عندما تطل الحقيقة مجردة كما هي واضحة نقية مشعشعة تأخذ طريقها إلى العقول والقلوب بكل يسر وأمان، فكيف إذا أتت على لسان قائد ملهم أرغم طواغيت الكون وفراعنته الجدد على إعادة التفكير مرات ومرات قبل الإقدام على أية حماقة اعتادوا أن يفعلوها كما يحلو لهم؟ وكيف يمكن الاستفادة مما ورد في خطاب سماحة قائد الثورة الإسلامية الإيرانية الإمام السيد علي الخامنئي دام ظله الوارف، والاستناد إلى ما تفضل به من حقائق وروافع كفيلة بإنصاف المظلومين وردع الظالمين، مع تبيان الأسس والمنطلقات المضمونة لبلوغ النصر الحتمي والناجز؟.

العالم - مقالات وتحليلات

 

كلمة سماحة القائد الخامنئي حفظه الله بمناسبة بدء العام الهجري الشمسي 1400 وفق التوقيت الإيراني جديرة بأن تعتمد منهجاً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وعسكرياً في استراتيجيا متكاملة لجميع المؤمنين بقدرة الشعوب الحية على صيانة حاضرها، ورسم معالم مستقبلها وفق إرادتها الحرة المستقلة، لا وفق إرادة القوى الغاشمة التي لا تدخر جهدا للسيطرة على إرادة الآخرين وإحكام القبضة على مفاصل صنع القرار الدولي، وإذا كان خطاب سماحة القائد الخامنئي حفظه الله ورعاه بمناسبة عيد النوروز المبارك موجهاً للشعب الإيراني العريق، فإن مضامينه كفيلة بنقل جميع دول هذه المنطقة الجيوستراتيجية من العالم إلى ربيع حقيقي لا كالربيع المزعوم الذي لفحت ألسنة لهبه وأعاصيره دول المنطقة وفق استهداف ممنهج ما كان له أن يحقق شيئاً مما تم التخطيط له في الغرف المظلمة لولا وجود حكومات تابعة وذليلة ترتضي تنفيذ ما يمليه عليها سيدها الصهيو ـ أمريكي على حساب مصالح شعوب المنطقة ودولها، ويمكن باختصار شديد التوقف عند بعض العناوين المهمة والأفكار الغنية التي تضمنها الخطاب، ومنها:

 

• الحصار الاقتصادي المفروض جريمة كبرى:

بدقة تامة ومحاكمة عقلية منطقية مقنعة سلط سماحة القائد الخامنئي "د.ظ" الضوء على هذا الجانب المهم، وفضح الأكاذيب الأمريكية التي يروجها أعداء الإنسانية عبر إمبراطورياتهم الإعلامية المنتشرة في شتى أصقاع المعمورة، فالعقوبات الاقتصادية وسياسة الحصار المعتمدة ضد إيران وبقية أقطاب محور المقاومة ليست وليدة اليوم أو الأمس القريب، بل بدأت في عهد إدارة أوباما وما تزال مستمرة في تصاعد، وهذا ليس سلوكاً سياسياً أو دبلوماسيا قط، بل يرقى إلى مستوى الجرائم الكبرى، لأنه يتضمن حرمان هذا الشعب أو ذاك من استيراد الأدوية والأغذية ومتطلبات استمرارية الحياة، وفي ضوء هذا الفهم يمكن تصنيف سياسة الحصار والعقوبات والحظر التي تعتمدها أمريكا وبعض حلفائها بمثابة إبادة جماعية تتم فصولها أمام أعين المجتمع الدولي الذي اعتاد على ارتكاب الجرائم الكبرى من قبل الإدارات الأمريكية منذ استخدام القنابل الذرية ضد هيروشيما وناغازاكي، وكل المتابعين والمهتمين بالشأن الجيوستراتيجي يدركون أن إقدام واشنطن على إلقاء القنابل الذرية في نهاية الحرب العالمية الثانية لم يكن له أي هدف عسكري مباشر، بل كان التطبيق العملي للحرب الاستباقية ضد القوى الصاعدة للتفرد بالقرار الدولي منذ ذلك الوقت.

 

• فشل سياسة ضغوط الحد الأقصى:

يمكن وصف عام 1399هجري شمسي وفق التقويم الإيراني بأنه عام الصمود وتحدي الضغوط المتنوعة في حدها الأعظمي، وقد أوضح سماحة القائد الخامنئي حفظه الله أن الإيرانيين كانوا يعلمون بأن العدو سيخفق في تحقيق أهداف الضغط واستمراريته بذروته الأعظمية، واليوم باتت أمريكا نفسها ومن ومعها يعترفون بهذه الهزيمة، وكل المناورات والمداورات التي يتم التنقل بين خياراتها تؤكد يقين معسكر الأعداء بفشل هذه السياسية، كما هم على يقين من إصرار الدولة الإيرانية شعباً ومؤسسات وقيادة على تعزيز الصمود والمواجهة، وقد لا يتم الاكتفاء بإلحاق الهزيمة وإرغام أصحاب الرؤوس الحامية على ابتلاع حنظل الفشل والإخفاق، بل من حق إيران بخاصة، ومحور المقاومة بعامة أن يبني على فشل ضغوط الحد الأقصى، والتفكير بالانتقال إلى تحميل المهزومين ضريبة الفشل والهزيمة والإخفاق والخذلان، وهذا ما يقلق أركان الحكومة العميقة المتحكمة بالقرار الدولي.

 

• الخروج العسكري الأمريكي المباشر من المنطقة حتمي:

من المسلم به أن القوات العسكرية الأمريكية على الجغرافيا السورية وكل ما ينضوي في حلفها هي قوات احتلال عسكري مباشر، ومن حق الدول التي تتعرض أراضيها للاحتلال مقاومته والعمل على طرده بشتى السبل والوسائل الممكنة، والغريب أن القوات المحتلة بزعامة واشنطن تدعي أنها باقية لمحاربة تنظيم "داعش" في حين يعترف قادتها الحاليون والسابقون بأن ذاك التنظيم الإرهابي المسلح صناعة الاستخبارات الأمريكية بامتياز، وهم لا يكتفون بذلك، ولا تقف أضاليلهم عند كذبة محاربة داعش بل يقومون بسرقة النفط ومواسم الحبوب السورية جاهراً نهاراً عياناً بياناً، ويساعدون داعش في إقامة معسكرات جديدة، وتقديم كل ما يمكّن تلك التنظيمات الإرهابية المسلحة من التمدد وارتكاب الجرائم، أي محاولة إعادة تدوير ذاك المنتج والصناعة الأمريكية بمظاهر ومسميات جديدة، والأمر ذاته يتكرر في العراق الذي قال كلمته عبر ممثلي الشعب المعبرين عن إرادته، وليس أمام الإدارات الأمريكية جمهورية كانت أم ديمقراطية ـ في نهاية المطاف ـ إلا الرضوخ لهذه الإرادة غير القابلة للمصادرة، فالجبروت العسكري لواشنطن وما تمتلكه من طاقة تدميرية لا يمنحها إمكانية مصادرة إرادة شعوب ترفض وجودها، وكل مؤشرات الواقع تؤكد أن فاتورة الإصرار على البقاء والاستمرار بالعدوانية المعهودة لدى واشنطن وحلفائها قد تبلغ ـ وبدون مقدمات ـ حدوداً تلزم الصقور والحمائم في مفاصل صنع القرار الأمريكي على إعادة الحسابات، والتفكير جدياً في دفع ضريبة مناسبة لضمان الانسحاب الآمن من المنطقة.

 

• تحويل التحدي إلى فرصة:

قدم سماحة الإمام القائد في خطابة صورة واضحة المعالم متكاملة الجوانب عن الواقع الإيراني منذ فجر الثورة المباركة حتى يومنا الراهن، ولا يحتاج المتابع المهتم إلى كبير عناء ليتأكد بأدلة قاطعة، وبراهين دامغة أن دولة الثورة المباركة قد تمكنت ليس فقط من الصمود في مواجهة الأخطار والتهديدات والتحديات، بل واستطاعت بتفرد وإبداع تحويل الكثير من التحديات والتهديدات إلى فرص، والفضل في ذلك يرجع إلى الحكمة في اتخاذ القرار، فقد وجدت إيران ذاتها في ظل الحصار الجائر والعقوبات والحظر بمختلف وجوهه أمام طريقين لا بد من اعتماد أحدهما: ".. الأول الذهاب إلى مَن وراء الحظر ونرجو منه مثلاً تقليل هذا الحظر أو رفعه، فيقول: حسناً، ولكن يضع بعض المطالب الاستكبارية على الطاولة، ويقول افعلوا هذه الأشياء ثم أخفّض الحظر بمقدار ما... هذا أحد الطرق، وفي الحقيقة إنه طريق الذلّة، طريق الانحطاط، طريق التخلّف". أما الطريق الآخر، فهو (كلّا)، ويعني: "تفعيل طاقتنا الداخلية، أن نفعّل هذه الطاقات وننتج في الداخل السلعَ الخاضعة للحظر... عندما يرى الطرف المقابل إنتاج هذه السلع في الداخل، سوف يركض إلينا من تلقاء نفسه" ، وكما أفلحت الثورة الإيرانية في تحويل الحرب التي فرضها نظام البائد "صدام حسين" إلى جامعة بفضل توجيهات روح الله الخميني قدس سره، كذلك استطاع الشعب الإيراني في ظل القائد الخامنئي تحويل تحديات الحصار الجائر وأخطاره إلى فرص حقيقية شكلت قيمة مضافة في مسيرة التطور الإيراني، ولعل المعنى الأهم الذي يمكن التوقف عنده هنا يتجلى في جدوى اعتماد مثل هذا النهج الكفيل بتمكين أية دولة تتعرض لضغوط مشابهة من تجاوز الأخطار والتهديدات، وتحويلها إلى فرص حقيقية لتطوير الذات.

• فضح حقيقة العدوانية الأمريكية والتبعية السعودية:

لم يكتف سماحة الإمام القائد بتظهير حتمية نصر الأشقاء الأبطال في اليمن الصامد الذي بدأت معالم نصره تتضح وتتبلور بعد انقضاء ست سنوات من الحرب العدوانية الظالمة التي تشنها عليهم السعودية وحلفها المشبوه تنفيذاً لإملاءات أمريكية، بل ربط سماحته المخرجات بالمدخلات، ووضع الأمريكيين أمام ثنائية قاتلة، فهم إما أنهم لم يكونوا يعرفون النتائج المفترضة لمثل هذه الحرب، وبالتالي هم جهلة ومغفلون، وإما أنهم كانوا يتوقعون ما قد تفضي إليه من نتائج، وبالتالي السعودية وحلفها ليسوا بمنأى عن استهداف الخبث الصهيو ـ أمريكي عادلاً أو آجلاً، فالسعودية اليوم في مستنقع حقيقي لا يمكنها البقاء فيه، كما لا يمكنها الخروج منه، والسعودية كما قال سماحته: «المشكلة ذات حدّين، إذ لا يمكنها أن توقف الحرب ولا أن تستمر فيها، وكلا الجانبين يضرّ بها»، مضيفاً: «أنتم، الأمريكيين، هل كنتم تعلمون البلاء الذي أدخلتم السعودية فيه؟ إذا كنتم تعلمون ومع ذلك فعلتم، فويلٌ لحلفائكم على تصرّفكم معهم بهذه الطريقة! وإذا لم تكونوا تعلمون، فويلٌ لحلفائكم الذين يثقون بكم وينفذون ويصممون خططهم بموافقتكم (مع أنكم) لستم على دراية بأوضاع المنطقة»، والسؤال المشروع هنا: بعد هذا التوصيف الدقيق هل يمكن لمسؤول متورط في العدوان على اليمن أن يتجاهل ذلك، وبماذا سيجيب كل منهم نفسه إذا وقف أمام المرآة، وطرح على عقله وقناعاته هذه التساؤلات؟ وأي جواب محتمل إلى ماذا سيؤدي؟.

 

خاتمة:

كل فكرة من الأفكار المهمة التي تضمنها خطاب سماحة القائد الخامنئي"د.ظ" تستحق أن يخصص لها أكثر من دراسة تحليلية مستقلة، لكن حَسْبُ عشاق المقاومة ثقافة ونهجاً وسلوكاً الدلالة على بعضها، وتسليط الأضواء على بعض الجوانب لتبيان الدرر والجواهر التي يتضمنها هذا الخطاب الجدير بأن يوصف بأنه بحق خطاب القرن ورافعة الانتصار.

.......

*حسن أحمد حسن - باحث سوري متخصص بالجيوبولتيك والدراسات الاستراتيجية