الشيخ محمود عبد الجليل
يقول الإمام الحسين عليه السلام: "لَوْ شَتَمَني رَجُلٌ في هذِهِ الأُذُنِ -وأومى إلى اليمنى-، وَاعْتَذَرَ لي في الأُخْرى، لَقَبِلْتُ ذلِكَ مِنْهُ"(1).
لو تَصفّحنا سيرة الإمام الحسين عليه السلام، فلن نجد حصراً لتجلّيات الرحمة التي ملأت قلبه مع من يسيء إليه، وحتّى مع أعدائه، إذ كان يدعو لهم بالهداية والانضمام إليه، ويُظهر لهم خوفه عليهم من عذاب النار، ومغبّة جرأتهم على قتله وسفك دمه في أرض الطفّ، فكيف لا يكون كذلك وهو رحمة الله الواسعة وباب نجاة الأمّة؟!
إنّ للإمام الحسين عليه السلام في كربلاء مواقف إنسانيّة قلّ نظيرها، تتزاحم فيها القيم والمبادئ الأخلاقيّة لكثرتها، فتجد فيها الرحمة والكرم والإحسان والعطف، ومن الطبيعيّ أن تصدر مثل هذه المناقب العالية والأخلاق السامية عمّن هو من أهل بيت عادتهم الإحسان، وسجيّتهم الكرم حتّى مع أعدائهم. يستعرض هذا المقال بعضاً من تلك المواقف.
* إلقاء الحُجّة على خصومه قبل المعركة
من موارد رحمته عليه السلام بأعدائه أسلوب المحاورة الذي اتّبعه معهم قبل نشوب الحرب لكونه حريصاً على هدايتهم وإخراجهم من الضلالة إلى الهدى، وتحذيرهم من خطورة ما هم مقبلون عليه وهو قتالهم لإمام زمانهم. فقد خطب الإمام عليه السلام في أصحابه وأصحاب الحرّ، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: "أيّها الناس، إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من رأى سلطاناً جائراً مستحلّاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيِّر عليه بفعل ولا قول، كان حقّاً على الله أن يُدخله مدخله). ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ من غيّر. وقد أتتني كتبكم وقدمت عليّ رسلكم ببيعتكم أنّكم لا تسلّموني ولا تخذلوني، فإن تممتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم، فأنا الحسين بن عليّ وابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، نفسي مع أنفسكم وأهلي مع أهليكم، فلكم فيّ أسوة، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي من أعناقكم، فلعمري ما هي لكم بنكر، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي مسلم، والمغرور من اغترّ بكم، فحظّكم أخطأتم ونصيبكم ضيّعتم، ومن نكث فإنّما ينكث على نفسه، وسيغني الله عنكم، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته"(2).
* حرص الإمام الحسين عليه السلام على هداية الآخرين
وذلك من خلال السعي المستمرّ لكشف الأمور وتبيين الحقائق. ونجد نماذج كثيرة لهذا الأمر في خطاباته عليه السلام يوم عاشوراء حيث كان ينادي: "فانسبوني من أنا، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟"(3)، وكذلك في خطابات أصحابه كزهير بن القين وبرير بن خضير وغيرهما.
* تذكير الأعداء بمكانته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وهكذا نجد خطابه عليه السلام في يوم عاشوراء، لجيش عمر بن سعد إذ يقول: "ألست ابن بنت نبيّكم، وابن وصيّه وابن عمّه وأوّل المؤمنين المصدّق لرسول الله بما جاء به من عند ربّه؟ أوليس حمزة سيّد الشهداء عمّي، أوليس جعفر الطيّار في الجنّة بجناحين عمّي؟ أولم يبلغكم ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لي ولأخي: (هذان سيّدا شباب أهل الجنّة)؟! فإن صدّقتموني بما أقول وهو الحقّ، والله ما تعمّدت كذباً منذ علمت أنّ الله يمقت عليه أهله، وإن كذّبتموني فإنّ فيكم من لو سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاريّ وأبا سعيد الخدريّ وسهل بن سعد الساعديّ وزيد بن أرقم وأنس بن مالك، يخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لي ولأخي، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟!... فإن كنتم في شكّ من هذا، أفتشكّون أنّي ابن بنت نبيّكم؟! فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري فيكم ولا في غيركم، ويحكم أتطلبوني بقتيل منكم قتلته، أو مال لكم استهلكته، أو بقصاص جراحة؟!"(4).
* محاورة الإمام عليه السلام لعدوّه قبل المعركة
لقد حاور الإمام عليه السلام ابن سعد بالتي هي أحسن، إذ أرسل عليه السلام عمرو بن قرظة الأنصاريّ إلى ابن سعد يطلب الاجتماع معه ليلاً بين المعسكرين، فخرج كلّ منهما في عشرين فارساً، وأمر الحسين عليه السلام مَن معه أنْ يتأخّر إلّا العبّاس وابنه عليّاً الأكبر، وفعل ابن سعد كذلك وبقي معه ابنه حفص وغلامه. فقال الإمام عليه السلام: "ويلك يا بن سعد أما تتّقي الله الذي إليه معادك؟! أتقاتلني وأنا ابن مَن قد علمتَ؟ ذرْ هؤلاء القوم وكن معي فإنّه أقرب لك إلى الله،" فقال ابن سعد: أخاف أنْ تهدم داري، فقال الحسين عليه السلام: "أنا أبنيها لك"، فقال: أخاف أنْ تؤخذ ضيعتي، فقال الحسين عليه السلام: "أنا أخلف عليك خيراً منها من مالي بالحجاز"، فقال: لي عيال وأخاف عليهم، ثمّ سكت ولم يجبه إلى شيء، فانصرف عنه الحسين عليه السلام(5).
* سقاية جيش الحرّ
وذلك عندما استقبله ألف فارس ممّن يطلبون قتله أو أسره إلى عبيد الله بن زياد، وعلى رأسهم الحرّ بن يزيد الرياحي، وقد أُمر أن لا يفارق الحسين عليه السلام حتّى يقدم به إلى الكوفة، لكنّ الظمأ والعطش أصاب القوم وخيلهم، حتّى كاد العطش أن يرديهم، وهناك، نجد الإمام الحسين عليه السلام يأمر فتيانه أن "اسقوا القوم وارووهم من الماء، ورشّفوا الخيل ترشيفاً"(6). ويروي أحدهم وهو ممّن كان في عداد ذلك الجيش أنّ الإمام الحسين عليه السلام خاطبه بقوله: "يا بن أخي، أنخ الجمل"، فأنخته، فقال: "اشرب"، فجعلت كلّما شربت سال الماء من السقاء، فقال الحسين عليه السلام: "أخنث السقاء -أي اعطفه-"، فلم أدر كيف أفعل، فقام فخنثه فشربت وسقيت فرسي(7). وكان بإمكان الإمام عليه السلام القضاء عليهم وإبادتهم عن آخرهم وهم على تلك الحالة من العطش والتعب، وخصوصاً على ما عزموا عليه من قتال الإمام عليه السلام أو إحضاره مخفوراً إلى عبيد الله بن زياد، ولكنّ أخلاق الإمام عليه السلام ورحمته دعته لأن يسقيهم ويرشّف خيولهم.
في المقابل، نرى كيف تعامل الجيش الأمويّ مع الإمام الحسين عليه السلام، إذ منعوا عنه وعن أطفاله ونسائه وأصحابه الماء!
* رفض الإمام عليه السلام البدء بالقتال
كان الإمام الحسين عليه السلام حريصاً على مبادئ الإسلام وقيمه في الحروب، وحتّى في أصعب المواقف. لمّا أضرم الإمام عليه السلام القصب في الخندق الذي عمله خلف البيوت، مرّ الشمر فنادى: يا حسين أتعجّلت بالنار قبل يوم القيامة؟... فرام مسلم بن عوسجة أن يرميه فمنعه الإمام الحسين عليه السلام عن ذلك، فقال له مسلم: إنّ الفاسق من أعداء الله وعظماء الجبّارين، وقد أمكن الله منه، فقال الإمام عليه السلام: "لا ترمه، فإنّي أكره أن أبدأهم في القتال"(8).
بل كان الذين يخرجون لمخاطبة القوم يتراجعون إلى الوراء إذا رُموا بالسهام اتّباعاً لتعليمات الإمام الحسين عليه السلام قبل نشوب المعركة.
* قبول الإمام عليه السلام توبة مَن خالفه
نلاحظ أنّ الحرّ بن يزيد الرياحي، الذي جعجع بالإمام الحسين عليه السلام وحبسه عن الرجوع، قد تأثّر بكلام الإمام عليه السلام وعاد إلى رشده وندم على ما اقترفه من خطأ بحقّ معسكر الإمام الحسين عليه السلام، وذلك عندما علم إصرار القوم على قتال الإمام عليه السلام، فأقبل حتّى وقف من الناس موقفاً، فأخذ يدنو من الحسين عليه السلام قليلاً قليلاً، فقال له المهاجر بن أوس: ما تريد يا بن يزيد، أتريد أن تحمل؟ فلم يجبه وأخذه مثل الأفكل -وهي الرعدة- فقال له المهاجر: إنّ أمرك لمريب، والله ما رأيت منك في موقف قط مثل هذا، ولو قيل لي: من أشجع أهل الكوفة ما عدوتك، فما هذا الذي أرى منك؟! فقال له الحرّ: إنّي والله أخيّر نفسي بين الجنّة والنار، فوالله لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قُطّعت وحُرّقت. ثمّ ضرب فرسه فلحق بالحسين عليه السلام فقال له: جُعلت فداك -يا بن رسول الله- أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وسايرتك في الطريق، وجعجعت بك في هذا المكان، وما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضته عليهم، ولا يبلغون منك هذه المنزلة، والله لو علمت أنّهم ينتهون بك إلى ما أرى ما ركبت منك الذي ركبت، وإنّي تائب إلى الله تعالى ممّا صنعت، فترى لي من ذلك توبة؟ فقال له الحسين عليه السلام: "نعم، يتوب الله عليك فانزل"، قال: فأنا لك فارساً خيرٌ منّي راجلاً، أقاتلهم على فرسي ساعة، وإلى النزول ما يصير آخر أمري. فقال له الحسين عليه السلام: "فاصنع -يرحمك الله- ما بدا لك"(9).
ثمّ تقدّم نحو جيش ابن سعد ووعظهم فلم ينفع، فقاتل حتّى استُشهِد (رضوان الله عليه).
وهكذا، انتقل الحرّ إلى صفِّ الإيمان والحقِّ والجهاد والشهادة، وكلّ ذلك ببركة سِعة صدر الإمام الحسين عليه السلام وعفوه عنه وقبول توبته.
* لا تشفع للشمر"!
بعد كلّ هذه النماذج التي تعبّر عن منتهى الرحمة الحسينية، يحقّ للعلّامة الدربندي أن يصيح في الموضع المحاذي للرأس الشريف في حرم سيّد الشهداء عليه السلام: "يا حسين، بحقّ أمّك الزهراء عليها السلام لا تشفع للشمر!" وقد سُئل: "هل الشفاعة ممكنة للشمر؟"، فأجاب: "لمَ تكون غير ممكنة؟! لمَ هي محالة؟ إنّهم مظهر رحمة الله الواسعة. نحن نقسم عليه أن لا يفعل هذا الأمر"(10)!
(1) مجموعة باحثين، موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام، ص 738.
(2) الطبري، تاريخ الطبري، ج 4، ص 304-305.
(3) الشيخ المفيد، الإرشاد، ج 2، ص 97.
(4) المصدر نفسه، ج 2، ص 97-98.
(5) السيّد الأمين، أعيان الشيعة، ج 1، ص 599.
(6) الشيخ المفيد، الإرشاد، ج 2، ص 78.
(7) المصدر نفسه، ج 2، ص 78.
(8) الشيخ السماوي، أبصار العين في أنصار الحسين، ص 109-110.
(9) الشيخ المفيد، مصدر سابق، ج 2، ص 99-100.
(10) الشيخ بهجت قدس سره، الرحمة الواسعة، ص 167.
المصدر: مجلة بقية الله
تعليقات الزوار