سلسة محاضرات ألقاها سماحة الإمام الخامنئي؛ المحاضرة الرابعة: الإيمان المعطاء
المحاضرة الرابعة
الإيمان المعطاء
الأحد 5 رمضان المبارك 1394 هجرية 31/6/1353 هجرية شمسية
من المسلَّم به أن الإيمان في رأي القرآن ليس أمرًا قلبيًا فحسب، صحيح أن الإيمان اعتقاد، والاعتقاد يرتبط بالقلب، لكن القرآن لا يؤيد كل لون من الإيمان، لا يؤيد الإيمان المجرّد الذي لا تظهر آثاره على جوارح المؤمن وأعضائه. لا قيمة لهذا الإيمان في المنظور الإسلامي. لو كان لهذا الإيمان قيمة لكان إبليس أول المؤمنين. لقد كان إبليس قبل خلق آدم من العابدين، لكنه سقط حين تعرّضت عبادته لامتحان عملي. ولذلك اخترنا لحديثنا عنوان: الإيمان المعطاء. الإيمان مثل نبع يفيض بالعمل. الإيمان لابد أن يقترن بالالتزام وبالعمل وبالشعور بالمسؤولية.
ذكرُ الإيمان في القرآن مقرون بالعمل الصالح: (إِنَّ الَّذِینَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ). وبدون هذا الاقتران لا ينفع الإيمان شيئًا لا في الدنيا ولا في الآخرة.
إذا لم تحسّ في وجودك بالتزام فشكّ في إيمانك. والمجتمع غير الملتزم بما يُلزمه الإيمان فليس بمجتمع مؤمن. المجتمع المؤمن هو الذي يشعر باستعلاء الإيمان ولذلك قال سبحانه: (وَ لَا تَهِنُوا وَ لَا تَحْزَنُوا وَ أَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِینَ)[1]. وإذا رأيت مجتمعًا مسلمًا لم تتحقق فيه مقولة «الأعلَون»، بل هو في أحطّ درجات الذلة والانحطاط والخضوع فاعلم أنه تخلّى عن العمل وعن تحمل مسؤوليات الإيمان. لا تقل إنّا موعودون بتحقق العلوّ في عصر ظهور الإمام المهدي المنتظر (صلوات الله عليه)، فالوعد الإلهي هذا يتحقق في زمان المهدي وفي كل زمان يقترن فيه الإيمان بالعمل.
لو كان الإقرار بنبوة رسول الله(ص) كافيًا في الإيمان، لكان أبو لهب والوليد بن المغيرة المخزومي من أول المؤمنين. ذلك أنهم أقرّوا أنّ ما سمعوه من كلام النبي ليس بكلام بشر، لقد أقرّوا بذلك مذعنين، وأخبروا رهطهم بذلك، ولكننا لا نعتبرهم مؤمنين، لأن مثل هذا الإيمان لا قيمة له بسبب عدم التزامهم بلوازم الإيمان.
لو كان القبول القلبي كافيًا في الإيمان لكان عمرو بن العاص من أول الموالين لأمير المؤمنين علي (عليه السلام). لأنه شهد الغدير أو سمع خبره ممن رآه، وأنشد في أمير المؤمنين شعرًا[2]، وروي أنه شعر بما ارتكبه من جرائر لدن حضرته الوفاة فقال: «أصلحت لمعاوية دنياه، وأفسدت ديني، آثرت دنياي وتركت آخرتي، عُمّي عليّ رُشدي حتى حضرني أجلي». فابن العاص كان مؤمنًا بأن الحقّ مع علي (عليه السلام)، لكن هذا الإيمان لم يقترن بالعمل، فكان مع معاوية في حربه مع علي (عليه السلام).
نعود إلى أنفسنا ونقول: نحن مؤمنون بالإسلام وبنبي الإسلام وبـإمامة أمير المؤمنين، فهل نحن ملتزمون بلوازم هذا الإيمان؟
إذا لم يكن إيماننا مقرونًا بالالتزامات العملية، فلا يمكن أن نتوقع أن ينالنا عطاء الإيمان. يقول سبحانه: (الَّذِینَ آمَنُوا وَ لَمْ یَلْبِسُوا إِیمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَ هُم مُّهْتَدُونَ)[3]. الإيمان غير المقرون بالالتزام، والذي لا يدفع إلى نصرة المؤمنين، فليس عطاؤه مضمونًا، وليس من طبيعة الكون أن ينصر صاحبه.
ثمة أفكار موهومة أشيعت في أوساطنا، ولقيت ترحيبًا من النفوس التي تميل إلى البطر والراحة والاسترخاء، وتتجه هذه الأفكار إلى التبشير بالجنة دونما عمل وفق معادلات خاطئة. على سبيل المثال ثمة تفسير خاطئ لمعنى الشفاعة يغري الإنسان بالكسل وترك العمل، بينما أئمة أهل البيت (عليهم السلام) يؤكدون في مواقف كثيرة أن شفاعتنا لا تُنال إلا بالعمل.
الإمام السجاد علي بن الحسين (عليه السلام) كان يعمل بشكل دائب لاعتلاء الحقّ والحقيقة في المجتمع، ثم يقف أمام الله خاشعًا متضرعًا باكيًا يناجي ربّه بأعذب المناجاة، فيسأله أحدهم: إنك ابن رسول الله وابن بنت نبيه، فلماذا كل هذا التضرّع والبكاء؟! يوضّح الإمام أن ما يصدر عنه من بكاء وتضرّع هو لجلاء الروح، ولشحذ العزيمة، ولزيادة الارتباط بمصدر القوة والعزّة أي الله سبحانه. ثم يقول للسائل: «دَعْ عنّي حديث أبي وأمي وجدّي.. الجنة للمطيعين»[4]. هذه هي المعادلة الصحيحة لدخول الجنة العمل وفق ما أراده الله سبحانه.
تأكيدنا على مسألة ارتباط الإيمان بالعمل سببه هو الذهنية التي سادت منذ قرون بشأن ما قيل إن الإيمان أمر قلبي لا تضرّ معه معصية وانحراف وعدم التزام، ولاقت رواجًا في الأوساط المرتخية البطرة اللاهثة وراء العافية. ولعل بداية شيوع هذه الذهنية كانت على يد معاوية بن أبي سفيان. أوصى حين حضرته الوفاة أن توضع في كفنه أشياء قال عنها إنها من أثر رسول الله(ص): لباسه وقلامة أظافره وشيء من شعره.. هذا الذي ارتكب ما ارتكب في حياته من أعمال خالف فيها كتاب الله وسنّة رسوله وسار بالمسلمين بالإثم والعدوان يتوقع بهذه الطريقة أن ينال شفاعة الرسول!!
لسنين طويلة جرت محاولات إشاعة فكرة الإسلام بدون عمل، والإيمان بدون عمل، وأن دليل الإيمان يكمن في القلب لا بالعمل، بينما القرآن الكريم يكرر القول أن لطف الله سبحانه لا يناله إلا العاملون، وغير العاملين ليسوا بمؤمنين (وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِینَ)[5].
نعود إلى آيات سورة الحج المذكورة في بداية المحاضرة.
(یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ افْعَلُوا الْخَیْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[6]، ترى هل بمنطق هذه الآية يتحقق الفلاح دون ركوع وسجود وعبادة وفعل الخيرات؟!
(وَجَاهِدُوا فِی اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ) ولكلمة «حق جهاده» معنى كبير، إنها تعني أن يكون العمل في سبيل الله على رأس قائمة أعمالنا واهتماماتنا. أن لا نغرق في الأعمال اليومية والهموم الصغيرة وننسى مسؤوليتنا أمام ربّ العالمين، أن يكون عملنا كبيرًا يتناسب مع عظمة ربّ العالمين، وأن تكون همومنا كبيرة تتناسب مع عظمة الرسالة الإسلامية.
(هُوَ اجْتَبَاكُمْ) هذا الاجتباء أو الانتخاب لأمة الإسلام يعني أنها مختارة لحمل أعباء الرسالة والجهاد حق جهاده. ليس هذا الاجتباء من النوع الذي ذهب إليه اليهود معتقدين أنهم شعب الله المختار، لقد ذمّ القرآن أولئك الذين يعتقدون أنهم أحباء الله وأولياؤه بل أبناؤه، فلا تنال ولاية الله إلا بالعمل. لقد شاء الله سبحانه أن يختار أمة الإسلام لمهمة كبرى، كما اختار قبل الإسلام بني إسرائيل لهذه المهمة الكبرى.
نحن اليوم إذا أردنا أن نوكل مهمة كبيرة لشخص فإننا نختار الأقوى بُنية والأكفأ عملًا والأكثر همّة. فإذا استطاع أن ينهض بهذه المهمة فقد فاق الأقران. وإن لم يفعل فلا فضل له على الآخرين. واجتباء أمة الإسلام ومن قبلها بني إسرائيل هو من هذا القبيل. بل إن التخلي عن حمل المهمة كما تخلت بنو إسرائيل يؤدي إلى ما قاله القرآن الكريم عنهم: (ضُرِبَتْ عَلَیْهِمُ الذِّلَّةُ وَ الْمَسْكَنَةُ وَ بَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ)[7].
(وَمَا جَعَلَ عَلَیْكُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ) مهما عظمت المسؤولية فهي على مستوى ما منحه الله للإنسان من طاقات، فلم يكلّفه فوق طاقته.
(مِّلَّةَ أَبِیكُمْ إِبْرَاهِیمَ) إنه دين إبراهيم (عليه السلام) (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمینَ مِن قَبْلُ) إشارة إلى دعاء إبراهيم: (وَمِن ذُرِّیَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً)[8] وهذه المسؤولية وضعناها على عاتقكم، لماذا؟ (لِیَكُونَ الرَّسُولُ شَهِیدًا عَلَیْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ) فالمسؤول عنكم هو الرسول(ص) وأنتم تحملون مسؤولية البشرية جمعاء. فالأمة المسلمة تحمل مسؤولية الشهادة على البشرية كلها، مسؤولية قيادة الساحة الإنسانية وإدارتها. أنتم قادة هذه القافلة، فلا تغفلوا عنها.
وإذ كانت هذه المسؤولية بهذا الحجم وبهذا الثقل فلابد أن تعدّوا أنفسكم لهذه المهمة: (فَأَقِیمُوا الصَّلَاةَ وَ آتُوا الزَّكَاةَ وَ اعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَ نِعْمَ النَّصِیرُ).
ارتبطوا بالله عن طريق الصلاة، وحاربوا شُحّ نفسكم بإيتاء الزكاة، واعتصموا بالله واعتمدوا عليه ولا تخشوا أحدًا إلا الله. فهو مولاكم وسيدكم وحارسكم (وسنتحدث في مناسبة أخرى عن معنى المولى في هذا الموضع من القرآن ومواضع أخرى).
الالتزام بالصلاة والزكاة والاعتصام بحبل الله من المستلزمات العملية للإيمان، وفي الآيات الأخيرة من سورة الأنفال يتكرر التأكيد على هذه الالتزامات.
وأما ما ذكرته الآية 72 من سورة الأنفال:
(إِنَّ الَّذِینَ آمَنُوا وَ هَاجَرُوا) والهجرة تعني الانقطاع عن كلّ الانشدادات الصغيرة من أجل هدف كبير، من أجل الارتباط بالمجتمع الإسلامي.
المهاجرون الأوائل انقطعوا عن ارتباطاتهم وانشداداتهم بالمال والمتاع والأهل والعشيرة واتجهوا إلى المدينة، غير مبالين بما فعله المشركون من نهب أموالهم في مكة، متحملين ألوان الحرمان وأقسى المعاناة، غير أن المهمة كانت كبيرة، مهمة إقامة المجتمع المسلم، وكل مهاجر كان يشكل لبنة من هذا المجتمع الجديد. ولذلك ذكرهم القرآن هم والذين آووهم ونصروهم من الأنصار بأنهم أعضاء جبهة واحدة متحدة: (إِنَّ الَّذِینَ آمَنُوا وَ هَاجَرُوا وَ جَاهَدُوا بِأَموَالِهِمْ وَ أَنفُسِهِمْ فِی سَبِیلِ اللهِ وَ الَّذِینَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِیَاءُ بَعْضٍ) فهم متآزرون متناصرون مثلهم كمثل بنيان مرصوص يشدّ بعضه بعضًا.
(وَالَّذِینَ آمَنُوا وَ لَمْ یُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَایَتِهِم مِّن شَیْءٍ حَتَّى یُهَاجِرُوا) هؤلاء الذين لم يلتزموا بما يُلزمه الإيمان من معاناة وتضحية ليسوا منكم، وليست بينكم وبينهم ولاية حتى يلتزموا بما يلزمهم الإيمان من مسؤوليات، «حتى يهاجروا».
صدق الإيمان يتبين من هذا الالتزام فالمهاجرون والمناصرون (أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا)[9] وغيرهم في ادعائهم الإيمان كاذبون.
والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ـ آل عمران/ 139
[2] ـ أورد العلامة الأميني في كتابه «الغدير» قصيدة لعمرو بن العاص يرد فيها على معاوية.
[3] ـ الأنعام/ 82
[4] ـ مناقب آل أبي طالب، باب إمامة علي بن الحسين، فصل في زهده.
[5] ـ النور/ 47
[6] ـ الحج/ 77
[7] ـ البقرة/ 61
[8] ـ البقرة/ 128
[9] ـالأنفال/ 74
تعليقات الزوار