الشيخ محمّد زراقط

العلاقة المطلوبة بأهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام متنوّعة الأبعاد والوجوه؛ ومن وجوهها المحبّة والمودّة: ﴿قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ (الشورى: 23)، وكذلك الاقتداء والطاعة والاتّباع: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ (الأنعام: 90). ويقول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في كلام له مع عمّار: "إذا رأيت عليّاً سلك وادياً، وسلك الناس وادياً غيره، فاسلك مع عليٍّ ودعِ الناس، إنّه لن يدليك في ردى، ولن يخرجك من الهدى"(1).

 

وما نبغيه في هذه المقالة الموجزة، هو بيان أنّ معرفة أهل البيت عليهم السلام هي الأساس الذي ينبغي أن تُبنى عليه سائر وجوه العلاقة بهم؛ ولأجل هذا، سوف نبيّن أوّلاً أنّ الحبّ والاتّباع لا يكتمل نصابهما إلّا بالمعرفة، كما سنعرض بعد ذلك الأدلّة الأخرى التي تفيد لزوم معرفتهم، ونصاب هذه المعرفة، وبعض ما يرتبط بها.

 

المعرفة شرط الاتّباع

يبدو أنّ الإنسان مفطور بشكل طبيعيّ على معاداة ما يجهل: "الناس أعداء ما جهلوا"(2)، أو بالحدّ الأدنى، على اتّخاذ موقف حياديٍّ منه. والأمثلة في هذا المجال كثيرة، بعضها من الحياة اليوميّة المعيشة، وبعضها من عالم أعلى وأرقى. تخيّل أنّك ترى شيئاً ملقىً على الأرض حجب الغبار لونه، فصار يشبه كتلة تراب أو حصاة، ثمّ تخيّل أنّ بضعة قطرات من الماء سقطت عليه، فظهر لونه وأضفت عليه شيئاً من البريق، ثمّ تخيّل بعد ذلك أنّ حشريّةً ما دفعتك إلى التقاطه، فحككته وعرفت أنّه جوهرة ألماس. لا شكّ أنّ ثمّة تدرّجاً في العلاقة بهذا الشيء من الحياد السلبيّ إلى التعلّق والحرص على اقتنائه وحبّه. ويبدو أنّ القاعدة نفسها تسري على حبّ الأشخاص والعلاقة بهم. فها هم قوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: ﴿مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ﴾ (الفرقان: 7)؛ فقد منعهم من حبّه سوء فهمهم لموقع الرسالة وجهلهم بموقعه صلى الله عليه وآله وسلم من الله تعالى وصلته به، بالتالي، منعهم من اتّباعه. وربّما تختلّ سليقة أحدهم، فلا يعرف تمام الحقيقة من يحبّ؛ فيحبّه لبُعدٍ من أبعاده أو خصلة من خصاله، ولكن لا يكتمل نصاب هذا الحبّ إلّا بالمعرفة. يزخر تاريخ أهل البيت عليهم السلام بأمثلة عديدة، نكتفي بمثال ودلالاته واضحة، وهو أنّ الإمام الحسين عليه السلام حينما التقى بالشاعر الفرزدق في طريقه إلى كربلاء، قال له عليه السلام: "أخبرني عن الناس خلفك، فأجاب: الخبيرَ سألت! قلوب الناس معك وأسيافهم عليك..."(3) إذاً، لم يمنع الحبّ والعلاقة القلبيّة هؤلاء المحبّين، الذين تميل قلوبهم إلى الحسين عليه السلام، من إغماد سيوفهم عن نصرته أو إشهارها في وجهه.

 

الأدلّة المباشرة على لزوم المعرفة

مضافاً إلى ما تقدّم حول الأمور التي تستدعي معرفة أهل البيت عليهم السلام، ثمّة أدلّة متعدّدة تفيد لزوم المعرفة، وردت في كلام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أو في أفعاله:

 

1- من فعل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: روى المسلمون في تراثهم الحديثيّ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه كان يتصدّى لتعريف أمّته بأشخاص أهل البيت عليهم السلام وأعيانهم. والحديث الأكثر شهرة في هذا المجال ما يروى في عددٍ من المجامع الحديثيّة عن تصدّيه صلى الله عليه وآله وسلم لتعريف الناس بأعيانهم وأشخاصهم عندما نزلت آية التطهير، وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ (الأحزاب: 33). وهو الحديث المعروف بحديث الكساء(4). ومن ذلك أيضاً، الحديث المعروف بحديث الثقلين، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّي تارك فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر؛ كتاب الله حبلٌ ممدودٌ من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض"(5). ومن ذلك أيضاً، موقفه صلى الله عليه وآله وسلم في واقعة الغدير، التي نُصّ فيها على ولاية أمير المؤمنين عليه السلام. وأخيراً، ما ورد في الحديث عن الإمام الحسين عليه السلام عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "سمعتُ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ألا إنّ أهل بيتي أمانٌ لكم، فأحبّوهم لحبّي، وتمسّکوا بهم لن تضلّوا. قيل: فمن أهل بيتك يا نبيّ اللّه؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: عليٌّ وسبطاي وتسعةٌ من ولد الحسين أئمّةٌ أُمناءٌ معصومون..."(6). وتجدر الإشارة إلى أنّنا نستدلّ هنا بالفعل، وليس بالقول والكلام؛ وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تصدّى للتعريف بأهل البيت عليهم السلام. ومن الواضح أنّ الاهتمام بهذه المسألة والتصدّي لها، دليلٌ على مطلوبيّته من المخاطبين؛ أي ضرورة تحصيل معرفتهم.

 

2- من قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: من الأحاديث المشهورة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حديث يجعل الموت على الإسلام مشروطاً بمعرفة إمام الزمان، وإلّا مات الجاهل به ميتة جاهليّة. وهو حديث مشهور مرويّ بطرق شتّى عند المسلمين جميعاً، ونصّه في بعض المصادر هو: "... من مات ولم يعرف إمام زمانه، مات ميتة جاهليّة..."(7). وفي هذا المجال روايات عدّة منقولة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام تفيد أنّ المعرفة واجبة، وهي حقّ في حدّ ذاتها، ولأجل ما يترتّب عليها، منها: "عن زرارة قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: أخبرني عن معرفة الإمام منكم واجبة على جميع الخلق؟ فقال عليه السلام: إنّ الله عزّ وجلّ بعث محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس أجمعين رسولاً وحجّةً لله على جميع خلقه في أرضه، فمن آمن بالله وبمحمّد رسول الله واتّبعه وصدّقه، فإنّ معرفة الإمام منّا واجبة عليه..."(8).

 

الإيمان والمعرفة

من القرائن التي يمكن الاستناد إليها لإثبات وجوب معرفة أهل البيت عليهم السلام هي مفهوم الإيمان. فقد عُرِّف الإيمان بتعريفات متعدّدة، منها ما يجعل منه حالة وجدانيّة عاطفيّة غير مبنيّة على الدليل بالضرورة. ومن هنا، يميّز أصحاب هذا الفهم بين العلم والمعرفة وبين الإيمان؛ فيرَون أنّ المعرفة لا بدّ من أن تُبنى على الدليل والبيّنة، أمّا الإيمان فهو حالة وجدانيّة يكفي فيها التصديق والاعتقاد القلبيّ، ولو لم تكن مبنيّةً على أُسس عقليّة وبراهين واضحة. ولكن، عندما ننظر في القرآن الكريم، نجد أنّ الاعتقاد والإيمان بالمعتقدات الدينيّة الإسلاميّة ينبغي أن يُبنيا على العلم والمعرفة والبيّنة أو البرهان، على اختلاف التعبيرات الواردة في آيات كتاب الله تعالى، وهذه نماذج منها:

 

1- آياتٌ عدّة تدعو إلى العلم الذي يتعلّق بمفردة إيمانيّة، سواء كانت صفةً من صفات الله تعالى أو فعلاً من أفعاله، والأمثلة في هذا المجال كثيرة، منها: ﴿فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ (الأنفال: 40)، ومنها أيضاً قوله تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (الحديد: 17).

 

2- آياتٌ ورد فيها استدلالٌ على إثبات وجود الله ببرهان من البراهين، والتي تُذكر عادةً في علم الكلام الإسلاميّ، وهي متعدّدة في القرآن، نشير إلى نموذج منها: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ﴾ (الواقعة: 71-72).

 

3- قوله تعالى: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾ (الأنبياء: 24).

 

وعلى ضوء هذا الموقف الفكريّ من وجوب بناء العقيدة والأفكار الدينيّة على البيّنة والمعرفة، نجد أنّ عدداً من علماء الكلام عند الشيعة الإماميّة يبدأ بحثه في العقيدة بالحديث عن وجوب المعرفة، منهم العلّامة الحلّيّ في كتابه المشهور المعروف بـ الباب الحادي عشر: "في ما يجب على عامّة المكلّفين من معرفة أصول الدين؛ أجمع العلماء كافّةً على وجوب معرفة الله تعالى (...) والنبوّة والإمامة (...) بالدليل لا بالتقليد..."(9).

 

نصاب المعرفة وحدودها

ترتبط حدود المعرفة بالغايات والأهداف المتوخّاة منها؛ فيكفي تحقّق الغرض من معرفة بعض الأمور إمّا من خلال معرفتها إجمالاً، أو من خلال معرفة جهة من جهاتها، وهكذا. وأمّا بالنسبة إلى أهل البيت عليهم السلام، فلمّا كان الأمر مرتبطاً بما تقدّم من الأهداف والغايات، التي على رأسها المحبّة والاتّباع والطاعة، فإنّه من اللازم على كلّ إنسان معرفة أشخاصهم وأعيانهم حتّى لا يطبّق أحكامهم على غيرهم؛ فقد ورد في كتب التاريخ أنّ أحدهم أراد أن يبرّئ ذمّته، فذهب إلى حاكمٍ ظالم وعرض عليه البيعة، فمدّ له رجله ليبايعه!

 

كما يجب معرفة صفاتهم، والتي على رأسها أنّهم صلة وصل بين الأمّة وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك معرفة عصمتهم حتّى لا يتقدّم الإنسان عليهم ولا يتأخّر عنهم، ومعرفة بعض مقاماتهم حتّى يُحسن الارتباط بهم، ومن ذلك مقام الشفاعة الذي جعله الله لهم.

 

 

(1) بحار الأنوار، المجلسي، ج 38، ص 32.

(2) نهج البلاغة، الشريف الرضيّ، الحكمة 172.

(3) الإرشاد، المفيد، ج 2، ص 67.

(4) انظر: الكافي، الكلينيّ، ج 1، ص 287.

(5) مسند أحمد، ابن حنبل، ج 2، ص 14.

(6) كفاية الأثر، القمّيّ، ج 1، ص 170.

(7) انظر: كمال الدين وتمام النعمة، الصدوق، ص 409.

(8) الكافي، (م. س)، ج 1، ص 181.

(9) الباب الحادي عشر، العلّامة الحلّي، ص 2-4.

 

المصدر: مجلة بقية الله