حتّى ظهور الشمس(1)(*)
آية الله العظمى الشيخ عبد الله جوادي الآمليّ
إنّ تلازم القرآن والعترة أصلٌ حاكمٌ لا يعتريه الخلل، ويدلّ على إثباته حديث الثقلين المعروف. ويمكن في ضوء هذا البيان الاستدلال على ضرورة ظهور آخر إمامٍ ومنجٍ للبشريّة عجل الله تعالى فرجه، من خلال ضرورة وجود القرآن وظهوره في عالم الطبيعة.
•القرآن والظهور
إنّ توضيح العلاقة بين القرآن والظهور المبارك يحتاج إلى بيان أمور:
الأوّل: إنّ إنزال القرآن الكريم يضمن تحقيق جملةٍ من الأهداف السامية، من قبيل هداية الناس: ﴿هُدًى لِّلنَّاسِ﴾ (البقرة: 185)، وحضّهم على إقامة حكومة العدل: ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد: 25)، باعتبار أنّ من المتعذّر قيام عامّة البشر بالعدل في ظلّ غياب حكومة الحقّ، إلى جانب إخراج البشر من ظلمة الجهل إلى نور الهداية: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ (إبراهيم: 1).
الثاني: إنّ الأهداف السابقة إنّما تتحقّق عند نزول هذا الكلام الشريف إلى عالم الطبيعة، فيلزم أن يكون الوجود الكتابيّ للقرآن الكريم بين يدَي عامّة الناس، وإلّا فإنّ إنزال القرآن من مقام اللّوح المحفوظ الذي هو ﴿مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾ (النمل: 6)، إلى البيت المعمور في ليلة القدر المباركة: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ (القدر: 1)، كما ذهب إليه بعض المفسّرين(1)، هذا إن لم يتحقّق الظهور بين أيدي الناس، لن يساعد على تحقيق الأهداف العامّة للقرآن التي يلحظها المجتمع الإنسانيّ بلحاظ كلّيّ، بغضّ النظر عن هدايته وتنويره قلوب المطهّرين من الأفراد. وعليه، فلا بدّ من نزول الكلام الإلهيّ في عالم الطبيعة.
•الإمام عليه السلام عِدل القرآن
الإمام المعصوم عليه السلام في كلّ عصر عِدل القرآن الكريم؛ فالأهداف التي حدّدها الله تعالى لنزول القرآن هي الأهداف السامية المنشودة لكلّ إمامٍ معصوم، ما يترتّب عليه ضرورة نصب الإمام واختياره.
ولو فرضنا أنّ إماماً عليه السلام نُصّب لإمامة الأُمّة الإسلاميّة من وراء حجاب الغيبة وغياب ظهوره لعامّة الناس -أي دون أن يكون له بروز مشهود- لما أمكن أن تبلغ تلك الأهداف العامّة للإمامة مستواها العمليّ الفعليّ. وعليه، يبقى عموم الناس محرومين من الحضور الدائم لإمام العصر عجل الله تعالى فرجه حال غيبته، وإن كان يقضي حوائج أوليائه الذين ارتبطوا به واستناروا بفيضه، إلّا أنّ الأهداف السامية من الإمامة -أي هداية عموم البشر- ستبقى غير فعليّة آنذاك.
وعلى هذا الأساس، يكون ظهور الوجود المبارك لوليّ الله الأعظم إمام العصر المهديّ الموعود الموجود عجل الله تعالى فرجه أمراً ضروريّاً حتميّاً. نعم، يبقى أمر غيبته وطول مدّتها، مسألةً يُرجع فيها سبب الحرمان إلى قابليّة المجتمعات الإنسانيّة، كما أشار إليه بعضهم بالقول: "وعدمه منّا"(2).
•حتميّة الظهور المبارك
وفي المقام روايات عديدة أشارت إلى حتميّة ظهور صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه، من قبيل ما رواه عبد الله بن عمر قال: سمعت الحسين بن عليّ عليهما السلام يقول: "لو لم يبقَ من الدنيا إلّا يوم واحد، لطوّل الله عزّ وجلّ ذلك اليوم حتّى يخرج رجلٌ من ولدي، فيملأها عدلاً وقسطاً، كما ملئت جوراً وظلماً. كذلك سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول"(3).
كما ورد في بعض الأخبار أنّ ظهور الحجّة عجل الله تعالى فرجه من العلامات الحتميّة لما قبل يوم القيامة، فعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: عشرٌ قبل الساعة لا بدّ منها: السفيانيّ، والدجّال، والدخان، والدابّة، وخروج القائم عجل الله تعالى فرجه، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى عليه السلام، وخسفٌ بالمشرق، وخسفٌ بجزيرة العرب، ونارٌ تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر"(4).
•آثار سنّة الظهور
لسنّة الظهور آثار عدّة، منها:
1- إحياء الصراط المستقيم:
اشتملت سورة الفاتحة على دعاء يدعو به المؤمن بالله تعالى في اليوم أكثر من مرّة: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ*صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ﴾ (الفاتحة: 6-7). والصراط المستقيم هو الطريق الذي ينشده الذي أنعم الله عليه، كما أنّنا نطلبه من الله العليّ القدير.
وتوضّح سورة النساء المباركة أبرز مصاديق الذين أنعم الله عليهم بالقول: ﴿وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ (النساء: 69). وإذ يتمّ تحديد من هم الذين أنعم الله تعالى عليهم، يتمّ بالتبع تحديد حقيقة الصراط المستقيم.
ولاتّباع صراط الذين أنعم الله عليهم لوازم تساهم في اللحوق بهم والوصول إليهم، منها عدم تقديم العون إلى المجرمين. فمن اتّبع صراط الذين أنعم الله عليهم أدرك أنّ اكتساب النعم الإلهيّة يستلزم عدم تقديم يد العون إلى الظالمين، كما أشار إلى ذلك كليم الله موسى عليه السلام الذي كان من الذين أنعم الله عليهم بالقول: ﴿رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ﴾ (القصص: 17).
وعندما يظهر الوجود المبارك لصاحب العصر عجل الله تعالى فرجه، يتمّ إحياء جميع السنن، فيكون الذين أنعم الله عليهم ممّن يسيرون على سنّة هذا الطريق المستقيم، آمنين من مؤازرة المجرمين الظالمين؛ لأنّهم سعوا بكلّ ما أُوتوا من جهدٍ وقوّةٍ لإحياء الحقّ وإماتة الباطل. فلا يمكن لهؤلاء بأيّ حال من الأحوال أن يكونوا مناصرين للمجرمين والظالمين؛ وذلك أنّ مساعدتهم لهم لا تتمّ بالحضور بين ظهرانيهم وتقديم العون لهم في أعماقهم فحسب، بل بالسكوت عنهم الذي يفضي إلى إضعاف الحقّ وتقوية الباطل، وهو أحد مصاديق إعانة المجرم.
وتتمّة الآثار في العدد المقبل، بإذن الله.
(*) من كتاب: الإمام المهديّ الموجود الموعود عجل الله تعالى فرجه - الباب الثالث: من الظهور إلى المدينة الفاضلة - الفصل الأوّل - بتصرّف.
1. يراجع: جامع البيان، الطبريّ، ج 2، ص 191-192، تفسير سورة البقرة.
2.كشف المراد، المحقّق الحلّي، ص 388؛ والمقصد الخامس، المسألة الأولى، والمسلك في أصول الدين، ص 194.
3.كمال الدين، الصدوق، ج 1، ص 434-435، الباب 30.
4.الغيبة، الطوسي، ص 436، ذكر طرف من العلامات الكائنة قبل خروجه عجل الله تعالى فرجه.
المصدر: مجلة بقية الله
تعليقات الزوار