حسن الزين

 

الصديق والعدو من أكثر الكلمات تداولاً بين الناس، فقلّما نجد إنساناً إلّا وله لائحة من الأصدقاء والأعداء.

ويمتدّ هذا المفهوم إلى قاموس العلاقات الدولية، ولهذا نسمع يومياً في تصريحات وزراء الخارجية أو سفراء الدول مصطلحات مثل: "دولة صديقة" و"دولة معادية" وأنه تمّ الاتفاق على تطوير علاقات الصداقة والتعاون بين البلدين.

 

*ثنائية مفهوم العـدو والصديق

وتتصل ثنائية الصداقة والعداوة ببحث المحبة والكراهية. ولهذا المبحث صلة بموضوع عقائدي عميق يدخل في صميم الإيمان والتوحيد ليتصل بالحب في الله والبغض في الله، ومبحث الولاء والبراء.

هذا على مستوى الصديق والعدو وفق المنظور الفردي والاجتماعي والإسلامي، لكن ماذا عن المستوى الدولي الأكثر تعقيداً ..؟

 

*العدو يخفي وجهه الحقيقي

غالباً ما يؤدي لفظ كلمة العدو إلى انطباع صورة الحرب في الذهن، وإلى تحرّك الانفعالات النفسية والشعور بالتهديد. لكنّ عناصر "فن الحرب" وفق النظريّة العسكريّة تقوم على الخداع والمباغتة كما شرحها المفكّر العسكري الصيني الأشهر في التاريخ "سون تزو". ولدى غياب هذه العناصر تفشل مخطّطات التسلل والسيطرة على الآخر. ولهذا لجأت الدول والجماعات إلى فنون التضليل الكلامي والسياسي وفنون الحرب النفسية(1).

لكن فنون الحرب النفسية لم تعد تفي بالغرض في عصر الانفجار المعلوماتي وثورة الاتصالات، (4 مليارات هاتف خليوي و3 مليارات مستخدم لشبكات الإنترنت) والزيادة الديموغرافية السكانية (7 مليارات إنسان). ومن هذه النقطة بدأت الإدارة الأميركية، وهي رأس الاستكبار والعدوان العالمي، بابتكار مفهوم القوة الناعمة Soft power؛ وذلك وبعد أن فشلت القوة العسكرية الصلبة Hard Power في حسم المواجهات وتحقيق النتائج.

 

*القوّة الناعمة

لهذا، تقدّم إلى الواجهة مفهوم القوة الناعمة Soft power الذي يعتمد على استراتيجية التسلل الخفي إلى عقول وقلوب وميادين الأعداء والمنافسين، وفق أساليب: الجذْب، والاستمالة، وعرض الصداقة، والتعاون، بدلاً من الإكراه والضغط والاحتلال والعداء.

وبدّل العدو استراتيجيات المواجهة وتكتيكات العداء وظهر بلباس ووجه الصديق، من خلال ترسانة ضخمة من التكتيكات السياسية والإعلامية الجديدة التي تعتمد: المداهنة - الإيحاء - التسويق - التمويه - الترغيب - الإقناع الخبيث... إلخ(2).

الهدف من هذه التكتيكات أن يصبح العدو أو المنافس "يريد ما نريد بدون إكراه، وأن نصنع له جدول الأعمال السياسي والثقافي بدون أي بصمات". وهذا هو التعريف الحرفي للقوة الناعمة وفق البروفيسور "جوزيف ناي" منظّر هذه المقولة(3).

 

*إنها "الحرب الناعمة"

ومن هذه المقولة اشتق سماحة السيد القائد الخامنئي مقولة "الحرب الناعمة"، لأن الحرب ما هي إلّا استعمال للقوة سواء أكانت صلبة أم ناعمة، الهدف منها كسْر إرادة العدو، لأن الحرب الناعمة بطبيعتها تتطلب عدم الإعلان، لأنّ تحقيق الخداع يقتضي الصداقة مع العدو كأحد شروط النجاح.

ومن هنا "تخفّى الأميركي بـقفازات مخملية، وأخفى سكينه وخنجره تحت منديلٍ من الحرير" كما عبّر الإمام الخامنئي (4). فالحرب الناعمة "حرب حقيقية في عالمنا المعاصر، فالعدو تارة يظهر بلباس الذئاب وتارة بلباس الثعالب وتارة بمظهر عدائي عدواني وتارة بمظهر مخادع"(5). فالحرب الناعمة "مثال على الحرب الخفية"(6).

 

*من أعداء إلى أصدقاء

قامت الإدارة الأميركية من خلال "مركز بيــو" للأبحاث باستطلاعات رأي لسبْر أغوار الرأي العام العربي والإسلامي، فتبيّن أن غالبيّة ساحقة تصل إلى 80 % لديها حالة من الكراهية والعداء مع أميركا(7)، نتيجة تصرفاتها وسياستها العدائية في عدد من القضايا.

واقترح مركز "راند للأبحاث" التابع للبنتاغون خطة من 5 أركان تقوم على فكرة "بناء شبكات إسلاميّة معتدلة وتطوير المجتمع المدني"(8) وصادق عليها مجلس الاستخبارات القوميّة(NIC) (9):

1 - تأسيس ودعم تيارات إسلامية معتدلة ودعم منظمات المجتمع المدني التي تؤمن بالقيم الأميركية.

2 - الانسحاب العسكري من المناطق الساخنة في العالم الإسلامي.

3 - زيادة القوّة الناعمة الأميركية غير العدائية (الجامعات - المنظمات غير الحكومية - المشاريع التنموية - البرامج والمسلسلات التلفزيونية - الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي - التجارة والأعمال - هوليوود وأسلوب الحياة الأميركي).

4 - الابتعاد دبلوماسياً عن تصرّفات الكيان الصهيوني ومحاولة الظهور بمظهر الوسيط النزيه.

5 - إيجاد وفرز واستقطاب حادّ في الساحة الإسلامية عبر إثارة التناقضات بين الفرق الإسلامية لتحويلها عن حالة العداء مع أميركا والعالم الغربي والكيان الصهيوني، فتصبح عندها أميركا بنظر المسلمين هي الحلّ، والكيان الصهيوني بلداً جـاراً، ويريد السلام!

 

*"الربيع العربي"

وحتى يصل العالم الإسلامي إلى هذه الحالة دعمت أميركا "الربيع العربي" وأشعلت الصراعات بين التيارات والقوى العربية والإسلامية.

وما لم يصرّح به البيت الأبيض بصورة رسمية، قاله مفكّر أميركا السياسي "فرانسيس فوكوياما"، وهو مستشار سياسي في وزارة الخارجية ومدير في معهد السلام الأميركي التابع للكونغرس في مقابلة مع صحيفة الشرق الأوسط السعودية: "في أوروبا بزغت الأفكار الليبرالية وانتشرت بعد الصراعات الدينية المريرة، وبعد أن أصبح من المؤكد بالنسبة للقادة الدينيين والمحاربين أن الحروب عملية عبثية، ولن تفضي إلى شيء سوى القتل. لهذا كان لا بد من مجتمع متسامح يحتضن الجميع. أعتقد أن الخطورة في العالم الإسلامي تكمن في الصراعات الطائفية بين السنة والشيعة. النظام الليبرالي هو القادر على استيعاب هذا التنوع الديني، ويترك الآخرين يعيشون بسلام"(10).

 

*العدو الأميركي ومقولة "العدو القريب"

ومن ضمن التكتيكات الخبيثة لزرع الشقاق بين المسلمين قيام الحركات التكفيرية بترويج مقولة "العدو القريب" و"العدو البعيد". ويُقصد بالعدو البعيد أميـركا والغرب والصهيونية، في حين أن إيران والشيعة "الروافض" هم "العدوّ القريب"، وهو ما يعني في الفقه التكفيري وجوب وأولويّة قتالهم. ولو دققنا بمصادر هذه المقولة، سنجد أن أوّل من أطلقها وروج لها هو "زيغنيو برجينكسي" مستشار الرئيس الأميركي لشؤون الأمن القومي عام 1979، وتقوم فكرته على تسليح الجماعات الإسلامية للقتال ضد العدو السوفياتي لأنه "العدو القريب".

ومؤخراً عادت الحركات التكفيرية الإرهابية لتبنّي هذه المقولة كمنهج في أدبيّاتها. وبرزت من خلال تنظيم "داعش" الذي استلهم منهج "إدارة التوحّش" من كتاب المدعو أبي بكر ناجي، الذي يدعو إلى هدم الحدود الجغرافية لاتفاقية سايكس بيكو، وتأسيس دولة خلافة إسلامية. مع الإشارة الى أن البنتاغون ترجم الكتاب عام 2008، وقام بتوجيه سلوك هذه الحركات التكفيرية عن طريق الاختراق الاستخباراتي عبر حلفائه وعملائه من بعض حكومات العرب والمسلمين.

 

*شـبكات الـتواصل الاجتماعي نموذج للصديق الأميركي السيئ

في ضوء تكتيكات التخفّي ظهرت في عالمنا الإٍسلامي شبكات التواصل الاجتماعي كالفايسبوك وتويتر والواتساب Whatsapp الممولة من قبل وكالة الأمن القومي الأميركية NSA وهو ما قاله "إريك شميدت" مدير شركة غوغل Google خلال لقائه المسجّل مع مؤسس موقع "ويكيليكس" "جوليان أسانج"(11) وكشفه "إدوارد سنودن" الضابط المنشق عن الوكالة(12).

فمستخدمو هذه الأدوات انجذبوا نحو التكنولوجيا الأميركية، وأعجبوا بنموذجها الثقافي والسياسي الذي أتاح لهم "التواصل والانفتاح والتحرر والتفلت من كل الضواط الإيديولوجية والدينية والاجتماعية" وكسروا حالة العداء معها.

فوسائل التواصل الاجتماعي وشبكات الإنترنت هي "صديق السوء"، فهي بالظاهر أدوات صديقة، لأنها "عصريّة وتقنيّة ومحايدة"، لكنها بالخفاء المنصة التي سيعبر من خلالها العدو إلى عقول وقلوب مجتمعاتنا وشبابنا. وهذا ما صرح به "جارد كوهين" رئيس لجنة التخطيط السياسي في الخارجية الأميركية ومدير قسم غوغل للأفكار(13).

ومن هنا يغدو من الطبيعي أن تدفع شركة فايسبوك 19 مليار دولار ثمن شراء تقنية واتساب Whatsapp مع أنها لا تنتج أي ربح إعلاني، فهي ممولة من وكالة الأمن القومي والبنتاغون.

لكن امتلاك البصيرة وتحصيل الاستقامة له أصول ومتطلبات ومقوّمات وشروط، ينبغي تأمينها وترسيخها تدريجباً في وعي جيل الشباب والطلاب الأكثر استخداماً لشبكات الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي التي يحاول العدو التخفي من خلالها، عن طريق القيام ببرامج وإجراءات تعبوية وأنشطة دائمة لأجل بثّ التوعية والتثقيف بملف الحرب الناعمة وثقافة تمييز العدو من الصديق وزرع روح الشك والنقد اتجاه هذه الوسائل والمنصات الإلكترونية الخبيثة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- التضليل الكلامي وآليات السيطرة على الرأي، كلود يونان، ص83.

2- م.ن، ص94.

3- "القوة الناعمة"، جوزيف ناي، ص 20

4- يراجع دراسة مركز "قيم" رؤية الإمام الخامنئي دام ظله في الحرب الناعمة، نشر 2011.

5- خطاب للسيد القائد دام ظله بتاريخ 22/3/2010.

6- خطاب لسماحة السيد القائد دام ظله لدى استقباله قوات التعبئة بتاريخ 24/10/2010.

7- القوة الناعمة، جوزيف ناي، م.س، ص27.

8- دراسة تحت عنوان "بناء شبكات إسلامية معتدلة" إصدار معهد رائد للأبحاث.

9- تقرير اتجاهات عالمية (2025 - 2025) "Global Trends":

10- www.dni.gov/files/documents/Newsroom/Reports/2025_Global_Trends_Final_Report.pdf

11- مقابلة تحت عنوان "فرانسيس فوكوياما في حوار مع الشرق الأوسط" منشورة بتاريخ 17/2/2013 في جريدة الشرق الأوسط، العدد12500 .

12- مقالة تحت عنوان "صراع الجبابرة: عندما التقى غوغل بـ ويكيليكس".

13- مقابلة مع قناة روسيا اليوم، بتاريخ 15/7/2014 - www.rt.com

14- مقالة تحت عنوان "الانتخابات الإيرانية وأمن الطاقة" سكوت رايتر، جريدة السفير اللبنانية، 2009.

15- تقرير بعنوان "مواقع التواصل الاجتماعي في إيران: لعبة شدّ الحبال تستمرّ" للكاتبة زينب مرعي.