الشيخ تامر حمزة

 

"يا جعفر، أوصيك بأصحابي خيراً"(1). لقد كشفت وصيّة الإمام محمّد الباقر لابنه جعفر الصادق عليهما السلام عن مدى اهتمام الأئمّة عليهم السلام بشيعتهم، وعن شدّة حرصهم على محبّيهم، وخاصّة في ظلّ ظروفٍ سياسيّة، واجتماعيّة، وفكريّة غير خافية على أحد.

وهكذا فعل الإمام الصادق عليه السلام، حيث رسم المسار الواجب اتّباعه، وأعرب عن برنامجه المستقبليّ ليصنع من أصحابه النموذج الراقي، بخلق أجواء تنير العقول وتنشر القيم والأخلاق. وقد تمكّن عليه السلام من تربية أصحابه على الوعي، والبصيرة، والقوّة الإيمانيّة، وعلى القيم وحسن السيرة. وبناءً عليه، سوف نتحدّث عن ثلاثة أبعاد لو تمَّت لصنعت مجتمعاً متميّزاً يعتزّ الإمام الصادق عليه السلام بانتساب أفراده إليه إذا قيل: هذا جعفريّ.

 

* البُعد الأوّل: الوعي والبصيرة

إنّ التشوّه الفكريّ الذي خلّفه بنو أميّة، وما بثّه اليهود أيضاً من إسرائيليّات، مضافاً إلى دخول ثقافات متعدّدة ومتناقضة، أدخلت المجتمع في عالم التيه والضياع، فالزندقة، والغلوّ، والنصب، والجبر، والاعتزال، والرأي، والتشبيه، والتجسيم، وغير ذلك؛ جعلت مهمّة الإمام الصادق عليه السلام لبناء مجتمع يتحلّى بالوعي والبصيرة صعبةً للغاية. ومع ذلك كلّه، تمكَّن عليه السلام من الوصول إلى هدفه. ولا بدَّ من تحديد مسار يسلكه الناس من خلال سدّ جميع المصادر الفكريّة، وعدم الأخذ إلّا من طريق أهل البيت عليهم السلام. وقد أشار عليه السلام إلى ذلك بقوله: "أمّا والله ما أحد من الناس أحبّ إليّ منكم، وأنّ الناس قد سلكوا سبلاً شتّى، فمنهم من أخذ برأيه، ومنهم من اتّبع هواه، ومنهم مَن اتّبع الرواية، وإنّكم أخذتم بأمر له أصل"(2).

وعنه عليه السلام أنّه قال: "أيّتها العصابة، عليكم بآثار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسنّته، وآثار الأئمّة الهداة من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بعده وسنّتهم، فإنّه من أخذ بذلك فقد اهتدى، ومن ترك ذلك ورغب عنه ضلّ"(3).

 

* البُعد الثاني: البناء الروحيّ

ونقصر البحث على ثلاثة عوامل:

1- العامل الأوّل: العبادة

الروح كالبدن، لها غذاؤها وهو التزكية، وقد يأتي عليها ما يُضعفها ببُعدها عن بارئها. وهنا يتجلّى دور الإمام الصادق عليه السلام ككلّ الربّانيّين والمربّين من أنبياء وأوصياء وعلماء؛ إذ جلّ همّهم يصبّ في تكامل الناس في ساحة القُرب الإلهيّ بالعبادة، والقيام لله وحده لا شريك له. وسنشير هنا إلى بعض مفردات تربيته:

أوّلاً: تأكيده عليه السلام الدائم على تقوى الله والورع في دينه، وهذا يظهر جليّاً في بداية كلّ خطاب وموعظة.

 

ثانياً: تأكيده عليه السلام على تلازم الإيمان بالله مع العزّة، كما في قوله عليه السلام : "إنّ الله فوّض إلى المؤمن أمره كلّه، ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً، أما تسمع الله تعالى يقول: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (المنافقون: 8)؟! فالمؤمن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً، ثمّ قال: المؤمن أعزّ من الجبل والجبل يستقلّ منه بالمعاول، والمؤمن لا يستقلّ من دينه شيء"(4).

 

ثالثاً: دعوته عليه السلام المؤمنين إلى ضرورة الخوف من الله، فعن الهيثم بن واقد قال: "سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: من خاف الله أخاف الله منه كلّ شيء، ومن لم يخف الله أخافه الله من كلّ شيء"(5).

 

رابعاً: تعليمه عليه السلام أن يكون العبد في حالٍ تؤهّله للقرب من الله كحاله في السجود، فعن سعيد بن يسار قال: "قلتُ لأبي عبد الله عليه السلام : أدعو وأنا راكع أو ساجد؟ فقال عليه السلام : نعم، ادعُ وأنتَ ساجد، فإنّ أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد، ادع الله لدنياك وآخرتك"(6). وقال عليه السلام : "أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد، فادع الله واسأله الرزق"(7).

 

خامساً: وضعه عليه السلام الصلاة معياراً للإيمان والتشيّع الحقيقيّ: فقال عليه السلام : "امتحنوا شيعتنا عند مواقيت الصلاة وكيف محافظتهم عليها"(8).

 

سادساً: اهتمامه عليه السلام بالأدعية والمناجاة، وقد وصلنا عنه عليه السلام أثرٌ كبير منها، وقد علّمها لأصحابه وأرشدهم إليها، وهي لا تقلّ عدداً عمّا صدر عن جدّه الإمام زين العابدين عليه السلام ، إذ لا تخلو مناسبة على مدار السنة إلّا وخَصّص لها عليه السلام دعاءً أو مناجاة. ومن تلك النماذج ما يُستحبّ ذكره في رجب، وهو دعاء يتضمّن لطائف عرفانيّة، حيث يقول عليه السلام : "يا من سما في العزّ ففات خواطر الأبصار، ودنا في اللّطف فجاز هواجس الأفكار، يا من توحَّد بالملك فلا ندّ له في ملكوت سلطانه، وتفرّد بالآلاء والكبرياء فلا ضدّ له في جبروت شأنه، يا من حارت في كبرياء هيبته دقائق لطائف الأوهام، وانحسرت دون إدراك عظمته خطائف أبصار الأنام"(9).

 

2- العامل الثاني: تعهّد القرآن الكريم

لقد عظّم أبو عبد الله الصادق عليه السلام القرآن الكريم في نفوس المؤمنين؛ لكي يعتصموا به ويكون مورد اهتمامهم دائماً حفظاً وقراءةً وعملاً به، ومن ذلك ما ورد عنه في عظمته وشأنه ما أورد الكليني عنه عليه السلام بسنده المتّصل به: "إذ جمع الله عزّ وجلّ الأوّلين والآخرين إذا هم بشخص قد أقبل، لم يرَ قطّ أحسن صورة منه، فإذا نظر إليه المؤمنون قالوا: هذا منّا، هذا أحسن شيء رأينا، فإذا انتهى إليهم جازهم، ثمّ ينظر إليه الشهداء حتّى إذا انتهى إلى آخرهم جازهم فيقولون: هذا القرآن، فيجوزهم كلّهم حتّى إذا انتهى إلى المرسلين، فيقولون: هذا القرآن، فيجوزهم حتّى ينتهي إلى الملائكة فيقولون: هذا القرآن، فيجوزهم ثمّ ينتهي حتّى يقف عن يمين العرش، فيقول الجبّار: وعزّتي وجلالي وارتفاع مكاني لأكرمنّ اليوم من أكرمك، ولأهيننّ من أهانك"(10).

وأمّا حول تعلّمه، فقال عليه السلام : "ينبغي للمؤمن أن لا يموت حتّى يتعلّم القرآن، أو يكون في تعلّمه"(11).

وأمّا عن حفظه والنظر فيه، فروى إسحاق بن عمّار بن أبي عبد الله قال: قلت: جُعلت فداك، إنّي أحفظ القرآن عن ظهر قلبي، فأقرأه عن ظهر قلبي أفضل أو أنظر في المصحف؟ فقال لي عليه السلام : "لا، بل اقرأه وانظر في المصحف فهو أفضل، أما علمتَ أنّ النظر في المصحف عبادة؟"(12).

 

3- العامل الثالث: النهضة الحسينيّة

لقد اشتهر قول الإمام الصادق عليه السلام في إحياء النهضة الحسينيّة، وتوارثته أجيال الشيعة جيلاً بعد جيل: "يا فضيل، هذه المجالس أُحبّها، أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا"(13).

فقد حثّ الإمام الصادق عليه السلام أصحابه على تمتين أواصر العلاقة بالنهضة الحسينيّة، كما جاء في بعضها: "مَن سرَّه أن يكون على موائد النور يوم القيامة فليكن من زوّار الحسين بن عليّ عليه السلام "(14).

وعنه أيضاً مخاطباً أبا هارون المكفوف: "يا أبا هارون، من أنشد في الحسين شِعراً فبكى وأبكى... واحداً، كُتبت له الجنّة"(15).

 

البُعد الثالث: البعد الأخلاقيّ والقيَميّ

لم يقتصر جهد الإمام الصادق عليه السلام في تربية شيعته على أسلوبٍ واحد، بل استعمل أساليب متعدّدة وطرقاً متنوّعة لتربية الفرد ثمّ المجتمع بما ينسجم مع تعاليم القرآن وأخلاق أهل البيت عليهم السلام. منها:

أوّلاً: التزكية الذاتيّة

ولج الإمام عليه السلام بوصاياه إلى باطن الإنسان لتطهيره من رذائل الأخلاق أوّلاً، ثمّ وضع النواة الطيّبة لتثمر سلوكاً مستقيماً ثانياً. ومن تلك النماذج التربويّة ما ورد عنه: "إنّما ينجو من أطال الصمت عن الفحشاء، وصبر في دولة الباطل على الأذى، أولئك النجباء الأصفياء الأولياء حقّاً وهم المؤمنون. إنّ أبغضكم إليّ المترئّسون المشّاؤون بالنمائم، الحسدة لإخوانهم، ليسوا منّي ولا أنا منهم"(16).

وقال عليه السلام أيضاً: "من لم يبالِ ما قال وما قيل فيه فهو شرك الشيطان، ومن لم يبالِ أن يراه الناس مسيئاً فهو شرك الشيطان"(17).

وقال عليه السلام : "احذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم، فليس أقتل للرجال من اتّباع الهوى وحصائد اللسان"(18).

 

ثانياً: العلاقة الأخويّة

عن محمّد بن مسلم: أتاني رجل من أهل الجبل فدخلت معه على أبي عبد الله عليه السلام ، فقال حين الوداع: أوصِني، فقال عليه السلام : "أوصيك بتقوى الله وبرّ أخيك المسلم، وأحبّ له ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لنفسك، وإن سألك فأعطِه، وإن كفّ عنك فاعرض عليه، لا تملّه خيراً فإنّه لا يملّك، وكن له عضداً فإنّه لك عضد، وإن وجد عليك فلا تفارقه حتّى تحلّ سخيمته (19)، وإنْ غاب فاحفظه في غيبته، وإن شهد فاكنفه واعضده ووازره وأكرمه ولاطفه، فإنّه منك، وأنت منه"(20).

وبموازاة ذلك، فإنّه عليه السلام يحذّر من هجران الأخ لأخيه حيث يقول: "لا يفترق رجلان على الهجران إلّا استوجب أحدهما البراءة واللعنة، وربّما استحقّ ذلك كلاهما، فقيل له: هذا الظالم فما بال المظلوم؟ قال عليه السلام : لأنّه لا يدعو أخاه إلى صلته ولا يتغامس (يتغافل) له عن كلامه"(21).

 

ثالثاً: العلاقة الاجتماعيّة العامّة

قال الإمام الصادق عليه السلام لزيد الشحّام: "اقرأ على من ترى أنّه يطيعني منهم ويأخذ بقولي السلام، وأوصيكم بتقوى الله عزّ وجلّ، والورع في دينكم، والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، أدّوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها برّاً أم فاجراً، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر بأداء الخيط والمخيط، صِلوا عشائركم [عشائرهم]، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإنّ الرجل منكم إذا ورع في دين الله وصدق الحديث وأدّى الأمانة وحسّن خلقه مع الناس، قيل: هذا جعفري"(22).

 

ختاماً، بلغ الإمام الصادق عليه السلام بالشيعة إلى حيث يريدهم المجتمع القدوة بفضل جهده، وحقّق وصيّة أبيه الإمام الباقر عليه السلام، حيث أوجد القدوة الصالحة من شيعته بقوله: "فإنّ أبي حدّثني أنّ شيعتنا أهل البيت كانوا خيار من كانوا منهم، إن كان فقيه كان منهم، وإن كان مؤذّن كان منهم، وإن كان إمام كان منهم، وإن كان كافل يتيم كان منهم، وإن كان صاحب أمانة كان منهم، وإن كان صاحب وديعة كان منهم، وكذلك كونوا، حبّبونا إلى الناس ولا تبغضّونا إليهم"(23).

 ــــــــــــــ

1- بحار الأنوار، المجلسي، ج47، ص12. الإرشاد، المفيد ج1، ص40.

2- مرآة العقول، المجلسي، ج25، ص345.

3- كفاية الأسر، 254. بحار الأنوار، ج47، ص15.

4- تهذيب الأحكام، الطوسي، ج6، ص179.

5- الكافي، الكليني، ج2، ص68.

6- بحار الأنوار، المفيد، ج47، ص12.

7- الإرشاد، المفيد، ج1، ص40.

8- كفاية الأسر 254- بحار الأنوار، (م.ن)، ج47، ص15.

9- مصباح المتهجّد، الطوسي، ص802.

10- جامع أحاديث الشيعة، البروجرديّ، ج5، ص512.

11- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج3، ص83.

12- الكافي، (م.س)، ج2، ص602.

13- (م.ن)، ص52.

14- وسائل الشيعة، (م.س)، ج8، ص549.

15- كامل الزيارات، ابن قولويه، ص104.

16- بحار الأنوار، (م.س)، ج78، ص286.

17- وسائل الشيعة، (م.س)، ج11، ص273.

18- (م.ن)، ج8، ص534.

19- السخيمة: الحقد والضغينة.

20- وسائل الشيعة، (م.س)، ج8، ص549.

21- الكافي، (م.س)، ج2، ص344.

22- (م.ن)، ص464.

23- بحار الأنوار، (م.س)، ج74، ص164.

 

المصدر: مجلة بقية الله