته على البعداء عنه، ذلك انّ للأقرباء معرفة بخفايا شخصيته وصفاته النفسية الحسنة والسيئة جيداً، ومن هنا كان إيمانهم دلالة على نزاهة صاحب الدعوة، كما أنّ ابتعاد أكثرهم وتخلّفهم عنه يدلّ تجرده من صدقه ونزاهته في ما يدعيه، ولذلك أمر النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ علياً ـ عليه السَّلام ـ بأن يعدّ وليمة غداء ويدعوخمسة وأربعين وجيهاً من وجهاء بني هاشم إليها وأن يعد طعاماً من اللحم مع اللبن.

تسارع الجميع في الحضور لدى النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ في الوقت المحدد وبعد تناول الطعام حالت أحاديث عمه أبي لهب وتهكّمه دون إعداد المجلس لفتح الحديث حول أهدافه، وانتهت الضيافة بلا جدوى، وترك الضيوف بيته ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ، فقرر النبي أن يعد وليمة أُخرى في اليوم التالي وأن يدعوهم جميعاً ما عدا أبا لهب، وأعدّ عليّ الطعام وفقاً لأمر النبي باللحم مع اللبن مرّة أُخرى، ودعا كبار القوم وشيوخهم لتناول الغذاء ولاستماع كلمة النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ وبعد حضورهم في الموعد المحدد وتناول طعامهم افتتح النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ كلمته قائلاً: «إنّي واللّه ما أعلم أنّ شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني اللّه أن أدعوكم إليه فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟» قال هذه الكلمة ووقف قليلاً ليرى من يجيب دعوته، وفي هذه الفترة ساد الحضور صمت عميق ممزوج بالحيرة والدهشة ناكسين رؤوسهم، وفجأة كسر علي ـ عليه السَّلام ـ ـ ولم يتعد عمره ١٤ عاماً [١٩] ـ ذلك الصمت ونهض ناظراً إلى الرسول، وقال: أنا يا رسول اللّه أكون وزيرك عليه، ثمّ مدّ يده للرسول ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ليكون ذلك عهداً للتضحيات.

وفي هذه الأثناء أمر الرسول علياً بالجلوس وأعاد ما قاله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ مرّة أُخرى، وأعاد علي ـ عليه السَّلام ـ إعلانه عن استعداده مرّة أُخرى، وأمره الرسول بالجلوس أيضاً، وفي المرة الثالثة لم يقم كما في السابق أحد سوى علي ـ عليه السَّلام ـ . فهوالوحيد الذي كان يقوم ويعلن عن حمايته عن هدف رسول اللّه المقدس، وفي هذه اللحظات ضرب بيده على يد علي وقال في حقّه وبحضور وجهاء بني هاشم المقولة الشهيرة : «هذا عليٌّ أخي ووصيي وخليفتي فيكم».[٢٠]

وهكذا يتم ترشيح أوّل وصي لرسول الإسلام على يد آخر السفراء الإلهيين في بداية دعوته التي لم يستجب لها حينها إلاّنفر قليل.

وهنا يمكن أن نقيّم وبوضوح منزلة الإمامة في الإسلام وأهميتها من خلال انّ النبي أعلن عن نبوّته وإمامة علي ـ عليه السَّلام ـ في يوم واحد وانّه اليوم الذي قال فيه: أيّها الناس إنّي رسول اللّه، هونفس ذلك اليوم الذي قال فيه بأنّ عليّاً وصيي وخليفتي، وأن نلتفت إلى هذه الحقيقة وهي انّ هاتين المنزلتين النبوّة والإمامة لا تفترقان عن بعضهما، وانّ الإمامة امتداد لمنهاج الرسالة.

* التضحية الكبيرة

إبّان حصول حلف العقبة الثانية في السنة الثالثة عشرة ليلة الثالث عشر من ذي الحجة بين رسول الإسلام وبين أهل يثرب الذي قد تم ضمنه استدعاؤه إلى تلك المدينة ووعدهم له بنصرته والدفاع عنه ومن اليوم التالي الذي بدأ المسلمون فيه بالهجرة تدريجاً عرف قادة قريش بأنّه تمّ اعداد مركز جديد لأجل نشر الدعوة الإسلامية في يثرب، ولهذا قد شعروا بالخطر لانّهم يخشون أن ينتقم منهم رسول اللّه بعد كلّ ذلك الأذى الذي آذوه به هووأتباعه، وحتى لوفرض انّه لا يريد محاربتهم فهويشكل خطراً لتجارة قريش التي تمر بقوافلها على مقربة من يثرب.

ولمواجهة هذا النوع من الخطر اجتمع أُولئك القادة نهاية شهر صفر سنة أربعة عشر من البعثة في دار الندوة للتوصل إلى حلّ لذلك.

اقترح بعض الحاضرين أن ينفى الرسول أويسجن غير انّ هذا الاقتراح قد رفض وبالتالي قرّروا قتله، ولكن لم يكن قتل رسول اللّه بالأمر البسيط، لأنّ بني هاشم لن يدعوا الأمر يفوت بسلام وسيطالبون بثأره.

وقد قرروا أخيراً أن يعدّوا من كلّ قبيلة رجلاً شاباً حتى يهجموا على محمّد ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ هجمة رجل واحد ويقطعوه إرباً إرباً في فراشه، وفي هذه الحالة لن يكون القاتل واحداً ولن يستطيع بنوهاشم الأخذ بثاره، لأنّهم يعجزون عن محاربة جميع القبائل ويرتضون لا محالة بقبول الفدية وتنتهي المسألة، اختارت قريش لتنفيذ خطتها الليلة الأُولى من ربيع الأوّل وقد ذكر اللّه تعالى فيما بعد جميع خططهم الثلاث وقال: (وَإِذْ يَمْكُرُبِكَ الَّذينَ كَفَرُوا لِيُثبِتُوكَ أَويَقْتُلُوكَ أَويُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الماكِرين) . [٢١]

وإثر قرار قريش هذا أطلع ملك الوحي رسول اللّه على خطة المشركين المشؤومة، وأبلغه أمر اللّه بأن اترك مكة واتّجه نحويثرب. وهنا كان على النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ أن يضللهم ويخفي أثره حتى يمكنه الخروج من مكة، ولأجل ذلك كانت هناك حاجة إلى شخصية مضحية تبيت في فراشه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ، كي يتصوّر المهاجمون بأنّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ مازال هناك، وبالتالي يركزون على البيت ويغفلون عن سيطرة الطرق ومراقبتها، ولم تكن هذه الشخصية سوى علي ـ عليه السَّلام ـ ، ولهذا كشف رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ عن خطة قريش لعلي ـ عليه السَّلام ـ وقال: «امضي إلى فراشي ونم في مضجعي والتف في بردي الحضرمي ليروا أنّي لم أخرج» فأطاع علي ما أمر به، وحاصر جلاوزة قريش ومرتزقتهم بيت رسول اللّه وداهموه بسيوف مسلولة، فنهض عليٌّ من الفراش.

أُولئك الذين كانوا يعتقدون إلى تلك اللحظة بنجاح ودقة خطتهم مئة بالمئة ظلّوا حيارى محبطين ينظرون إليه قائلين: أين محمّد؟ فأجاب: «هل أودعتموه عندي لتسألوني عنه؟ قمتم بفعل اضطره إلى ترك البيت».

وفي هذه الأثناء هاجموا علياً ـ عليه السَّلام ـ ووفقاً لنقل الطبري آذوه وسحبوه إلى المسجد الحرام، وبعد احتجاز مؤقت أطلقوا سراحه، وانطلقوا باتجاه المدينة يقتفون أثر رسول اللّه في حين كان ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ مختبئاً في غار ثور. [٢٢]

وقد خلّد القرآن المجيد تضحية علي ـ عليه السَّلام ـ العظيمة هذه في التاريخ وقدمه ضمن آية على أنّه من الذين يضّحون بأنفسهم في سبيل اللّه (وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابتِغاءَ مَرضاةِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بالْعِباد). [٢٣]

قال المفسرون: قد نزلت هذه الآية حول التضحية العظيمة لعلي ـ عليه السَّلام ـ ليلة المبيت. [٢٤]

وقد احتج نفس الإمام ـ عليه السَّلام ـ في الشورى السداسية التي تشكّلت بأمر عمر لاختيار الخليفة بهذه الفضيلة الكبيرة على أصحاب الشورى وقال: نشدتكم باللّه هل فيكم أحد اضطجع على فراش رسول حين أراد أن يسير إلى المدينة ووقاه بنفسه من المشركين حين أرادوا قتله غيري؟ قالوا: لا. [٢٥]

٣. من هجرة الرسول إلى وفاته ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ

 

* علي ـ عليه السَّلام ـ أخو رسول اللّه

 

إنّ الإخوة الإسلامية والعلاقة الأخوية تعد مبدأً من المبادئ الاجتماعية للإسلام، وقد حاول نبي الإسلام وبأنحاء مختلفة ومتنوعة أن يوجد ويقوي هذه العلاقة، فإنّه وبعد أن دخل المدينة قرر أن يبرم عقد الأُخوّة والأخاء بين المهاجرين والأنصار من المسلمين، ولهذا الهدف قام يوماً من بين جموع المسلمين وقال: «تآخوا في اللّه أخوين أخوين» ثمّ تصافح المسلمون بعدها مصافحة الاخوة، وهكذا استحكمت الوحدة واشتد الترابط بينهم.

وقد روعي طبعاً في هذا الحلف التناسب بين المت آخين من ناحية الإيمان والفضيلة وإسلامية الشخصية ويتّضح هذا جيداً بالتدقيق في طبيعة الشخصيات التي تآخت فيما بينها، وبعد أن حصل كل واحد على أخيه من الحاضرين جاء علي ـ عليه السَّلام ـ وكان قد بقي وحده إلى رسول اللّه والدموع تفيض من عينيه وقال: «ما آخيت بيني وبين أحد» قال ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ :«أنت أخي في الدنيا والآخرة». [٢٦]

 

ثمّ آخى بينه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ وبين علي ـ عليه السَّلام ـ . [٢٧]

هذا الأمر يعكس درجة العظمة والفضيلة التي يتمتع بها عليٌّ جيداً، ويوضح مدى قرابته من رسول اللّه.

في الغزوات تخلّلت حياة علي ـ عليه السَّلام ـ منذ هجرة الرسول وحتى وفاته ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ أحداث كثيرة

والتي منها بشكل خاص تضحياته العظيمة في الغزوات وجبهات الحرب وقد كان لنبي الإسلام بعد هجرته إلى المدينة سبعٌ وعشرون غزوة [٢٨] مع المشركين واليهود والمتمردين، وقد شارك عليّ ـ عليه السَّلام ـ في ست وعشرين منها، ولم يشارك في غزوة تبوك للظروف الحرجة والحسّاسة التي كانت تنذر بتدبير مؤامرة من قبل المنافقين عند غياب رسول اللّه في مركز الحكومة الإسلامية، وبقى فيها بأمر من الرسول ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ومن حيث إنّ دراسة كلّ هذه الغزوات تفيض عن سعة هذا الكتاب، نعرض تالياً وعلى سبيل المثال دور علي ـ عليه السَّلام ـ في أربع ساحات من ساحات الجهاد الكبيرة في زمن رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ .

 

* الف: في غزوة بدر

 

نحن نعلم بأنّ غزوة بدر كانت أوّل حرب بين المسلمين والمشركين بكلّ ما تعنيه كلمة الحرب من معنى، ولهذا السبب كانت تعد أوّل اختبار عسكري بين الجيشين، ومن هذه الناحية كان الانتصار فيها هامّاً للغاية.

اندلعت هذه الحرب في العام الثاني من الهجرة. وكان قد علم رسول اللّه بأنّ هناك قافلة تجارية لقريش يترأسها أبوسفيان عدوالإسلام القديم آتية من الشام تريد مكة، وحيث إنّها تمر من طريق على مقربة من المدينة انطلق رسول اللّه ومعه ٣١٣ نفراً من المهاجرين والأنصار باتجاه بدر، وهوطريقها المعتاد بهدف السيطرة عليها.

وقد كان دافع الرسول من هذه الحركة هوأن تعلم قريش بأنّ خطها التجاري في متناول أيدي القوات الإسلامية وإذا ما منعت من انتشار الدعوة الإسلامية وحرّية المسلمين فسوف ينقطع شريان حياتهم الاقتصادية بيد تلك القوات.

ومن ناحية أُخرى فإنّ أبا سفيان من حيث إنّه كان على علم بانطلاق المسلمين أبعد القافلة بسرعة عن منطقة الخطر من خلال سلوكه طريقاً جانبياً يقع على ضفاف البحر الأحمر، وتزامناً مع ذلك طلب التعزيزات من قادة قريش في مكة، وعلى أثر استنجاده بقريش انطلق نحو٩٥٠ إلى ١٠٠٠ نفر من محاربيها باتجاه المدينة، وواجه هذا العدد المسلمين في ١٧ رمضان في حين كانت قوى الشرك ثلاثة أضعاف قوى الإسلام، وفي بداية الحرب تقدّم باتجاه وسط ساحة الحرب ثلاثة من شجعان قريش باسم:عتبة، وهو أبوهند زوجة أبي سفيان، وأخوه الأكبر شيبة، وابنه الوليد يطلبون أكفاءً لهم وأقرانهم، ينادون هل من مبارز؟ وفي هذه الأثناء دخل الساحة ثلاثة من شجعان الأنصار لمبارزتهم بعد أنّ عرّفوا أنفسهم فأحجم أبطال قريش من مبارزتهم، ونادوا: يا محمد! أرسل لمبارزتنا من هم أكفّاء لنا وأقراننا منّا. وحينئذ أمر رسول اللّه عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب وحمزة بن عبد المطلب وعلياً ـ عليه السَّلام ـ ليبارزوهم، فاتجه هؤلاء المجاهدون الشجعان الثلاثة إلى ساحة الحرب وعرّفوا أنفسهم، فقبلوهم للمبارزة، وقالوا: إنّهم أكفاء كرام.

تواجه من بين هؤلاء الثلاثة حمزة مع شيبة، وعبيدة مع عتبة، وعلي (وكان أصغرهم) مع الوليد خال معاوية وبدأ القتال، قتل عليٌّ وحمزة قرينيهما بينما كان القتال مستمراً بين عبيدة وعتبة ولم ينتصر أحد منهما على الآخر، ولهذا انطلق علي وحمزة بعد قتل صاحبيهما لمساعدة عبيدة وقضوا على عتبة أيضاً. [٢٩]

وقد كتب علي في إحدى رسائله إلى معاوية مشيراً إلى هذا الحدث: وعندي السيف الذي اعضضته بجدّك وخالك وأخيك في مقام واحد. [٣٠]

واندلعت الحرب الجماعية بعد انتصار ثلاثة من أبطال الإسلام الكبار على شجعان قريش، وانتهت بهزيمة ساحقة لجيش المشركين لدرجة انّه قد تأسّر سبعون منهم، وكان قد هلك أكثر من نصف المقتولين بضربات سيف علي ـ عليه السَّلام ـ في هذه الحرب، وقد ذكر المرحوم الشيخ المفيد ثلاثة وثلاثين شخصاً من قتلى المشركين في غزوة بدر وكتب:«وقد أثبتت رواة العامة الخاصة معاً أسماء الذين تولّى أمير المؤمنين قتلهم ببدر من المشركين سوى من اختلف فيه واشرك هوفيه غيره. [٣١]

 

* ب: الشجاعة الفريدة في غزوة أُحد

 

أُصيبت قريش أثر هزيمتها في بدر بإحباط نفسي شديد، ولأجل تعويض هذه الخسارة والهزيمة الكبيرة والأخذ بثأر قتلاها قرّروا أن يهاجموا المدينة بقوات مجهزة كبيرة، ونقل رجال رسول اللّه وعيونه في قريش قرارها حول هذا الموضوع، فشكّل ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ لجنة عسكرية لمواجهة العدو، واقترح بعض من المسلمين بأنّه من الأفضل للجيش الإسلامي أن يواجه العدو خارج المدينة، وانطلق رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ برفقة ألف مقاتل تاركاً المدينة متجهاً نحوشمالها، وتخلّف عنهم خلال المسير ثلاثمائة رجل من أتباع عبد اللّه بن أبيّ المنافق الشهير أثر تثبيطه وتحريضه لهم فتنزّل عدد القوات الإسلامية إلى سبعمائة مقاتل،وفي صباح اليوم السابع من شوال من السنة الثالثة للهجرة اصطف الجيشان متقابلين في وادي جبل أُحد.

وقبل اندلاعها درس نبي الإسلام [وبإلقاء نظرة عسكرية] ساحة الحرب وتفحّصها، وقد أثار انتباهه منفذ كان من الممكن أن ينفذ منه العدوويهاجم المسلمين من الخلف خلاله، ولذلك وجّه شخصاً يدعى عبد اللّه بن جبير مع خمسين رامياً وأقرّهم على تل حتى يمنعوا الاختراق المحتمل من ذلك المنفذ، وأمر ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ بأن لا يترك ذلك المنفذ الحساس بأي حال من الأحوال سواء انتصر المسلمون أم انهزموا، ومن ناحية أُخرى كان لحامل اللواء دور كبير جداً في حروب ذلك العصر لذلك كانوا يعطون الراية أواللواء لرجل قوي وشجاع، فانّ صمود وثبات حامل الراية وترفرفها في ساحة الحرب يبعث الطاقة في المقاتلين، وعلى العكس فإنّ موت حاملها وانتكاس الراية يسبب هبوطاً معنوياً في نفوسهم، ولهذا السبب يتم ترشيح مجموعة من أشجع المقاتلين قبل بدء الحرب لتولّي حمل الراية للحد من الهبوط النفسي للجنود.

قامت قريش بنفس هذه العملية في هذه الحرب واختارت حملة رايات من قبيلة بني عبد الدار المشهورة بالشجاعة غير انّ أصحاب رايتهم كانوا يلقون مصرعهم الواحد تلوالآخر على يد علي ـ عليه السَّلام ـ ، وكانت انتكاسات الراية المتتالية تبعث اليأس والعجز النفسي في نفوس مقاتلي قريش فلاذوا بالفرار.

ونقل عن الإمام الصادق ـ عليه السَّلام ـ بأنّه قال: «كان أصحاب اللواء يوم أُحد تسعة قتلهم علي بن أبي طالب عن آخرهم». [٣٢]

وقال ابن الأثير: «وكان علي هوالذي هزم أصحاب لواء قريش». [٣٣]

وعلى ما رواه المرحوم الشيخ الصدوق قد أكد عليٌّ ـ عليه السَّلام ـ في احتجاجاته على الشورى السداسية التي تشكّلت بهدف تعيين الخليفة بعد موت عمر على هذه النقطة، وقال:

«نشدتكم باللّه هل فيكم أحد قتل من بني عبدالدار تسعة مبارزة غيري كلّهم يأخذ اللواء، ثمّ جاء صوأب مولاهم كأنّه قبة مبنية قد ازبدّ شدقاه واحمرت عيناه فاتقيتموه وحدتم عنه، وهو يقول: واللّه لا أقتل سادتي إلاّ محمداً، فخرجت إليه فاختلفت أنا وهو ضربتين فقطعته بنصفين وبقيت رجلاه وعجزه وفخده، غيري؟

 

قالوا: اللهم لا». [٣٤]

 

وقد صدق كلّ أصحاب الشورى كلام علي ـ عليه السَّلام ـ .

وعلى أية حال هزم جيش قريش وأراد مقاتلوا فرقة عبد اللّه بن جبير مغادرة موقعهم بمجرد مشاهدتم لهذا المشهد بدافع تجميع الغنائم، فذكّرهم عبد اللّه بأمر الرسول فلم يعبأوا به، وانحدر منهم ما يزيد عن ٤٠ من التل لجمع الغنائم، وبقي عبد اللّه بن جبير مع ما يقل عن عشرة مقاتلين هناك.

وفي هذه الأثناء كان خالد بن الوليد مع مجموعة من الفرسان يترصّدون للمسلمين، وحيث قد رأى ما هم عليه هاجمهم، وبعد القضاء عليهم واصل هجومه على المسلمين من الخط الخلفي، وقد تزامن هذا مع رفرفة رايتهم بيد إحدى نساء قريش وتدعى عمرة بنت علقمة، وكنّ قد أتين لتشجيع جيش المشركين في ساحة القتال، ومنذ ذلك الحين تغيّرت معادلة الحرب كلية واختل تناسق وانسجام المسلمين العسكري والقتالي، وانقطع الاتصال بين المقاتلين والقيادة وانهزم المسلمون، واستشهد حوالي سبعين مقاتلاً من بينهم: حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير أحد حملة رايات الجيش الإسلامي ومن مجاهدي الإسلام.

ومن ناحية أُخرى هبطت معنويات كثير من المسلمين إذا أشاع العدونبأ قتل رسول اللّه في ساحة القتال وتراجع أغلب المسلمين أثر الضغط العسكري الجديد لجيش المشركين، وتفرّقوا، ولم يصمد إلى جانب الرسول سوى عدد قليل، وتوالت اللحظات الحرجة والمصيرية في تاريخ الإسلام هناك حيث ينجلي دور علي ـ عليه السَّلام ـ الكبير، إذ كان يقارعهم بسيفه بشجاعة وببسالة لا مثيل لها مع رسول اللّه جنباً إلى جنب يحمي الوجود المقدس لقائد الإسلام العظيم من الهجمات المتوالية لكتائب المشركين الهائلة.

 

* وكتب ابن الأثير في تاريخه:

 

«فلمّا قتلهم أبصر النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ جماعة من المشركين، فقال لعلي: احمل عليهم ففرّقهم وقتّل فيهم، ثمّ أبصر جماعة أُخرى فقال له: احمل عليهم، فحمل عليهم وفرّقهم وقتل فيهم، فقال جبرائيل: يا رسول اللّه هذه المواساة ،فقال رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ «إنّه مني وأنا منه » فقال جبرائيل: وأنا منكما، قال فسمعوا صوتاً يقول: لا سيف إلاّ ذوالفقار ولا فتى إلاّ علي». [٣٥]

 

* وكتب ابن أبي الحديد أيضاً:

 

«لمّا فرّ معظم أصحابه عنه يوم أحد كثرت عليه كتائب المشركين، وقصدته ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ كتيبة بني كنانة فيها بنوسفيان بن عويف، وهم خالد بن سفيان، وأبوالشعشاء بن سفيان، وأبوالحمراء بن سفيان ، فقال رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ :«يا علي اكفني هذه الكتيبة» فحمل عليها وانّها لتقارب خمسين فارساً، وهوـ عليه السَّلام ـ راجل فمازال يضربها بالسيف حتى تتفرّق عنه، ثمّ تجتمع عليه هكذا مراراً حتى قتل بني سفيان بن عويف الأربعة وتمام العشرة منها ممّن لا يعرف بأسمائهم، فقال جبرائيل ـ عليه السَّلام ـ لرسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ :يا محمد انّ هذه المواساة لقد عجبت الملائكة من مواساة هذا الفتى، فقال رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ : «ما يمنعه وهومني وأنا منه»، فقال جبرائيل: وأنا منكما، قال: وسمع ذلك اليوم صوت من قبل السماء لا يرى شخص الصارخ به ينادي مراراً: «لا سيف إلاّ ذوالفقار ولا فتى إلاّ علي»، فسئل رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ عنه فقال: «هذا جبرائيل». [٣٦]

 

* ج: في غزوة الأحزاب (الخندق)

 

كانت غزوة الأحزاب كما يبدومن اسمها حرب اتّحدت فيها جميع القبائل والأحزاب المتعددة المعادية للإسلام للقضاء على الإسلام الفتي.

وقد عدّ بعض المؤرخين جيش الكفر في هذه الغزوة بأنّه تجاوز العشرة آلاف مقاتل في حين لم يتعد عدد المسلمين الثلاثة آلاف.

وكان قادة قريش الذين يتولّون قيادة هذا الجيش قد أعدّوا خطة جعلتهم يعتقدون بأنّهم سيقضون على الإسلام بشكل تام في هذه الحرب وانّهم سينتهون ويرتاح بالهم من محمد ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ وأتباعه إلى الأبد.

عندما أُعلم رسول اللّه بانطلاق قريش شكل ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ لجنة عسكرية، وقد اقترح فيها سلمان بأن يحفر خندق عند منافذ المدينة ليمنع نفوذ العدوإليها، فقبل هذا الاقتراح وحفر الخندق بجهود المسلمين خلال عدّة أيام ذلك الخندق الذي بلغ عرضه حداً يعجز فرسان العدوعن العبور قفزاً من خلاله وعمقه درجةً إذا دخله أحد لم يمكنه الخروج منه بسهولة.

وصل جيش الشرك بتعاون من اليهود وكانوا يتصورون بأنّهم سيواجهون المسلمين في أطراف المدينة كما في السابق، ولكن لم يجدوا لهم أثراً خارج المدينة هذه المرة وواصل الجيش في تقدّمه فوصل إلى بوابة المدينة، وقد أثارت رؤية خندق عميق عريض حول منافذ المدينة دهشتهم، لأنّه لم يسبق للعرب ان استخدمته في حروبها، فاضطروا إلى محاصرة المدينة من وراء الخندق ووفقاً لبعض الروايات استمر الحصار على المدينة حوالي شهر واحد، وكلّما فكّر جنود قريش في العبور من الخندق كانوا يجابهون بمقاومة المسلمين وحماة الخندق الذين كانوا مستقرين على مسافة قصيرة في مواضعهم الدفاعية، وكان الجيش الإسلامي يرد على أية فكرة اعتداء، بالنبال ورمي الحجر، كان التراشق بالنبال مستمراً في الليل والنهار ولم ينتصر أحد من الطرفين على الآخر، ومن ناحية أُخرى كان حصار المدينة على يد هذا الجيش الكبير العرمرم قد أضعف معنويات كثير من المسلمين واهبطها خاصة انّه قد شاع نبأ نقض العهد من قبل القبيلة اليهودية بني قريضة أيضاً، واتضح بأنّها وعدت الوثنيين بأنّه حالما يعبرون الخندق فإنّهم سيهاجمون المسلمين من الخلف.

 

----------------------------------

[١] . مروج الذهب:٢/٣٤٩; تذكرة الخواص:١٠; نور الأبصار في مناقب آل بيت النبي المختار:٧٦.

[٢] . يمكن الرجوع إلى المصادر التالية: الكامل في التاريخ، ٢/٥٨; السيرة النبوية، ابن هشام:١/٢٦٢; تاريخ الطبري:٢/٢١٣; شرح نهج البلاغة:١٣/١١٩.

[٣] . مقاتل الطالبيين:١٥.

[٤] . نهج البلاغة، صبحي الصالح، الخطبة ١٩٢.

[٥] . حراء جبل يقع في شمال مكة وغار حراء يقع في قمته.

[٦] . السيرة النبوية، ابن هشام:١/٢٥٢.

[٧] . نهج البلاغة، الخطبة١٩٢.

[٨] . شرح نهج البلاغة :١٣/٢٠٨.

[٩] . مناقب الخوارزمي:١٨.

[١٠] . الواقعة /١٠ـ١١.

[١١] . الحديد/١٠.

[١٢] . الاستيعاب:٣/٢٨; شرح نهج البلاغة:١٣/١١٩; المستدرك على الصحيحين :٣/١٧.

[١٣] . الاستيعاب:٣/٣٢; الكامل في التاريخ:٢/٥٧.

[١٤] . نهج البلاغة: الخطبة ١٩٢.

[١٥] . نفس المصدر: الخطبة ١٣١.

[١٦] . تاريخ الطبري:٢/٣١٢; الكامل في التاريخ:٢/٥٧; المستدرك:٣/١١٢.

[١٧] . راجع شرح نهج البلاغة:١٣/٢٢٦; تاريخ الطبري:٢/٢١٢ مع اختلاف يسير، وقد ذكر ابن أبي الحديد ذلك عن عبد اللّه بن مسعود أيضاً وقد شاهد هو خلال سفره إلى مكة هذا المشهد أيضاً.

[١٨] . الشعراء/٢١٤ـ ٢١٦.

[١٩] . راجع حول سنّ علي ـ عليه السَّلام ـ حينما أعلن عن نصرته لرسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ وحين إسلامه، شرح نهج البلاغة:١٣/٢٣٤ـ ٢٣٥.

[٢٠] . تاريخ الطبري:٢/٢١٧; الكامل في التاريخ:٢/٦٣; شرح نهج البلاغة:١٣/٢١١.

[٢١] . الأنفال/٣٠.

[٢٢] . السيرة النبوية، ابن هشام :٢/١٢٤ـ ١٢٨; الكامل في التاريخ:٢/١٠٢، ١٣٩٩هـ. ق. بيروت، دار صادر; الإرشاد، الشيخ المفيد: ٣٠; المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيشابوري:٣/٤، بيروت، دار المعرفة; تاريخ الأُمم والملوك:٢/٢٤٤، بيروت، دار القاموس الحديث.

[٢٣] . البقرة /٢٠٧.

[٢٤] . شرح نهج البلاغة، تحقيق أبو الفضل إبراهيم:١٣/٢٦٢، ١٣٧٨هـ.ق; دلائل الصدق، حسن المظفر:٢/٨٠، و ينقل المرحوم المظفر عن المفسرين والعلماء البارزين لأهل السنّة مثل الثعلبي والقندوزي والحاكم بأنّ هذه الآية نزلت في علي ـ عليه السَّلام ـ .

[٢٥] . الخصال، الشيخ الصدوق، تحقيق الغفاري:٢/٥٦٠، ١٤٠٣هـ.ق; الاحتجاج:١/٧٥، المرتضوية، النجف، ١٣٥٠هـ.ق.

[٢٦] . المستدرك على الصحيحين:١٣/١٤.

[٢٧] . الاسيتعاب في معرفة الأصحاب:٣/٣٥.

[٢٨] . يصطلح مؤرّخو السيرة على إطلاق الغزوة على تلك الحروب التي خاضها الجيش الإسلامي، تحت إمرة الرسول ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ .

[٢٩] . السيرة النبوية، ابن هشام:٢/٢٧٧; الكامل في التاريخ:٢/١٢٥.

[٣٠] . نهج البلاغة، الرسالة ٦٤ وقد ذكر ذلك في الرسالة ٢٨ أيضاً.

[٣١] . الإرشاد: ٣٩.

[٣٢] . الإرشاد: ٤٧.

[٣٣] . الكامل في التاريخ:٢/١٥٤.

[٣٤] . الخصال:٥٦٠.

[٣٥] . الكامل في التاريخ:٢/١٥٤.

[٣٦] . شرح نهج البلاغة:١٤/٢٥٠ـ٢٥١. ويروي الخوارزمي بأنّ علياً احتج على أصحاب الشورى بهذه المواساة التي تبعها نداء السماء.