القدس في استراتيجية الإمام الخميني ووجدانه

"عندما ترون دماء إخوانكم المظلومين تجري في الأراضي الفلسطينية المقدسة، وعندما ترون أراضينا قد خرّبت بيد الصهاينة المفسدين، ففي هذه الأحوال، لم يبق من طريق سوى مواصلة الجهاد، ويجب على كل المسلمين أن يقدموا مساعداتهم المادية والمعنوية في هذا الجهاد المقدس، والله هو الحامي لهذه الإرادة".

هذا النداء الذي وجهه الإمام الخميني في الشهر العاشر من العام 1968 في النجف الأشرف، يدل وكأن هذا القائد التاريخي يعيش بيننا اليوم، يحاول أن يستنهض النخوة العربية والإسلامية، ويدعو إلى الجهاد لنصرة الانتفاضة وكفاح الشعب الفلسطيني، ضد الإرهاب الصهيوني المتمثل بالممارسات القعمية التي يمارسها ارييل شارون وجنرالاته العسكريون وطاقمه السياسي.

فالقضية الفلسطينية بشكل عام، والقدس بشكل خاص، مثلتا الهمّ الأساس في فكر ونهج الإمام الخميني، فسخر لهما جل وقته، وكل إمكاناته وطاقته من أجل تحريرهما من الاحتلال الإسرائيلي، ولكي تبقى القدس عنوان التعبئة، وعنوان الصراع، اتخذ من آخر جمعة من شهر رمضان المبارك يوماً لها، لما للأيام الأخيرة من قدسية، لأن احتمال ليلة القدر فيها.

كان الإمام يخاف على القدس، وكل المقدسات الفلسطينية الأخرى من الضياع، كان يخشى أن يتم التنازل عنها أو عن أجزاء منها في مفاوضات التسوية، نتيجة الضغوط الأمريكية وغير الأمريكية، لذلك حرص أن تبقى حية في النفوس وفي الضمائر، وفي قاموس مفرداتنا السياسية والثقافية والفكرية؛ نعمل من أجلها، نستنفر كل إمكانياتنا العسكرية والدبلوماسية والإعلامية والمادية من أجل نصرتها، حتى يحين الوقت الذي نستطيع فيه استعادتها وتخليصها من براثن الصهيونية.

ورأى أنه "من أجل تحرير القدس يجب استعمال الرشاشات المتكلة على الإيمان وقوة الإسلام، وأن يدعوا جانباً اللعب السياسية التي تفوح منها رائحة المساومة لتبقى الدول الكبرى راضية" (10/8/1981). 

الأبعاد الاستراتيجية

وقد بنى موقفه على فهمه الإستراتيجي العميق لطبيعة الصراع مع الحركة الصهيونية العالمية، المدعومة من الإدارات الأمريكية المتعاقبة، فهو إدرك مبكراً أهمية سلاح الإيمان في المعركة، وضرورة الاعتماد على النفس وعلى المواجهة المباشرة للعدو لانتزاع الحق السليب، أما الدخول في دهاليز المناورات السياسية، فإنه لن يفضي إلا إلى ضياع الحقوق، وذلك بسبب اختلال موازين القوى، وبسبب احتمال الانصياع للمطالب الاستكبارية.

ومنذ انطلاقة الثورة الإيرانية ضد الشاه، والإمام الخميني يرفع شعار دعم الفدائيين الفلسطينيين، ويدعو إلى استعادة وتحرير فلسطين، وكان أحد أبرز أسباب الخلاف بينه وبين الشاه، هو أن الأخير كان حليفاً للصهاينة، يقدم لهم العون، ويتبادل معهم المعلومات، ويقف ضد الثورة الفلسطينية، ويؤيد الاحتلال وممارساته التعسفية.

لذلك ركز الإمام الخميني اهتمامه على مساعدة المقاومة الفلسطينية، فقدم لها كل المساعدات المادية والمعنوية والسياسية، وأول خطوة أقدم عليها بعد انتصار الثورة، كانت تحويل السفارة الإسرائيلية إلى سفارة لفلسطين، وكان يحذر دائماً من الافخاخ الأمريكية، ويرفض أي اتفاقات مذلة مع "إسرائيل". ويعتبر توجه بعض القادة الفلسطينيين للتفاوض، مضيعة للوقت، وتنازلاً عن جانب من الحقوق.

وكان يمنّي النفس دائماً، كما ذكر في حديث له بتاريخ 6/8/1980 أن يوفقه الله يوماً للذهاب إلى القدس والصلاة فيها، وأمل أن يعتبر المسلمون يوم القدس يوماً كبيراً، وأن يقيموا التظاهرات في كل الدول الإسلامية في هذا اليوم، وأن يعقدوا المجالس والمحافل، ويرددوا النداء في المساجد، وعندما يصرخ مليار إنسان، فإن "إسرائيل" ستشعر بالعجز، وتخاف من مجرد ذلك النداء.

ولو أمعنا النظر قليلاً بهذا الموقف، لأدركنا كم هو مهم وضروري في هذه المرحلة الحساسة التي تمر بها القضية الفلسطينية وانتفاضتها؛ ففي هذه الأيام يحاول شارون ـ بمباركة أميركية ـ كسر شوكة المنتفضين والمجاهدين في فلسطين، مستخدماً أحدث ما أنتجته المصانع الأمريكية في حرب غير متكافئة ضد الأطفال والنساء والشيوخ، فيقتل ويدمر ويشرد وينسف دون رادع، بل إن واشنطن تعتبر ذلك دفاعاً عن النفس، وحقاً مشروعاً ضد الإرهاب! ولم تتمكن الولايات المتحدة، بل ولا تريد أن ترى كل الاعتداءات الإسرائيلية منذ أكثر من عام ضد الشعب الفلسطيني، عملاً خارج القانون وخارج الاتفاقات، وخارج قرارات الأمم المتحدة. 

دلالات ومعانٍ

إن تزامن المجازر الصهيونية مع دعوة الإمام الخميني بالاحتفال بيوم القدس يحمل جملة من الدلالات والمعاني أبرزها:

أولاً: مطالبة الشعب الفلسطيني بالوحدة، ورفض التفرقة، أو القبول بالضغوط التي تؤدي إلى زعزعة الروح المعنوية الداخلية، وتدق إسفيناً من الخلاف بين أبناء الصف الواحد.

ثانياً: تشديد الضربات الموجعة للاحتلال الإسرائيلي، لإجباره على الانسحاب، أسوة بما حصل في جنوب لبنان على يد المجاهدين فيه.

ثالثاً: الاعتماد على الله ووحدة الشعب، وتنوير الشارع العربي والإسلامي، من أجل مزيد من التلاحم والتعاضد، من أجل استمرار المواجهة.

رابعاً: القيام بحركة دبلوماسية وإعلامية واسعة النطاق، لكشف الحقائق، وإطلاع الرأي العام على ما يحصل بعيداً عن التضليل الذي تلجأ إليه وسائل الإعلام الغربية ـ الصهيونية.

خامساً: رفض الخضوع لما يسمى بالأمر الواقع للقبول بزج المناضلين في السجون، والقبول بفتات الموائد السياسية.

سادساً: استغلال الوضع الدولي السائد لمصلحة القضية الفلسطينية، بدل أن يكون الأمر معكوساً.

كان رهان الإمام الخميني دائماً على الشعب، وعلى إرادة الصمود والتضحية والمقاومة، وعلى هذا الأساس انتصر على كل الأجهزة والجيوش والتسلط والظلم، وهو يؤكد أن هذا الخيار سلاح يجوز في كل زمان ومكان، ولو تم اعتماده فإنه لن يقود إلا إلى النصر: "لو نهضت كل الشعوب في يوم القدس وصرخت لما استطاعت تلك الحكومات الحمقاء أن تمنع نداءهم.. إن الذين ينهضون عدد قليل؛ فلو نهضت جميع الدول الإسلامية، لو أن الشعوب كلها انتفضت، وصرخوا ليس من أجل القدس وحدها، بل من هل جميع البلدان الإسلامية فسوف ينصرون؛ لقد طردنا محمد رضا خان بالصرخات، هل تتصورون أننا أخرجناه بالبندقية؟ كلا، لقد أخرجناه بالصراخ، وبنداء الله أكبر، لقد ضرب نداء الله أكبر في رؤوسهم إلى الحد الذي جعلهم يجبنون ويفرون إلى خارج البلاد. يجب أن يصرخ المسلمون...".

لقد أراد الإمام الخميني من إعلان يوم القدس، يوماً لليقظة، يوماً للعمل من أجل الحق، ومن أجل الإنسان، ومن أجل الحرية، ومن أجل الخير والسلام الحقيقي؛ "فيوم القدس يوم عالمي، ليس فقط يوماً خاصاً بالقدس، إنه يوم مواجهة المستضعفين للمستكبرين، إنه يوم مواجهة الشعوب التي عانت من ظلم أمريكا وغيرها من القوى الكبرى، إنه اليوم الذي يجب أن يتجهز فيه المستضعفون في مقابل المستكبرين، ليمرغوا أنف المستكبرين في التراب".

هكذا أراد الإمام الخميني يوم القدس العالمي في 7/8/1979، وهكذا يريده الآن، ويريده غداً، لأنه يعرف أن الصراع طويل، وأن الوصول إلى الهدف يحتاج عملاً ومثابرة ودماءً؛ ففي هذا اليوم يتم الفرز بين الثوار الحقيقيين والمنافقين، وفي هذا اليوم يتم تحديد المسؤوليات، ويتم شحذ الهمم، ويتم اتخاذ القرارات المصيرية؛ لقد أراده الإمام الخميني يوماً مسؤولاً: "يوم القدس، يوم يجب أن تتحد فيه مصائر الشعوب المستضعفة، يوم يجب فيه أن تعلن الشعوب المستضعفة عن وجودها في مقابل المستكبرين، يوم يجب فيه أن تنهض كل الشعوب مثلما نهضت إيران ومرغت أنوف المستكبرين في التراب، وأن يلقوا بجراثيم الفساد هذه في المزابل".

إن دعوة الإمام الخميني اليوم تأتي تحريضاً للشعوب كي تتمسك بحقها، وبأرضها وبمقدساتها، وتؤكد ان العرب والمسلمين، ومعم كل أحرار العالم، يرفضون الكيل بمكيالين، ويأبون أن يروا التاريخ وقد زورته عصابة مارقة، وأن الأوطان تستباح، وأن دماء الأبرياء تسيل بلا ثمن.

"يوم القدس، يوم الإسلام، يوم يجب أن تحذر فيه كل القوى الكبرى من أن الإسلام لن يقع بعد الآن تحت سيطرتهم وبواسطة عملائهم الخبثاء، يوم القدس يوم حياة الإسلام. ويجب أن يصحو المسلمون وأن يدركوا مدى القدرة التي يمتلكونها سواء المادية منها أو المعنوية، يجب أن تعلم دول العالم ان الإسلام لا ينهزم".

يوم القدس ليس فقط يوماً لفلسطين، انه يوم الإسلام؛ ومن أجل هذه الإرادة الصلبة، والمضير النفي، والعزيمة التي لا تلين، واجه الإمام الخميني حملة شعواء حاولت أن تشوه صورته، وأن تسيء إلى ثورته. لقد حاولت الولايات المتحدة أن تأمر عليه، فسلطت ضده جيوشاً، وأجهزة استخباراتية ووسائل إعلام ضخمة، وسخرت من أجل ذلك إمكانات كبيرة.

كما لعبت الصهيونية أدواراً غير اعتيادية على هذا الصعيد، لكنها فشلت، وردت كل الخناجر إلى نحور أصحابها، لأن الثورة كانت راسخة في النفوس والقلوب والذاكرة، وكان الإيمان دائماً أقوى من كل سيوف الظلم.

ولاقى الإمام الخميني التفافاً شعبياً واسعاً، لأنه حمل قضية بحجم القدس، كان صادقاً ووفياً في نضاله من أجلها، وفي دعوته لإعطائها البعد المحلي والإقليمي والدولي التي تستحق؛ فالقدس كانت وستبقى رمزاً للعرب والمسلمين وكل أحرار الدنيا، لما تعنيه من أبعاد وطنية وسياسية واستراتيجية وعقيدية وفكرية وإنسانية وأخلاقية.

إن الاحتفال السنوي بذكرى يوم القدس، يعني التمسك بالحق، والتمسك بالمبادئ السامية، وبالوفاء لقائد الثورة، وبالوفاء لشعب فلسطين الذي عانى ويعاني الكثير الكثير من الظلم والقهر والاستبداد على يد الصهاينة.

"إن دماء الشباب الفلسطيني الأعزاء قد لونت الآن جدران المسجد الأقصى، وسمعوا جواب المطالبة بحقهم المشروع من حفنة محتالة بالرشاش، أليس عاراً على المسلمين الغيارى أن لا يجيبوا نداءهم المظلوم وأن لا يظهروا مواساتهم لهم؟!

فلتحي القدس والمسجد الأقصى، ولتحي الشعوب المناهضة في مواجهة "إسرائيل" المجرمة، وليحي المسلمون والمستضعفون في العام" (14/4/1982).

واعتبر الإمام الخميني أن الإسلام والأماكن المقدسة عندما تتعرض للاعتداء، لا يمكن لأي فرد مسلم أن يقف موقف المتفرج إزاء ذلك، ورأى أن المصيبة الأكبر ان بعض القادة يحتمون من "إسرائيل" بأمريكا ـ المعتدي الأساسي ـ وفي الحقيقة فهم يفرون من الحية إلى الثعبان. ويستغرب أن يبقى الحكام ـ رغم امتلاكهم أدوات المواجهة ـ غير مستعدين لأن يقولوا كلمة خشنة واحدة.

ولذلك دعا إلى تشكيل حزب المستضعفين في العالم للتخلص من المشاكل القائمة أمامهم، ففي وحدة المستضعفين قوة لإحقاق الحق، والقضاء على الظلم.

يأتي يوم القدس هذا العام، والانتقال على كاهل الأمة كبيرة، والتحديات المحدقة بها كثيرة وكبيرة، وليس أمامنا من خيار سوى المقاومة والصمود، فالنصر دائماً حليف المؤمنين والمكافحين والصابرين وأصحاب الحق.