ينشر موقع KHAMENEI.IR الإعلامي حواراً مع أستاذ كليّة الدراسات العالميّة في جامعة طهران الدكتور فؤاد إيزدي يجري فيه الحديث حول الجذور الفلسفيّة المؤثّرة في تكوين مفهوم الاستكبار في أسس الفكر السياسي الحديث، ومعاهدة «وستفاليا» وتشكّل مفهوم الاستكبار بصفته المنطق السلوكي للدول الغربيّة في مرحلة ما بعد هذه المعاهدة، إضافة إلى الفروقات بين الاستعمار الكلاسيكي والحديث والمصالح الاقتصاديّة والسياسيّة والثقافية التي حصدها منطق الاستعمار الحديث عبر تأسيس الكيان الصهيوني في غربي آسيا.

 

إذا أردنا أن ننظر إلى الجذور الفلسفية المؤثرة في تكوين مفهوم الاستكبار في أسس الفكر السياسي الحديث، فما الدور الذي لعبته الإنسانوية والعلمانية والرأسمالية في تشكيل مفهوم الاستكبار العالمي؟

 

عادة لا تستخدم كلمة الاستكبار في أدبيات العلوم السياسية المنتجة خارج إيران. الاستكبار هي كلمة من القرآن، وبالطبع لها مزايا فوق المصطلحات المشابهة. لكن بما أن سؤالكم يتعلق بمصطلح الاستكبار، وكلمة الاستكبار، فهذه الكلمة لها جذور قرآنية.

 

تعود خلفية الاستعمار الأوروبي إلى تاريخ الدول الأوروبية والبلدان التي عانت كثيراً من تجربة الحروب بينها. قبل أن يتجاوزوا حدود أوروبا وتبدأ مرحلة الاستعمار، كانت هناك داخل قارة أوروبا، في علاقات الدول الأوروبية المختلفة والأعراق الأوروبية المتنوعة بعضهم مع بعض، الاعتداءُ والتعرّض والمذابح والقتل وقضايا من هذا النوع. كانت منتشرة على نطاق واسع جداً، وهي مستمرة الآن أيضاً. إن الحربين العالمية الأولى والثانية كانتا حربين بين الأوروبيين. كانت بينهما حروب أخرى أيضاً مثل حرب الأعوام المئة والأعوام الثلاثين. هذه كانت الحروب في أوروبا منذ بداية التاريخ المسجل.

 

نتيجة هذه الحروب والاعتداءات المتعددة التي تعرّض لها الأوروبيون تجاه بعضهم بعضاً هي أن هذه الدول عادة ما سعت أكثر من الحد المعتاد إلى اختراع الأسلحة وصناعة الأسلحة الأحدث واستخدامها. بالطبع، كانت الحروب والصراعات في كل مكان في العالم دائماً. لكن في أوروبا لأنها كانت خارجة عن الحالة الاعتيادية، كانت هذه الدول تتقدم عادة في مجال الأسلحة. هذا يعني أن في مختلف المجالات وحيث تقدمت الثقافات المتحضرة أكثر في أوروبا بطبيعة الحال تقدمت الدول الأوروبية في مجال الأسلحة والحروب. لهذا، اخترع الأوروبيون الأسلحة النارية، أي التي تعمل بالبارود. بالطبع، يقول بعض المؤرخين إن العرب هم من اخترعوا الأسلحة النارية. هناك اختلاف في الرأي بين المؤرخين حول مكان اختراع الأسلحة النارية، أي البندقية، لأول مرة. مع ذلك، إذا لم يخترع الأوروبيون البندقية، فقد أحرزوا بالتأكيد تقدماً في تحديث هذا السلاح وتحسينه. هذا التفوق العسكري هو الذي يؤدي في نهاية الأمر إلى حقيقة أن الأوروبيين يودون دخول مناطق خارج القارة الأوروبية من أجل الوصول إلى مزيد من الموارد المالية والثروات. بعد ذلك، أدى التفوق في الأسلحة إلى هيمنة الأوروبيين على الأماكن التي دخلوا إليها، مثل القارة الأمريكية أو الأفريقية أو غيرهما، نتيجة هذا التفوق في الأسلحة. السبب الرئيسي لهيمنة الأوروبيين وبداية الحقبة الاستعمارية واستمرارها يعود إلى هذه الحقيقة: لقد أدى هذا التفوق في الأسلحة إلى التفوق الثروة، ولأن الأوروبيين نهبوا ثروات بلدان كثيرة وصلوا إليها واستقروا فيها. حتى إن بعض المؤرخين يعتقدون أن نصف ثروات العالم في تلك القرون القليلة من الاستعمار نُقلت إلى أوروبا من أماكن مختلفة. هذا التفوق العسكري، الذي أدى إلى التفوق المالي، حصد مزايا أخرى للأوروبيين. على سبيل المثال، ونظراً إلى توسع القدرات المالية للدول الأوروبية، تقدموا كذلك في مجالات العلوم والصناعة وما إلى ذلك، وتعززت جامعاتهم واستمرت عجلة التفوق العسكري هذه. فعندما حصلت تلك الدول المستَعمَرة على البنادق مثلاً، كان الأوروبيون يمتلكون المدافع. بينما حصلوا على المدافع، كان الأوروبيون قد صنعوا الطائرات. لقد كان الأوروبيون دائماً متقدمين بخطوة في مجال الأسلحة على البلدان التي يهيمنون عليها، ومن الأسباب التي يمكنكم رؤيتها الآن لكونهم حساسين بشأن القضية النووية لإيران هو أن الأخيرة لا تريد إنتاج قنبلة نووية طبعاً، لكنهم يقولون: إذا أنتجت إيران قنبلة نووية، فستكون أول مرة خلال خمسمئة مضت تتساوى فيها أيدي الأوروبيين وأيدي الطرف المقابل، لأنه لا يوجد سلاح أكثر تدميراً من النووي. الآن، إذا كانت دولة مثل إيران، وهي دولة مستقلة في مجال السياسة الخارجية أيضاً وغير متماشية مع الغرب... إذا توصلت إلى السلاح النووي، فلن يكون هذا التفوق موجوداً. لذلك هم مستاؤون.

 

لهذا ، تواصلت دورة القدرة العسكرية للأوروبيين. كانت النتيجة أنّ في مجالي القدرة العسكرية والثروة، ثم في العلوم والتكنولوجيا، تقدّم الأوروبيون جراء الثروة، ولأنه لم يكن هناك أي هاجس أخلاقي بين شعوب أوروبا وحكوماتها، كان الأوروبيون يرتكبون الاحتلال والقتل والاستعباد ومثل هذه الجرائم بسهولة ومن دون أي قيود أخلاقية خلال الحقبة الاستعمارية لحكوماتهم. في هذا الصدد، يعتقد بعض المؤرخين أن العلمانية بدأت من هنا في الأساس، أي عندما بدأت الحقبة الاستعمارية فانقسمت الكنيسة إلى قسمين، فتماشى جزء من الكنيسة مع الاستعمار وصار أداة له. من المشهور أن الأفارقة يقولون: عندما جاء الأوروبيون إلى أراضينا، كانت الأرض بأيدينا والإنجيل في أيدي الأوروبيين. بعد بضع سنوات، أعطانا الأوروبيون الإنجيل وأخذوا منا أرضنا، أي كان الدين المسيحي في ذلك الوقت في أوروبا منحرفاً وفي خدمة الاستعمار. لكن الكنيسة التي كانت في خدمة الاستعمار كانت جزءاً واحداً من الكنيسة. الجزء الآخر كانوا أكثر تديّناً ولديهم هواجس أخلاقية ويعترضون على أساليب الحكومات الأوروبية وعنفها وقتلها وعدوانها واستعمارها دولاً أخرى. لهذا، كوّنت الكنيسة جزءاً معترضاً داخل نفسها صار يؤرّق تلك الحكومات، ومن هنا، بدأت فكرة العلمانية تنمو، ما يعني أن الحكام والملوك الأوروبيين قالوا: وما شأنكم بسياستنا الخارجية وأنشطتنا خارج الحدود! ابقوا في كنائسكم! بذلك، بدأ فصل الدين عن الدولة، وتبعه فصل الدين عن السياسة. يعتقد بعض المؤرخين أن العلمانية تعود أساساً إلى الحقبة الاستعمارية.

 

المفاهيم الأخرى مثل الإنسانوية هي في الواقع وسيلة لنفي الأطر الأخلاقية. هذا يعني أنه حينما يكون هناك إطار أخلاقي، تلقى قضية مثل الرأسمالية من نوعها الغربي أصالة لها وتصير المبدأ الأساسي للفكر السياسي والاقتصادي في الدولة. جرى تصميم الرأسمالية أيضاً على أساس انتفاع الفرد، ومَهمة كل فرد في المجتمع إخراجُ منافسيه من الساحة دون هواجس أخلاقية. ومَهمة الدول إخراجُ منافسيها من الساحة دون هاجس أخلاقي لتحقيق المزيد من الأرباح، فيصير الهدف زيادة الربح والثروة.

 

بالطبع نحن في الإسلام نحترم الملكية الخاصة ونسعى جاهدين لإنتاج الثروة. كما توجد في إنتاج الثروة أطر أخلاقية حاكمة أيضاً، وتوجّه الشريعة الإسلامية جزءاً من الثروة التي ينتجها الأفراد إلى الفئات المحتاجة في المجتمع، وهذا غير موجود في الفكر الغربي. فإذا أراد شخص منح المال لشخص آخر وبرغبته الخاصة، فهذا قراره الشخصي، وذلك يعود إلى قضية الإنسانوية نفسها التي ذكرناها.

 

من هذا المنطلق، يُعدّ الفكر الرأسمالي أحد المبادئ الأساسية لهذه الحقبة الاستعمارية. لماذا؟ كما قلنا: أولاً، في الحروب التي خاضها الأوروبيون مع بعضهم بعضاً كانوا يسعون إلى زيادة قدرتهم وثروتهم، فنشأت حقبة الاستعمار في الأساس لأنهم كانوا بحاجة إلى موارد مالية وبشرية للمنافسة التي خاضوها بينهم من أجل زيادة ثرواتهم. فكانت الرأسمالية الغربية الجامحة من الأسباب الجذرية لسياسات الحكومات الاستكبارية منذ بداية هذا النوع من النشاطات في الدول الغربية حتى اليوم.

 

كما تعلمون، تعد معاهدة «وستفاليا» نقطة تحول مهمة في تاريخ العلاقات الدولية، وأهم ثمرة لهذه المعاهدة تشكيل حكومات وطنية ودخول العلاقات بين الدول الأوروبية إلى منطق سلوكي وأولويات جديدة. في مرحلة ما بعد هذه المعاهدة، نشهد تشكّل مفهوم الاستكبار بصفته المنطق السلوكي للدول الغربية وبخاصة بريطانيا في مجال العلاقات الدولية. لو سمحتم، أخبرونا قليلاً عن هذه العملية التاريخية وآثارها.

 

في الحقيقة، تبدأ حقبة الاستعمار من القرن الخامس عشر. طبعاً بعض الأشخاص يعتقدون أنها بدأت قبل الخامس عشر؛ ومعاهدة «وستفاليا» كانت في السابع عشر، لذا القولُ إن الاستعمار بدأ بعد «وستفاليا» ليس صحيحاً. تعود بداية حقبة الاستعمار إلى ما قبل ذلك للأسباب التي ذكرتها من قبل، فقد كان الأوروبيون في صراع مع بعضهم بعضاً. لكن وفق تلك الأسباب التي ذكرتها سابقاً كانت الحكومات الأوروبية في صراع مع بعضها بعضاً. يمكننا القول إن «وستفاليا» جعلت قدراً معيناً من العلاقات بين هذه الدول ومصادر القوة وبيئاتها أكثر انتظاماً في أوروبا. وفي نهاية المطاف، أدى هذا الانتظام إلى تشديد المنافسة في الهيكل السياسي للقارة بطريقة ما، ولهذا، ربما يمكننا القول إن عملية الاستعمار التي بدأت من قبل ذلك كانت مؤثرة جداً.

 

لو سمحتم، اشرحوا لنا الفروقات بين الاستعمار الكلاسيكي والحديث، والأخير تُعدّ أمريكا حاملة رايته. نرجو تبيين أهمية الأدوات الثقافية ووسائل الإعلام في منطق الاستعمار الحديث. واشرحوا لنا أيضاً اختلاف نظرة الاستعمار الحديث ونوعه تجاه غربي آسيا.

 

كما تعلمون، هناك ثلاثة أنواع من الاستعمار، تُستخدم غالباً في النصوص الأكاديمية. لدينا حقبة استعمارية وحقبة ما بعد الاستعمار وحقبة الاستعمار الحديث. عادة ما يتحدد الفرق بين هذه المفاهيم الثلاثة بهذه الطريقة: خلال حقبة الاستعمار من الواضح طبعاً أن دولة أوروبية تحت قيادة قائد عسكري ما تحتل منطقة وتسميها مستعمرتها الخاصة. هذه المستعمَرة يحكمها ذاك القائد الأوروبي الذي تنصّبه بعض الدول الأوروبية. العمل الذي فعلوه في الهند أو أفريقيا مثلاً أو أماكن أخرى حيث كان الاستعمار البريطاني، وما فعله المستعمرون الآخرون مثل الفرنسيين الذين كانوا ناشطين في أفريقيا وجنوب شرقي آسيا مثلاً، كان بالأسلوب نفسه. إذن، هذه هي حقبة الاستعمار. لدينا حقبة ما بعد الاستعمار أو «ما بعد الكولونيالية» حين لم يعد ذلك الأوروبي على رأس الحكومة المستعمَرة في المجال السياسي، فجرت العادة أن يكون شخص على رأس الحكومة ينتمي إلى البلد نفسه. ينتمي في اللغة أو لون البشرة أو مكان الولادة إلى البلد الذي كان مستعمراً سابقاً. مع ذلك، هو غالباً ما يواصل سياسات الدول المستعمِرة نفسها. طبعاً، هنا ربما يمكننا أن نأخذ إيران مثالاً، أي إيران لم يجرِ استعمارها رسمياً أبداً ولم تجرب حقبة الاستعمار بصورة رسمية، لكنها جربت حقبة ما بعد الاستعمار، عندما وصلت سلالة بهلوي إلى السلطة على يد الدول المستعمِرة. بلدان أخرى كثيرة صارت مستقلة في الظاهر عن المستعمِرة لكنها كان يديرها عملياً أشخاص تابعون للحكومات المستعمِرة بالأسلوب عينه الذي أشرت إليه. في الأدبيات الأكاديمية أحياناً ما تسمى هذه البلدان بالبلدان «كلانيت» أو المتماشية أو المتوافقة. هذه البلدان يقودها السكان الأصليون لكنهم يطبقون سياسات الدول المستعمِرة بنسبة عالية جداً وبالطريقة التي تريدها.

 

لدينا أيضاً حقبة الاستعمار الحديث، التي تركز غالباً على أدوات الاستعمار، وهذا يدخل مجال البرمجيات. فالدول المستعمِرة تسيطر على دول مختلفة باستخدام الأدوات التي صممتها في الإدارة العالمية: في المجال السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي ومختلف المجالات. هذا يعني أنهم لم يعودوا بالضرورة تابعين لتلك الدولة التي نصّبتهم. من الممكن أن تكون دولة ما قد مرت بتجربة حكومة منصَّبة لكنها مجبرة بأسلوب أو بآخر على تنفيذ سياسات الدول المستعمِرة عبر أدوات الأخيرة. على سبيل المثال: ما يحدث في المجال الاقتصادي هو أن الدول المستعمِرة تستخدم المؤسسات الاقتصادية الدولية لتوجيه البلدان كما تريد. ثم إذا لم تتماشَ معهم تلك الدولة، يفرضون عليها الحظر. الحظر على إيران دليل على هذه القضية، فقد استخدمت أدوات مالية ومصرفية، وهي أدوات الحظر، على الدول التي لم تتحرك بموجب تلك القوانين التي وضعتها الدول المستعمِرة. إذن، هذا هو تعريف الاستعمار الحديث والإطار الذي تمرّ به البلدان في هذه الحقبة. بالطبع، لأن قوة أمريكا آخذة في الأفول في مختلف المجالات، فإن حقبة الاستعمار الحديث هذه تنتهي تدريجياً أيضاً. نحن نتحرك نحو عالم متعدد الأقطاب سيصير فيه كثير من البلدان التي عانت من الاستعمار الحديث، مثل الصين أو البرازيل أو الهند أو إيران نفسها، دولاً مؤثرة. سيجدون مكاناً في العالم في المجال الاقتصادي، وتلك الأدوات التي عملت ضد هذه البلدان في الماضي لن يكون لها ذات الفعالية بالأسلوب القديم.

 

استكمالاً لإجابة هذا السؤال: كلما انتقلنا من حقبة الاستعمار إلى الاستعمار الحديث، نرى أن الحاجة إلى استخدام الأدوات الثقافية والدعاية تزداد. لماذا؟ لأنه خلال الاستعمار استخدم كثير من العنف للسيطرة على شعوب الدول المستعمَرة وقمعها. لهذا، كان لاستخدام الأدوات العسكرية أهمية. لكن مع تناقص هذه السيطرة الظاهرية في حقبة ما بعد الاستعمار ثم يبدأ الاستعمار الحديث هناك حاجة إلى تماشي الرأي العام لهذه البلدان المستعمَرة معهم. إن الهيمنة التي تريد الدول المستعمِرة خلقها تحتاج إلى إغناء جزء واحد على الأقل من شعوب هذه البلدان. لهذا، تصير الدعاية والأدوات الثقافية مهمة. الهدف أن هذه النسبة من شعوب تلك البلدان المستعمَرة سوف ينبغي أن تنفذ تلك الإجراءات، وأن يكون لديهم أفكار ومعتقدات من شأنها أن تساعد البلدان المستعمِرة على تحقيق أهدافها. يعني أن الأداة العسكرية تفقد فعاليتها نسبياً وتجد الأداة الثقافية والدعائية فعالية مهمة.

 

بشأن غربي آسيا، تصدق هذه النقاط التي ذكرناها أيضاً بسبب أهمية غربي آسيا ولما تتمتع به من موارد نفطية وغازية ومجاورتها فلسطين المحتلة، وبسبب عداوة الغربيين مع الإسلام تاريخياً على مر القرون الماضية من زمن الحملة الصليبية حتى اليوم، وما تتعرض له غربي آسيا بكثافة وتركيز وتكلفة وهواجس ومتابعة. أنتم تلاحظون أن في السنوات الثلاثين الماضية تقريباً بدأ الغربيون حروباً كثيرة في غربي آسيا، مثل حرب العراق وأفغانستان والطريقة التي تعاملوا بها مع الجمهورية الإسلامية، والاحتلال الذي وقع في لبنان وغيره أمثلة على هذه القضية، وكلها تظهر أن غربي آسيا، نظراً إلى أهميتها للدول الغربية، استخدموا معها وسائل مختلفة لإرساء الهيمنة فيها، وقد أنفق الغربيون كثيراً من الأموال لتحقيق أهدافهم في هذه المنطقة.

 

بعد انتهاء الحرب الباردة، قدّم صامويل هنتنغتون نظرية «صدام الحضارات» مقابل نظرية فوكوياما عن «نهاية التاريخ»، وذكر أنه من الآن فصاعداً ستكون الهوية الثقافية والدينية مصدر كل الصراعات. اشرحوا أهمية غربي آسيا لأمريكا من وجهة النظر هذه.

 

في ما يتعلق بموضوع هنتنغتون هو وضع لائحة تضم بعض الحضارات بما في ذلك الإسلامية. ولكن عندما تنظرون إلى الوضع الحضاري لتلك الحضارات الأخرى مقارنة بالغرب، ثم تقارنونها بالحضارة الإسلامية وأيضاً التحدي الذي أوجدته الحضارة الإسلامية للغرب، سوف تدركون أن في الحقيقة وفي مجال الحضارةِ الحضارةُ الوحيدة التي تقاوم الهجوم الثقافي والسياسي والاقتصادي للغرب هي الإسلامية بقيادة جمهورية إيران الإسلامية. في الواقع إن حلف المقاومة هذا وجمهورية إيران الإسلامية والعالم الإسلامي يعدّون الجدار الذي سدّ حضور الحضارة الغربية ومنع عولمتها ولم يسمح لها بالسيطرة على العالم كله. لهذا إن الحضارة الإسلامية لغربي آسيا وبخاصة إيران التي تتصدر حلف المقاومة هي العدو الرئيسي في نظر الغرب. فكرة أنكم يمكنكم تصحيح هذه النظرة المناهضة للإسلام وعلاقات الغرب مع حلف المقاومة والجمهورية الإسلامية بسهولة ليست أكثر من وهم، فتجربة أربعين عاماً من الثورة أثبتت ذلك. عداء الغرب يعود إلى الحروب الصليبية وقبل، وإذا كانت هناك مرونة في بعض الحالات، فهذه المرونة مرونة تكتيكية لتحقيق أهداف معينة، فعداء الغرب للإسلام وحلف المقاومة والجمهورية الإسلامية عميق جداً ومتجذر. الخبر السار أن الحضارة الغربية آخذة في الأفول، فقد خلقت لنفسها مشكلات كثيرة. ولهذا المستقبل إيجابي.

 

بشأن موضوع فوكوياما الذي أثار قضية نهاية التاريخ، وبالطبع تراجع عنها في السنوات الماضية لأنه من الناحية العملية صار واضحاً أن هذه المقولة لم تكن عميقة كفاية وصحيحة، فدحضَ مقولته السابقة، أظهرت الأحداث التي حدثت بعد نشر ذلك المقالة ثم الكتاب أن التحليل والنظرية لم يكونا صحيحين، وهنا أيضاً التحدي الرئيسي لفكر الديمقراطية الليبرالية، وهو هذه الحضارة الإسلامية نفسها وحلف المقاومة والجمهورية الإسلامية. فلو أراد أحد أن يُظهر ما الذي أدى في النهاية إلى إخفاق نظرية فوكوياما وفشلها، فإن الحضارة الإسلامية وفي مقدمها حلف المقاومة والجمهورية الإسلامية يجب أن يحتلوا المركز الأول. في النتيجة، تقودنا مباحث كل من فوكوياما وهنتنغتون إلى استنتاج مفاده أن جمهورية إيران الإسلامية هي التي تمتلك قابلية المقاومة في العالم. من ناحية أخرى، وفي مواجهة الهجمة الغربية، يوسع حلف المقاومة حدوده. أيضاً روسيا تقول الآن لأمريكا: كلا، والصين كذلك إلى حد ما. لم يكن هذا هو الوضع قبل عشرة أعوام أو عشرين. هذا يدل على أن دولاً أخرى تحذو حذو إيران بأسلوب المقاوَمة نفسه الذي بدأته إيران ضد الهجمة الغربية، ويرون أنه تمكن مقاومة أمريكا والتقدّم في آن. عندما يرون هذا، يدركون أنه يمكنهم فعل الشيء نفسه، ولذلك، نشهد الآن انتقال القوة من الغرب إلى الشرق. إننا نشهد العبور في مرحلة زمنية سيكون في نهايتها عالمٌ متعدد الأقطاب. هذه المستجدات والتطورات في العالم تدل على أن الأسلوب الذي بدأته الجمهورية الإسلامية في العالم أسلوب مهم وفعّال. إن للجمهورية الإسلامية مقولة جديدة، وهذه المقولة تفتح تدريجياً مكاناً لها في العالم وتقاوم الهجمة الغربية.

 

تحدّثت كونداليزا رايس وزير الخارجية الأمريكية حينها، عن «الشرق الأوسط الجديد» ومخاض ولادته في خضمّ حرب تمّوز 2006 في لبنان. ماذا كان منهج الخارجيّة الأمريكية المتمثّل في «الشرق الأوسط الجديد»؟ هل يُمكن القول إنّ هذا المشروع مهزومٌ اليوم؟

 

نعم، كانت هذه عقليّة المسؤولين الأمريكيّين، وأحداث 11 أيلول/سبتمبر مثّلت ذريعة جيّدة من أجل تحقيقهم الأهداف التي يرومون إليها في غربي آسيا. كانوا يشعرون أن عليهم أوّلاً احتلال أفغانستان ثمّ العراق إلى أن يصل الدور إلى إيران، أي لو نجح الأمريكيّون في أفغانستان والعراق، لكانوا سيهاجمون إيران حتماً ويرسمون مخطط غربي آسيا كما يحلو لهم. هذا يعني أنّهم كانوا سيغيّرون الحدود ويبدّلون الحكومات ويفرضون سيطرتهم، كما سيهيمنون على مصادر النفط والغاز في المنطقة إضافة إلى أنّ مكانة الكيان الصهيوني في هذه المنطقة ستترسّخ إلى ما بعد مئات السنين. بالطّبع، كانت قوّة الكيان الغاصب ستزداد توسّعاً. هذه عقليّة حكومة بوش الابن، وهذا ما أرادت رايس إيصاله من هذا الكلام. طبعاً، لم يحدث هذا على أرض الواقع. لا، ليس لم يحدث على أرض الواقع فقط، بل لم تحقّق أيّ من سياسات أمريكا مآربها، لا في أفغانستان ولا العراق ولا سوريا ولا لبنان ولا اليمن، وأيضاً لم تحققها في إيران حيث مارس الأمريكيّون أقسى أنواع الهجوم. لماذا؟ هذا كلّه يعود إلى ثقافة المقاومة التي جسّدتها الجمهوريّة الإسلاميّة، ونحن اليوم في أيام الذكرى السنويّة لاستشهاد الفريق سليماني. [السبب] تلك القدرة لدى الفريق سليماني، القدرة التي كانت موجودة بالقوّة وتحوّلت إلى قدرة بالفعل، إذ ترون اليوم كيف جعل مسار الأمور الأمريكيّين يعجزون عن تحقيق أهدافهم في غربي آسيا، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل إنّ هزيمتهم في غربي آسيا بقيادة إيران وجهود أشخاص من قبيل الفريق سليماني تسرّع في مسار أفول أمريكا. من الأسباب التي أدّت إلى تسارع مسار هذا الأفول انهزامهم في غربي آسيا. هذا كان عكس ما حضر في عقل رايس ثم جرى على أرض الواقع.

 

بناء على المنطق الاستكباري العالمي نرجو منكم شرح المصالح الاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة التي حصدتها أمريكا ومعها منطق الاستعمار الحديث عبر تأسيس الكيان الصهيوني في غربي آسيا. ما الدور الذي يؤدّيه الكيان الصهيوني خدمة لنفوذ أمريكا واستعمارها الحديث في غربي آسيا؟

 

جرى تأسيس الكيان الصهيوني من أجل تأمين مصالح الغرب في غربي آسيا. هذا كان السبب الأول. والثاني التغلغل العميق للوبي الإسرائيلي في الدول الغربية، وهو ما دفعها في هذا الاتجاه، لكنّ هذه القصّة تعود إلى أواسط القرن العشرين. على أرض الواقع الآن، نجد أنّ المشكلات التي يُسبّبها الكيان الصهيوني للغرب أكثر من المصالح التي يحقّقها، أي تحوّل الكيان الصّهيوني إلى نظام فصل عنصري – هذا ليس كلامنا – إثر السياسات التي اتّبعها والفكر السائد في ذاك الكيان. على سبيل المثال، نشرت «منظّمة العفو الدوليّة» ومقرّها بريطانيا منذ أشهر تقريراً من 280 صفحة يحمل عنوان «نظام الفصل العنصري في إسرائيل». من هذه الناحية، سيصير دعم الدول الغربيّة لنظام فصل عنصري أمراً صعباً. والسبب أنّ هذه الدول تشهد تحوّلاً ديموغرافيّاً، فالتقديرات في أمريكا تفيد بأنّ غالبيّة الناس سيكونون من أصحاب البشرة الملوّنة حتى 2045، وغالبية الرضّع الذين يولدون اليوم في أمريكا هم هكذا، وغالبية الشباب ما دون 18 سنة هم كذلك.

 

سوف تصير غالبيّة الشعب الأمريكي من ذوي البشرة الملوّنة تدريجياً بعد 22 سنة، أي في 2045. وبالنسبة إلى بلدٍ يشكّل ذوو البشرة الملوّنة غالبيّة سكّانه، لن يكون دعم نظام الفصل العنصري بالأمر السهل، وأنتم ترون من الآن شواهد على هذه القضيّة، فليس من الضروري أن تصلوا إلى 2045 حتى يحدث هذا. سوف يكون دعم الكيان الصهيوني أصعب حين تصير غالبيّة الشعب الأمريكي من ذوي البشرة الملوّنة تدريجياً، إضافة إلى أنّنا نشهد تحوّلاً ديمغرافيّاً داخل الكيان الصهيوني أيضاً. هناك تحوّل ديمغرافي يرتبط بغالبيّة الناس الذين يعيشون هناك. إذا جمعتم السكان الفلسطينيّين لأراضي 1947 و1948 و1967، فستجدون أنّ غالبيّة سكّان تلك الأراضي التي تدّعي إسرائيل كونهم إسرائيليّين هم من الفلسطينيّين.

 

هذا تقريرٌ نشرته صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية ونقلت ما ورد في تقريرين نشرتهما منظّمتان استخباريّتان إسرائيليّتان، ومفاد الكلام بأنّه منذ 2020، أي قبل ثلاثة أعوام، إذا جمعتم الأراضي المحتلّة حيث يدّعي الإسرائيليّون كونها إسرائيل، والضفة الغربيّة وغزّة، فستجدون أنّ غالبيّة سكّان الأراضي هناك هم من الفلسطينيّين. منذ 2020، أي قبل ثلاثة أعوام تقريباً، إلى اليوم، نشهد هذا التحوّل الديمغرافي هنا، فلو جرى استفتاء في تلك الأراضي، لن يكون نتنياهو رئيساً للوزراء، بل سيكون رئيس الوزراء فلسطينيّاً عربيّاً، في حال تقرر أن يكون هناك رأيٌ لكلّ شخص يعيش في تلك المنطقة. كذلك، يوجد تحوّل ديمغرافي بين الصهاينة أيضاً، فنسبة الولادات بين الصهاينة المتطرّفين أكبر ممّا هي عليه بين العاديّين. والنتيجة ستكون أنّ هذه البلديّات والمستوطنات سوف تقع تدريجيّاً بأيدي صهاينة متطرّفين، وبعد ذلك لن يقدر الصهاينة العاديّون على العيش في حكم المتطرّفين، وسيتوجّب عليهم غالباً أن يغادروا تلك الأراضي. كثيرون منهم لديهم جوازات سفر عدّة أيضاً، أي ستشهدون الهجرة العكسيّة التي بدأت منذ الآن. ترون اليوم كيف أنّهم يقولون إنّ حكومة نتنياهو هي أكثر الحكومات يمينيّة في تاريخ الكيان الصهيوني. لماذا؟ السبب يكمن في التحوّل الديمغرافي الذي ذكرته لكم الآن.

 

هنا، مع أنّ الكيان الصهيوني أُسّس خدمة لمصالح الدول الغربيّة، فإنّه على أرض الواقع وبسبب التحوّلات الديمغرافيّة في الدول الغربيّة وأيضاً الأراضي المحتلّة ذات الغالبيّة الفلسطينيّة، وكذلك التحوّل الديمغرافي بين الصهاينة، سيصير دعمه مكلفاً جدّاً، والنتيجة أنّ زوال الكيان الصهيوني تدريجية، وباتت الدول الغربيّة على مفترق طريقين وعليها أن تقرّر حتى متى سوف تواصل دعمها هذا الكيان المحتلّ والغاصب. لا شكّ في أنّهم لو قرّروا مواصلة الدعم، فإنّ ذلك سيكون مكلفاً جدّاً لهم، لأنّ الكيان لو كان يخدم يوماً مصالح الدول الغربيّة، فإنّه اليوم يضرّ بها أكثر مما ينفعها، والصهاينة يلجؤون إلى الاتفاقات الاستعراضيّة لأنّهم لا يقدرون على حلّ مشكلاتهم مع الفلسطينيّين. على سبيل المثال مع الإمارات التي لديهم علاقات معها منذ سنوات، يبادرون إلى إعلان العلاقة، أو يكشفون عن علاقتهم بالسودان مثلاً، وهم لم يكونوا في صراع أصلاً مع هذه الدول. ثمّ بدلاً من أن يحلّوا المشكلة الأساسيّة يلجؤون إلى حلّ قضايا لا تشكّل أيّ مشكلة في الأساس. في النهاية، لا تحقق الدول الغربيّة تلك المصالح التي ترمي إليها بدعم الكيان الصهيوني، بل تجني الضرر أكثر. لا شكّ في أنّ الصهاينة يحاولون التغلغل في المنطقة عبر الأداة العسكريّة والاقتصاديّة والاستخباريّة ويسعون إلى توسيع رقعة نفوذهم، وسوف يحدث هذا التوسع في بعض الأماكن أيضاً. لكنّ هذا كلّه لن يصبّ في مصلحة الدول الغربيّة في نهاية المطاف لأنّكم تلاحظون تشكّل موجة من العداء لإسرائيل في المنطقة الآن، كما أنّ التدابير التي شاهدتموها في قطر خلال كأس العالم أثبتت مدى كره شعوب الدول العربيّة للكيان الصهيوني. من هذه الناحية إنّ الكيان يجعل الدول الغربيّة تواجه كثيراً من التحدّيات، والمصالح التي تحقّقها من وجوده ليست شيئاً يُذكر أمام التحدّيات التي تواجهها.