سرّ الإنجازات الكبرى(*)
يكون العمل مميَّزاً تبعاً للدافع. والأعمال الحسنة والكبرى لا يمكن أن تُنجز إلّا بالدوافع المميّزة والنابعة من أعماق القلب؛ فذاك الذي يقضي وقتاً طويلاً في العمل ويضحّي بوقت راحته لأجل إنجازه، لديه دافعٌ سامٍ، وهذا شيء مميّز. لقد شاهدنا مثل هذه الروحيّة من قرب في أشخاص لا يعرفون شيئاً اسمه العطلة أو الاستراحة، بل يرغبون في قضاء الوقت كلّه في العمل الذي كُلّفوا به.
* الأعمال المميّزة
يجب تنظيم العمل والتخطيط له بطريقةٍ يتمكّن الإنسان معها من القيام بمسؤوليّاته تُجاه عائلته وأسرته وعلاقاته الأخرى، فلا يسحق نفسه. ولكن بعض الناس يكونون، في الواقع، أصحاب إمكانات كبيرة، فيقومون بكلّ شيءٍ في محلّه، ويأخذون من أماكن أخرى ليضيفوا إلى العمل، فقد ينتهي الوقت المخصّص أو الدوام ويكون قد تعب، وعلى الرغم من ذلك يبقى يعمل وقتاً بعد نهاية الدوام دون أن يُطلع رئيس العمل على ذلك، ودون أن يسجّل وقتاً إضافياً؛ إذ هدفه إنهاء العمل وإنجازه ليس إلّا.
هذا العمل بحجمه وكميّته يُعدّ من الأعمال المميّزة، وهو يحتاج إلى الدافع، وما لم يكن هناك دافعٌ قلبيّ لا يمكن لأيّ أحد أن يعمل بهذه الطريقة. هذا الأمر له قيمة عظيمة، ويحفظ في سجل ديوان الكرام الكاتبين.
التميّز في كيفيّة الأداء
نوعٌ آخر من الأعمال المميّزة هو الذي يتعلّق بكيفيّة أداء العمل؛ فالإنسان يمكنه أن ينجز عمله بطريقة سهلة، ويمكنه اختيار الطريقة الأصعب من أجل أن يرفع من جودة العمل، وهذا ما يتطلب دافعاً في نفسه بأنّ هذا العمل الذي يقوم به مميّز.
وهناك نوع من الأعمال يرتبط بالابتكار والإبداع وإيجاد الطرق والأساليب الجديدة، وهذا ما يتطلّب دافعاً لتتحقّق مثل هذه الأعمال، سواء من ناحية الكميّة أو الكيفيّة، فما هو هذا الدافع؟
* الإيمان والوعي
إنّ هذا الدافع هو مركّبٌ من الإيمان والوعي. والعامل الباطنيّ يحمل الإنسان على القيام به، فعندما أعلم أنا وأنتم أنّ العمل الذي نريد أن نقوم به ونمارسه هو عملٌ لله ومن أجل الناس ونفعهم، والله يراه ويقدِّره ويُؤجر عليه، حتّى لو لم يطّلع عليه الآخرون أو يقدّروه.. هذا يصحّ أن يُقال عنه: «دافعٌ كاملٌ» في قبال من لديهم مثل هذا الاعتقاد والوعي والإيمان بالنتيجة، ولكن ليس لديهم الله، فهؤلاء يكون دافعهم أقلّ. قال الإمام الحسين عليه السلام يوم عاشوراء: «إنَّ ذلك بعين الله». بهذه الرؤية يمكن لذلك الدافع، إذا وُجد، الاستفادة منه لمصلحة الأهداف والمبادئ. فعندما يطّلع المرء على تاريخ الإسلام يرى اهتماماً بالغاً وانهماكاً في تقوية هذا الدافع.
* معركة أُحُد أُنموذجاً
في معركة أُحد كان المسلمون، في البداية، منتصرين، وبعدها وبسبب طلب الدنيا انهزم بعضهم، واستشهد آخرون كحمزة سيّد الشهداء وغيره، والبقيّة فرّوا وذهبوا إلى ذلك الجبل. أما الأعداء، في نهاية ذلك اليوم الذي جرت فيه المعركة، فقد تركوا المكان غانمين مسرورين. فأمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بحمل الشهداء وإحضارهم إلى المدينة. ومن بين العائدين إلى المدينة جرحى ومعوّقون وعوائل مثكولة، فعجّت المدينة وضجّت بالبكاء والنحيب على القتلى وبسبب خسارة الحرب. هذه الأمور كلّها شكّلت مرارة لدى المسلمين.
في مساء ذلك اليوم الذي جرت فيه تلك الواقعة المرّة، أُخبر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بأنّ عدّة من المشركين يفكّرون في الهجوم على المسلمين والقضاء عليهم طالما أنّهم، هزموا وبدأ بعض الأشخاص الثرثارين، في المدينة، ينشرون الشائعات بسرعة. هنا جاء النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، ففي مثل هذه المواضع لا بد من إعمال روح النبوّة، فجمع الناس في المسجد، ثمّ قال: سمعت أنّ العدوّ قد اجتمع في المكان الفلانيّ وهو ينتظر أن تغفلوا حتّى يحمل عليكم حملة واحدة، فعليكم أن تذهبوا إليهم لتبدّدوهم. قالوا: سمعاً وطاعةً، يا رسول الله. قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: أريد فقط من كان معنا في أُحد. لعلّ بعضهم في البداية تعجّب، واندهش... فجُمع أولئك الذين كانوا معه في أُحد ممّن أصيب وأُنهك، وأَمرهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يذهبوا وينهوا القضية ثمّ يرجعوا. فأولئك الذين أصيبوا في ذلك اليوم، وأرادوا أن يردّوا الضربة بالضربة، كانوا يخبرون الأمر جيّداً لا أنّهم سمعوه من هنا وهناك، هؤلاء هم الذين عبّأهم النبيّ، وأمرهم بالذهاب، وكان عددهم قليلاً، فركبوا وتوجّهوا إلى تلك المنطقة وغافلوا العدو، ووجّهوا إليه ضربةً شتّتته وبدّدته، ثم رجعوا؛ فنزلت حينها هذه الآية الشريفة: ﴿الَّذينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُم﴾ فالمؤمنون هم أولئك الذين يأتيهم أصحاب الشائعات ليخوّفوهم بالأعداء ﴿فَزادَهُمْ إيماناً﴾، لكنّ هذا التخويف لم يتحقّق، بل ازداد الدافع والإيمان وأصبح أقوى ﴿وقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ﴾ (آل عمران: 173).
* العمل عمل الله
نحن نوكل الأمر إلى الله تعالى. مثل هذه المعرفة العظيمة تعني أنّكم تقومون بالعمل بأيديكم وفكركم وقلمكم ولكن العمل هو عمل الله وموكولٌ إليه؛ ولكنّ إيكال الأمر إلى الله لا يعني أن نجلس جانباً ونقول إنّ الله ينجزه، كلّا، فلو لم يعن الله ولو لم يهدِ ولو لم يوفّق فلا يمكنكم أن تقوموا بأيّ عمل أو تحصّلَوا أيّ نتيجة.
هذه الأمور هي ليست مجرّد تاريخ أو ذكرى، بل هي درسٌ وعبرة أو يُراد لنا أن نذكر هذه الحقائق ونُعملها في حياتنا.
(*) من كلام للإمام الخامنئي دام ظله في تاريخ 2 شعبان 1431هـ 14/ تموز 2010م.
المصدر: مجلة بقية الله
تعليقات الزوار