سلسة محاضرات ألقاها سماحة الإمام الخامنئي؛ المحاضرة الثامنة: التوحيد في التصور الإسلامي

 

التوحيد في التصور الإسلامي

 

          الخميس 9 رمضان المبارك 1394 هجرية  /7/1353  هجرية شمسية

 

ما ذكرناه بشأن التوحيد في نظر القرآن الكريم هو: أن عقيدة التوحيد يجب أن يؤمن بها الإنسان عن وعي وفهم وشعور، وأن يكون هذا الإيمان مقرونًا بالالتزام، أي أن يكون ذا تأثير في حياتنا الفردية والاجتماعية وفي مسيرة المجتمع التاريخية.

وفي هذه الجلسة والجلسات القادمة سنتناول التوحيد من زوايا أخرى بالاستمداد من آيات الذكر الحكيم، ولا أدّعي بأن هذه الجلسات تستوعب أبعاد التوحيد جميعها، ولذلك أدعو من يريد أن يتوسع في هذا الموضوع أن يعود إلى القرآن الكريم ليطالع بدقة وتأنٍ، وسيجد بحارًا من المعرفة لا ساحل لها. وفي هذه الأحاديث سنقارب عقيدة التوحيد بمقدار ما أوتيت لنا من فرصة.

ثمة ملاحظتان أذكرهما قبل دخول موضوع هذه الجلسة. الأولى إن الحديث عن التوحيد بالشكل الذي أريد توضيحه قد يتحول من خطبة إلى بحث دراسي، وقد يقول قائل إن هذا لا يتناسب مع الحديث أمام الجمهور وعامة الناس، وأنا لا أرى مانعًا من تحويل الحديث مع عامة الناس إلى قاعة درس، لماذا لا تكون مثل هذه الأحاديث مثار تأمل وتفكير؟ لنرفع مستوى أحاديثنا في شهر رمضان الكريم إلى مستوى يثير في الأذهان التفكير ويدفع إلى التوسع والمطالعة.

والملاحظة الثانية هي ما كررته في أحاديثي ومحاضراتي هو أنكم غير ملزمين بقبول ما أقوله كله، بل المطلوب من المستمعين أن يمحّصوا الأقوال بفكرهم ويكونوا مصداق قوله تعالى: (فَبَشِّر عِبادَ # الَّذِینَ یَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَیَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)[1].

أعود إلى حديثي نريد في هذه الجلسة والجلسة القادمة أن نتناول التوحيد في إطار التصور الإسلامي، أي في إطار نظرة الإسلام إلى الكون والحياة، استنادًا إلى آيات القرآن الكريم. وفي الجلسة القادمة نقارب التوحيد في إطار أيديولوجية الإسلام، أي في إطار المنظومة العملية للدين المبين. فالتوحيد يتجلّى في جميع التعاليم الإسلامية، وحيثما وجدنا تعليمًا باسم الإسلام يخالف التوحيد فاعلموا أنه ليس من الإسلام، لأن التوحيد كالروح في جسد جميع المنظومة الإسلامية، كالدم الصافي النقي الذي يجري في عروق الجسد الإسلامي. لا تستطيعون أن تجدوا حكمًا من أحكام الإسلام ليس للتوحيد بصمة عليه.

ما معنى التصور الإسلامي أو الرؤية الكونية الإسلامية؟

كل إنسان له وجهة نظر معينة للعالم وللإنسان وللطبيعة ولما وراء الطبيعة، هذا هو تصور الإنسان للكون والحياة. ومن الطبيعي أن تكون لكل مدرسة فكرية مثل هذا التصور ومثل هذه الرؤية الكونية. وللإسلام نظرته الكونية، وأنا أتحدث عنها اليوم بمقدار ما يرتبط الأمر بالتوحيد.

الإسلام يرى أن هذه المنظومة المسماة بالعالم بكل أجزائها صغيرة أو كبيرة، من أتفهها إلى أشرفها وهو الإنسان مخلوقة ومرتبطة بقدرة عظيمة كبيرة، هي ما وراء الظاهر والمرئي، ما وراء قدرة العلم التجريبي أن يحيط بها، ما وراء الظواهر المحسوسة والملموسة.. إنها الحقيقة الأسمى والأشرف والأعزّ، وكل ظواهر العالم هي من صنعه وتدبيره، هذه القدرة العظيمة اسمها (الله).

فالعالمُ حقيقةٌ ليست مستقلة بذاتها، لم تخلق نفسها بنفسها، لم تنبعث من داخلها بل إن يدًا مقتدرة قد أوجدت هذه الظواهر كلها بما فيها من عظمة وسعة، والعلم يكتشف باستمرار مزيدًا من هذه العظمة والسعة. هذه اليد المقتدرة هي التي أوجدت في الذرة هذا العالم العظيم، وفي العوالم البعيدة المجهولة أو جدت هذه المجرّات التي اكتشف الإنسان بعضها وما لم يكتشفه يفوق مليارات ما اكتشف. هذا المصنع له صانع، لم يوجد بالصدفة. هذا أحد معالم نظرة الإسلام الكونية. ثم إن هذه القدرة العظيمة ترعى باستمرار مخلوقاتها، وتتسم بجميع صفات الخير. فالله عالم ومقتدر و حيّ ومريد وما تتفرع عن هذه الصفات.

إنه خالق أجزاء العالم كلها وراعيها لأنها محتاجة إليه على الدوام، مالك العالم والمتصرّف فيه، ومسيّره بنظام خاص وبقوانين وسنن دقيقة. هذه القوانين يكتشفها العلم. لسنا في صدد الحديث عن عظمة ما اكتشفه العلم وهو قطرة من بحر أسرار هذا الكون. كما نحن لسنا في صدد إثبات وجود الله والصانع، ففي هذا المجال أُلّف الكثير. ولكن لا بأس من ذكر كتاب بقلم عدد من علماء العلوم التجربية[2]، أي من الذين يتكلمون بلغة المختبر والاكتشاف والصناعة في إثبات وجود الله، وقد ترجمه إلى الفارسية عدد من الأفاضل، وهؤلاء يجمعون على أن التعمق في كنه المخلوقات والموجودات وكشف ما يسيطر على العالم من نظم وقانون وإتقان يبين أن لهذا العالم خالقًا.

هذا هو التوحيد في الرؤية الكونية للإسلام. العالم له صانع وخالق، وبعبارة أخرى له روح طاهرة ولطيفة. ليس هذا العالم موجودًا مستقلًا، بل هو مرتبط بقدرة سامية. ثم ما هو تأثير هذه الرؤية في صياغة الحياة؟ هذا ما نبينه في المحاضرة القادمة.

حين نرجع إلى آيات القرآن الكريم نجد هذه المفاهيم كلها. ومنها الآيات التي نتناولها اليوم، وأولها آية الكرسي[3].

(اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) الله هو المعبود ولا معبود سواه. والإله ــ في المصطلح القرآني ــ هو الذي يخضع له الإنسان خضوع تقديس وتعظيم وتكريم. ويسلّم له مقاليد أموره. فالذي يخضع لهوى نفسه فإن هذا الهوى هو إلهه. والذي يخضع لطاغية ويجعله مسيطرًا على شؤون حياته فهذا الطاغية هو إلهه، والذين ينصاعون لمجموعة من العقائد والتقاليد الفارغة فهي إلههم. والآية تنفي الألوهية عن غير الله، فلا معبود سواه. والواقع أن الحياة الإنسانية تَعجّ بألوان الآلهة، لكن الآية تقول إن هذه الآلهة مزيفة وغير حقيقية. فلا يليق بالعبودية والألوهية غير الله.

ما هي خصائص هذا الإله الحق؟! إنه «الحي».. الحيّ الحقيقي المطلق، وبقية الأحياء بين عدمين، عدم قبل الوجود، وعدم بعد انتهاء الوجود، ووجودها بين العدمين مهدد دائمًا بالفناء. والحيّ الحقيقي هو الذي بيده الحياة، وحياة الأحياء كلها من موهبته، وهو الباقي بعد فناء كل شيء. وكل حياة الأحياء مرهونة باستمداد الحياة منه، وبدونه لا يبقى أي مظهر من مظاهر الحياة، لأنه (القَیّوم) عليها.

(لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) لا يعتريه نوم بل ولا نعاس، أي إنه لا تعتريه غفلة. الآلهة المزيفة تصاب بالغفلة، بل الغفلة هي المسيطرة عليها، ولغفلتهم يبددون نِعَم الله، وينزلون بقومهم المصائب والويلات: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِینَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ # جَهَنَّمَ یَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ)[4] وهذه الآية الكريمة تلاها الإمام موسى بن جعفر(ع) على هارون الرشيد. ثم قال له: أنت من هؤلاء[5]. الغفلة هي التي تجرّ هؤلاء الطواغيت إلى هذه المآسي.

كل تعبير في القرآن الكريم عن صفات الله سبحانه في سياق التوحيد يتضمن نفي هذه الصفات عن الآلهة المزيفة، كما يتضمن ما ينبغي أن يتحلّى به الموحدون في حياتهم، فقوله تعالى: (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) يعني أن الآلهة المزيفة في غفلة عن أمرها، كما يعني ما يجب أن يتحلّى به الموحدون من وعي وصحوة وبصيرة.

(لَّهُ مَا فِی السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِی الأَرْضِ) كل شيء هو ملكه وطوع قدرته. (مَن ذَا الَّذِی یَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) حتى الشفاعة لا يستطيع أحد أن يستقل بها. الأنبياء والأئمة والأولياء وصلحاء المؤمنين إنما يشفعون بإذن الله سبحانه، إذ ليست لهم قدرة مستقلة أمام قدرة الله. إنهم عبيد الله، لكنهم مشمولون بلطف الله ومحبته.

(یَعْلَمُ مَا بَیْنَ أَیْدِیهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَ لَا یُحِیطُونَ بِشَیْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ).

هذه الآية تطرح بعدًا آخر للتوحيد، وهو أن عباد الله سواسية أمام الله سبحانه، ليس لأحد امتياز على آخر، إذ كلهم تحت سيطرة علم الله، وليس لهم من علم الله شيء إلاّ بما شاء.

رسول الله على عظمته في الكائنات هو في قبضة الله وهو عبد لله مثل كل أجزاء وجود هذا الكون. ليس لأحد لا للأنبياء ولا لعباده المقربين قدرة مقابل قدرة الله. كلهم عباده. وفي التشهد نقول: «أشهد أن محمدًا عبده ورسوله».

(وَسِعَ كُرْسِیُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَا یَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِیُّ الْعَظِیمُ)، كل شيء في السماوات والأرض تحت قدرته، ولا يصعب عليه حفظ هذه المخلوقات.

من مجموع ما ذكرنا بشأن التوحيد في التصور القرآني نفهم أن الوجود كله يخضع لقدرة، لمركز علم وحياة وقوة هو الله، وجميع ظواهر الخليقة خاضعة وفي حالة عبودية أمام تلك القدرة العظيمة الجليلة، وفي هذا الخضوع لا فرق بين مخلوق ومخلوق، الجميع خاضعون مستسلمون.. الإنسان المؤمن والإنسان الكافر، الموجود الصغير والموجود الكبير كلٌ له خاضعون. وحين يكون الخضوع شاملًا لكل الموجودات أمام قدرة الله، فلا معنى أن يكون طاغية مثل إمبراطور الروم أوريليان يرى نفسه فوق غيره من البشر، وأن يُصنع له تمثال يقف في حال تكبر وغرور وعلى قدميه عبد في حالة ذلة ومسكنة!! أليس هذا الإمبراطور وهذا العبد خاضعان على السويّة أمام قدرة الله حسب التصور التوحيدي؟! لو كانت النظرة الكونية التوحيدية هي المهيمنة لما كان طواغيت العالم والمتجبرون يسيطرون على الثروات الطائلة ويسخّرون عباد الله لطاعتهم، ويَدَعون الناسَ يتسابقون لتقبيل أقدامهم، ويرون أنهم خلقوا ليكونوا سادة والآخرين عبيدًا، خلقوا ليكونوا سعداء، وغيرهم مخلوقون للبؤس والشقاء.. لما كان اليهود قادرين أن يدّعوا أن إلههم هو «يَهُوَه» وهم مقرّبون من هذا الإله أكثر من غيرهم، وما كان بإمكان الوثنيين الهندوس أن يقسّموا المجتمع إلى أربع طبقات، لكل طبقة إله خاص بها، مخلوقة منه. التصور التوحيدي الإسلامي الخالص يقرر أن الممكنات والموجودات جميعًا مخلوقة من مبدأ واحد، وهي بيد قدرة واحدة كلٌّ لها عبيد خاضعون. لا يحقّ لأحد أن يضع رأسه تحت أقدام آخرين، ولا يحق لأحد أن يضع قدمه على رأس آخرين، لأن ذلك يتعارض مع الحق والحقيقة.

(مَن ذَا الَّذِی یَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) من الذي تكون له قدرة الشفاعة دون إذنه، إنه لا يأذن بالشفاعة للجبارين ولا للمفسدين، بل يأذن بها للأنبياء والأولياء والصالحين والشهداء، لعباده الصالحين الذين تحملوا مرارة الحياةمن أجل أداء واجبهم، تحملوا ألوان المعاناة ليقطعوا خطوة على طريق رسالتهم. هؤلاء يستطيعون أن يشفعوا عند الله، وإنما نالوا هذه الدرجة لارتفاعهم في درجة العبودية. رسول الله(ص) بلغ الذروة في العبودية لم يبلغها أحد وهكذا أمير المؤمنين علي(ع) وهكذا الإمام السجاد لم يبلغه في العبودية أحد أفراد زمانه. لم يبلغوا هذا المقام بسبب المعايير الدنيوية السائدة، بل بسبب كثرة عبوديتهم.

من آية الكرسي نفهم أن الموجودات جميعها هي أمام قدرة الله المطلقة في مقام العبودية والطاعة والتسليم. ومن أراد أن يتقرب منه سبحانه فبكثرة العبودية.

الآية 88 وما يتلوها من سورة مريم هي في هذا السياق: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا) فكرة أن الله له ولد وردت لدى الكفار بصور مختلفة. المسيحيون قالوها بشكل واليهود بشكل آخر ومشركوا الجزيرة العربية بصورة أخرى. بعضهم قالوا اتخذ الله ولدًا وبعضهم قالوا اتخذ بنتًا وبعضهم قالوا ولدًا وبنتًا. ما المقصود من هذه الأقوال لدى الكافرين؟ المقصود هو أن هناك من ينتسب إلى الله بالبنوة لا بالعبودية!

حين قال اليهود عزير ابن الله، أرادوا أن يقولوا أن العزير خارج من إطار الكائنات الخاضعة بالعبودية لرب العالمين. وهكذا المسيحيون في قولهم عن عيسى بن مريم، وهكذا المشركون الذين كانوا يرون اللات والعزّى ومنات بنات لله. والمشركون في اليونان وبلاد الروم كانت لهم مثل هذه النظرات. الهدف من كل ذلك عدم الإقرار بأن كل الموجودات عبيد الله، بل هناك فئة ممتازة متميزة خارجة عن إطار العبودية. ولذلك يرفض القرآن ذلك بشدّه ويقول: (لَقَدْ جِئْتُمْ شَیْئًا إِدًّا # تَكَادُ السَّمَاوَاتُ یَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا # أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا)[6].

ليس هذا الادعاء.. ادعاء أن لله ولدًا بالأمر الهيّن.

والآية تصور هول هذه العقيدة الفاسدة وخطرها، إذ هي تنفي شمول العبودية لكافة الكائنات، وبالتالي تكون ذريعة لمن أراد أن يكون عبدًا لغير الله تعالى:

(وَمَا یَنبَغِی لِلرَّحْمَنِ أَن یَتَّخِذَ وَلَدًا # إِن كُلُّ مَن فِی السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا آتِی الرَّحْمَنِ عَبْدًا) كل الكائنات خاضعة بالعبودية لله دونما استثناء (لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَ عَدَّهُمْ عَدًّا).

في هذا اليوم تناولنا التوحيد باعتباره أصلا من أصول الرؤية الكونية للإسلام. تُرى ما أثر هذه الرؤية في حياة المجتمع الموحّد، وما هي خارطة الطريق التي يرسمها للحياة؟ هذا ما نتناوله في الجلسة القادمة بإذن الله.

والحمد لله ربّ العالمين.

[1] التوحيد في التصور الإسلامي

[2] ـ كتاب «الله يتحلى في عصر العلم»، جان كلوفر، يشتمل على أربع مقالات لعلماء متخصصين معاصرين في إثبات وجود الله. ومترجم إلى الفارسية بعنوان: «اثبات وجود خدا»= إثبات وجود الله.

[3] ـ البقرة/ 255

[4] ـ إبراهيم/ 28 - 29

[5] ـ تفسير نور الثقلين ذيل الآية 28 من سورة إبراهيم.

[6] ـ مریم/ 89- 94