اعلم، أنّ الأذان هو إعلام الحضور لقوى النفس الظاهرة والباطنة في محضر الحقّ لأجل الثناء على الذات المقدّسة. فالسالك يتوجّه في بدء الأمر إلى كبرياء الذات المقدّسة، فيعلن عظمتها وكبرياءها أوّلاً على قوى مملكة نفسه، وثانياً على ملائكة الله الموكلة على ملكوت السموات والأرضين، فيعلن على حسب التكبيرات الأربعة كبرياء الاسم الأعظم على جميع سكنة عوالم الغيب والشهادة، وهذا نفسه إعلان بعجزه عن إلقاء حقّ الثناء على الذات المقدّسة، وهو إعلام بقصور النفس عن إقامة الصلاة بحقّها.
ولهذا، يكرّر التكبيرات، في الأذان والإقامة، ويكرّرها دائماً في الصلاة، ويعاد في حال الانتقال من كلّ حال إلى حال آخر، حتّى يحصل في قلبه الشعور بالقصور الذاتيّ لنفسه، والعظمة والكبرياء للذات المقدّسة.
•أكبر من كلّ وصف
وبوجه آخر، يمكن أن تكون كلّ واحدة من التكبيرات الأوّليّة في الأذان إشارة إلى مقام؛ فكأنّ السالك يقول: الله أكبر من أن توصف ذاته أو تجلّيات ذاته، والله أكبر من أن توصف صفاته وأسماؤه وأفعاله أو تجلّياتها بحسبها.
وفي حديث طويل عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "والوجه الآخر (الله أكبر) فيه نفي كيفيّته كأنّه يقول -أي المؤذّن-: الله أجلّ من أن يدرك الواصفون قدر صفته التي هو موصوف بها، وإنّما يصفه الواصفون على قدرهم لا على قدر عظمته وجلاله، تعالى الله عن أن يدرك الواصفون صفته علوّاً كبيراً"(1).
•فاستصغر ما دون كبريائه
ومن الآداب المهمّة للتكبير، أنّ السالك عليه أن يجاهد ويجعل قلبه محلّاً لكبرياء الحقّ جلّ جلاله، ويسلب الكبرياء عن سائر الموجودات، وإذا كان في القلب أثر من كبرياء أحد لا يراه ولا يعلمه شعاع كبرياء الحقّ، فقلبه مريض وهو مورد لتصرّف الشيطان، وربّما تكون التصرّفات الشيطانيّة سبباً لأن يكون سلطان الكبرياء لغير الحقّ في القلب أكثر من الحقّ، ويعرفه القلب أكبر من الحقّ، ففي هذه الصورة يكون الإنسان محسوباً في زمرة المنافقين. وعلامة هذا المرض المهلك أنّ الإنسان يقدّم رضى المخلوق على رضى الحقّ، ليسخط الخالق ويُرضي المخلوق. وفي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: "إذا كبّرت فاستصغر ما بين العلا والثرى دون كبريائه، فإنّ الله إذا اطّلع على قلب العبد وهو يكبّر وفي قلبه عارض عن حقيقة تكبيره، قال: (يا كاذب أتخدعني؟وعزّتي وجلالي لأحرمنّك حلاوة ذكري، ولأحجبنّك عن قربي والمسارّة بمناجاتي)"(2).
•لنيل لذّة المناجاة
يا أيّها العزيز، إنّ حرمان قلوبنا المسكينة من حلاوة ذكر الحقّ تعالى، وإنّ لذّة مناجاة تلك الذات المقدسة، لم ترد في ذائقة أرواحنا ونحن محتجبون عن الوصول إلى القرب، ومحرومون من تجليّات الجمال والجلال؛ لأنّ قلوبنا عليلة ومريضة، وقد حجبنا الإخلاد إلى الأرض، والاحتجاب بالحجب المظلمة للطبيعة المادية، عن معرفة كبرياء الحقّ وأنوار الجمال والجلال. فما دام نظرنا إلى الموجودات نظراً إبليسيّاً، فلا نذوق من شراب الوصال، ولا ننال لذّة المناجاة. وما دمنا نرى لغير الله في عالم الوجود العزّة والكبرياء والعظمة والجلال، ونحن في حجاب أصنام محدودية الخلقية، فلا يتجلّى سلطان كبرياء الحقّ جلّ وعلا في قلوبنا.
•التكبير تلقينٌ لعظمة الله
من آداب التكبير أيضاً، أنّ السالك لا يتوقّف على صورته، ولا يكتفي باللفظ فقط ولقلقة اللسان، بل ينبّه القلب في أوّل الأمر بقوّة البرهان ونور العلوم الإلهيّة، على:
أ- أنّ كبرياء الحقّ، والعظمة والجلال مقصوران على الذات المقدّسة جلّت عظمتها.
ب- فقر الموجودات الجسمانيّة والروحانيّة كافّة وذلّتها ومسكنتها.
بعد ذلك، يُحيي قلبه بذكر الله والأنس به، فإذا صارت عظمة الحقّ وكبرياؤه جلّت قدرته، إضافة إلى فقر العابد وذلّته نصب عينَي السالك، ووصل التفكّر والذكر إلى حدّ النصاب، وحصل للقلب الأنس والسكينة، فيشاهد بعين البصيرة آثار جلال الحقّ وكبريائه في جميع الموجودات، وتعالج العلل والأمراض القلبيّة، فيجد لذّة المناجاة وحلاوة ذكر الله، ويصير القلب مقرّاً لسلطان كبرياء الحقّ جلّ جلاله، وتظهر آثار الكبرياء في ظاهر مملكة الإنسان وباطنها، ويوافق القلب واللسان والسرّ والعلن، فتكبّر جميع قوى الباطن والظاهر والملك والملكوت، ويرتفع أحد الحجب الغليظة، ويقترب السالك مرحلةً إلى حقيقة الصلاة التي هي معراج القرب.
(*) مقتبس من كتاب: الآداب المعنويّة للصلاة، الإمام الخمينيّ قدس سره، الباب الخامس، بعض آداب الأذان والإقامة.
1.التوحيد، الصدوق، ص238.
2.بحار الأنوار، المجلسي، ج81، ص230.
3.(م.ن)، ج79، ص238.
المصدر: مجلة بقية الله
تعليقات الزوار