تأملات فكرية في مدرسة الإمام الخميني (قدس سره) 2

مشروع قراءة في الفكر السياسي للإمام الخميني

ــ هذا الملف تم إعداده بمناسبة الذكرى السنوية الثالثة بعد المائة لميلاد مفجر الثورة ومؤسس الجمهــورية الإسلامية الإيرانية الإمام الخميني (طاب ثراه)، استكمالاً للمواضيع والملفات السابقة التي نشرتها "كيهان العربي" عن سيرة حياة هذا الفقيه الرباني الراحل ومناقبه العظيمة التي تركت بصماتها واضحة على المستويات الإسلامية والثورية والإنسانية في أنحاء العالم.

ورغم أن هذا الملف يتناول أساساً معالم الشخصية الخمينية في أبعادها المختلفة، إلا أن التطورات والمستجدات الراهنة في المنطقة العربية والعالم الإسلامي، لم تغب عن المواضيع والأحاديث الواردة فيه، انطلاقاً من أن ما يجري الآن على الساحتين الإقليمية والدولية مرتبط بشكل أو بآخر بالنهضة الكبرى التي أطلقها إمامنا الراحل في سبيل الانتقال من الاستكبار والعبودية وإيصال المسلمين والبشرية جمعاء إلى بر الأمان:

دمشق/ إعداد وحوار: حميد حلمي زاده

الشعب الإيراني وقيادة الثورة الإسلامية في إيران على حق في إعلان هذا العام عام الإمام الخميني، ومن حق بل وواجب المستضعفين في الأرض من أي ملة أو أمة كانوا أن ينضموا لهذه الدعوة ويعلنوا مشاركتهم في أحياء ذكرى مرور مائة عام على ولادة الإمام الخميني هدية إلهية للعالمين.

فالإمام ليس شخصاً عادياً، وظهوره وغيابه حدثان لهما وقع في ذاكرة الشعوب المستضعفة التي تواجه صلف الاستكبار العالمي، وصدى في نفوس المسلمين الذي يشدهم الحنين إلى صفاء الإسلام وتسامحه مع الضعفاء وإلى بأسه وشدته حيال المستكبرين الأقوياء. ومن مثل الإمام الخميني دافع عن نقاء الإسلام ورفع من شأن المسلمين؟

في مشروع قراءتي هذه لن أناقش مسألة الإسلام السياسي. والإسلام ليس مجرد دين وعقيدة بل إنه دستور وقواعد سلوك وتنظيم لشؤون الدنيا والآخرة. ويخطئ من يعتقد بإمكان فصل الإسلام عن السياسة، فالسياسة في اللغات الأجنبية اشتقاق من كلمة الجماعة Politicos بمعنى تنظيم شؤون المجتمع. وفي اللغة العربية السياسية اشتقاق من (ساس) بمعنى أدار ونظم. والإسلام بهذا المعنى وعي السياسة من كل جوانبها، فإنه إلى جانب مسألة العقيدة الربانية وتبصير الفرد الإنساني بضرورة الاهتمام بالآخرة والإعداد الحسن للقاء وجه ربه والمثول بين يدي الخالق عز وجل لقاء عبوديته له وإطاعته ورسوله، تناول أيضاً تنظيم الحياة الدنيا الفردية منها والجماعية؛ فقد تدخل الإسلام في كل أساليب العبادة والمعيشة. من هنا فإن الإسلام سياسة بمعنى إدارة شؤون المجتمع والأفراد.

وإلى هذا فالإسلام رسالة هداية إلى الإنسانية جمعاء، إذ يتضمن تكليف الأولياء من الفقهاء والمؤمنين من بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بتبليغ الرسالة لكل البشر لهدايتهم وإحلال نعمة الله عليهم بالإسلام.

يقول جرجي زيدان في كتابه (التمدن الإسلامي): إن رسالة الإسلام من خلال الرسول الكريم (ص) جاء بقوانين تدهش الإنسان بعظمتها، فأنزل قوانين وآدابها لكل الأمور وجعل للأمور الاجتماعية والإدارية قوانين وطرقاً ورسوماً ذلك في الوقت الذي كان فيه الغرب يعيش حالة من التوحش وكانت أمريكا موطناً للهنود الحمر، ولم يترك الإسلام موضوعاً مهما إلا ووضع له تكليفاً. وحتى إذا لم يرد التكليف أو صدر حكم لكل حالة فإن قراءة الاتجاهات في القرآن الكريم واعمال الاجتهاد والقياس كفيلة بتغطية كل جوانب الحياة.

أفبعد كل هذا يمكن لمدعي أن يقول بفصل الإسلام عن السياسة، وما السياسة إلا إدارة شؤون الناس وتنظيم علاقاتهم بعضهم مع البعض الآخر؟

لكن المسألة الأهم في الإسلام السياسي هي في شكل وأسلوب تبليغ الرسالة من جهة وكيفية التوافق مع روح العصر من جهة أخرى. ليس لمسلم مؤمن أن يرى ما يخالف أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان إلا أنه تشريع إلهي صادر عن الحق، فلا يمكن أن يناله العيب من باب. أفليس الله كلي الحق، كلي العدل، كلي العلم، كلي المعرفة، كلي النور الخ.. إن الله تعالى يتصف بالكمال والتمام وبالتالي فإن تشريعه الذي اختاره للناس يتصف أيضاً بالكليانية فهو كلي الحق وكلي العدالة.

فإذا كان التشريع الإلهي قد تنزل على رسول الله (ص) في بيئة محددة وزمن معين فإنما هو صالح لكل زمان ومكان كما أكده القرآن الكريم غير مرة.. وأي انحراف في فهم الإسلام عن هذه الحقائق الأبدية لابد يرجع إلى أحد سببين لا ثالث لهما: النقص المعرفي لدى الناس، وعدم القدرة على فهم مضمون التشريع أو محاولة التشويه المتعمد من بعض الناس.

وإذا كان علاج النقص المعرفي مما كان بتطوير علوم القرآن الكريم ومتابعة تطورات العلوم الأخرى ومستجداتها {إنما يخشى الله من عباده العلماء} بحيث يمكن للإنسانية إدراك مبتغى العزة الإلهية من التشريع وفهم مضمونة لما فيه الخير والصلاح والعدل لكل أبناء البشر. وأي تقصير في هذا المجال يتحمل المؤمنون مسؤوليته تجاه الباري عز وجل وتجاه الإنسانية أيضاً.

وأما محاولات التشويه المتعمد تكبر وتتزايد كما أثبت المسلمون أنهم أكثر أهلية لفهم رسالة الإسلام وحملها إلى العالم. يقول الإمام الخميني: هناك نمط من الأفكار البلهاء موجود في أذهان البعض والتي تساعد المستعمرين والدول الجائرة على إبقاء وضع البلاد الإسلام بهذه الصورة ومنع النهضة الإسلامية. هذه أفكار جماعة مشهورة باسم (المقدسين)، بينما هم في الحقيقة "متصفو القداسة" لا مقدسون، ويجب علينا أن نصلح أفكار هؤلاء ونوضح موقفنا منهم لأنهم يعيقون نهضتنا وعملنا الإصلاحي وقد كبلوا أيدينا" (الحكومة الإسلامية: ص178).

ويقول الأستاذ برهان بخاري: "إن عملية تشويه سمعة الإسلام لا تقتصر على المجتمعات غير الإسلامية فقط بل تجري بشكل أكثر شناعة داخل المجتمعات الإسلامية نفسها" (جريدة تشرين السورية: العدد 7526، تاريخ 10/10/1999)، ويضيف: إن انصاف الإسلام من أعدائه يقتضي أولاً انصافه من ادعيائه "ويقصد بالادعياء أولئك الذين يستهلون الوعظ والإرشاد والإفتاء دون استيعاب الجوانب الفقهية والتاريخية والتراثية والعلمية والفكرية والثقافية والحضارية والإنسانية لهذه الرسالة العظيمة".

وفي التيارات الإسلامية المعاصرة ما يثير الكثير من التساؤل والحيرة من مثل وجود قراءة واحدة أم عدة قراءات للإسلام أو مثل ضرورة التجديد في الإسلام أم إعطاء طابع العصمة لاجتهادات السلف الصالح والوقوف عندها. وهذه مسائل فلسفية فقهية تمس عقيدة المسلمين ووجداناتهم وقد لا يكون من حقنا مناقشتها، غير أن الأمر المهم هو أن الإسلام يخاطب العقل ويدعو إلى الحجة. وإذا كانت رسالة الإسلام هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تحليل الطيبات وتحريم الخبائث، أفلا يكون رأي الكاتب السعودي السيد منصور بن إبراهيم النقبدان القائل: "إننا نجني جناية عظيمة حينما ندعي أن الكتب القديمة (المقصود الاجتهادات القديمة) فيها الإجابة على سؤال جديد، ذلك أن لكل عصر مشكلاته ووقائعه وحاجاته المتجددة". صواباً في ذاته في "إن صوابية اجتهاد جيل ما وابداع الحلول لمشكلات عصر معين لا يعنيان أبداً امتداد صوابية وصلاحية ذلك الاجتهاد لكل العصور" (جريدة الحياة: 8/10/1999، ص23).

وما دام قصد الشرع الإلهي الأول والأخير هو مصلحة الناس فإن اعتبار مصلحة البشر هو الذي يشكل أساس الاجتهاد والتدبير. وبالتالي فإن المعروف هو ما يضمن خير الناس ومصلحتهم في دنياهم وآخرتهم ويدرأ الشر والفساد عنهم أفراد وجماعات. وأما المنكر فهو كل ما يلحق الأذى بالأفراد والجماعات في دنياهم وآخرتهم أيضاً. وتكون رسالة الإسلام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صالحة لكل زمان ومكان والذي يختلف فقط هو تقدير مصلحة البلاد والعباد، والمؤذي للأفراد والجماعات من زمان إلى آخر ومن مكان إلى آخر، ويكون الشرع الإلهي مؤسساً دائماً على العدل والصلاح، ويكون الاجتهاد في تحديد أبواب العدل والصلاح وليس في المس بالأحكام. فقد قال تعالى في كتابه العزيز: {وما لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعصي الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً} (الأحزاب: 36).

والإمام الخميني المرجعة الدينية المشهود لها والقائد السياسي الفذ جسد في اجتهاداته وأحكامه وفي سلوكه وممارساته أفضل الجمع بين دقة التقيد بالتشريع ومرونة التجديد مع روح العصر، فكان بذلك أحد الأولياء الذين استطاعوا جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متساوقاً مع قاصد الشرع الإلهي ومستجدات العصر لما فيه مصلحه الناس ودرء الشر والفساد عنهم. وبغض النظر عن رؤية البعض العقائدية التي قد تتفق مع عقيدة الإمام أو تختلف عنها فإنه لا يمكن لهذا البعض أو سواه إلا يوافق قول الإمام من أن القرآن الكريم: "ينادي.. بالوحدة بين المسلمين بل بين البشرية باعتباره أعظم وصفة منجية للبشر من جميع القيود التي تكبل أرجلهم وأيديهم وقلوبهم وعقولهم..." (الوصية الإلهية السياسية / إصدار سفارة الجمهورية الإسلامية الإيرانية / دمشق / ص8).

ولا أعتقد أن أحداً ينازع في رأي الإمام في ضرورة حضور المرأة في الميادين الثقافية والاقتصادية والعسكرية جنباً إلى جنب مع الرجال أو أفضل منهم يبذلن الجهد من أجل إعلاء كلمة الإسلام وأهدافه القرآن الكريم، وإن ذلك منسجم مع الشرع الإلهي وتقتضيه ضرورة العصر والتجديد، كما أن من المؤكد أن أحداً من العقلاء الذين يعشون حالة المسلمين ويعونها يمكنه أن يشكك بدعوة الإمام الشعوب المظلومة من أي شعب ودين للوقوف صفاً واحداً في وجه المظالم التي تلحق بالإنسانية.

وبصرف النظر عن قبول البعض بالحكومة الإسلامية من عدمه أو بقيام الثورة الإسلامية أو عدم فلا يجوز لعاقل رشيد ألا يوافق مع سماحة الإمام على أهداف الثورة: "الشطب بالقلم الأحمر على كل المظالم واللصوصيات والمفاسد والاعتداءات وإيصال الإنسان إلى كماله المطلوب". وإذ يدعو الإمام إلى تطبيق القوانين بمعيار القسط والعدل وعدم إفساح المجال للظالمين والحكومات الجائرة وبسط العدالة ومنع الفساد والفحشاء وأنواع الانحرافات، فما ذلك إلا تطبيق للشرع الإلهي من جهة وتلبية لمتطلبات نجاح أي نظام سياسي من جهة ثانية. وقد أصبحت محاربة الفساد شعاراً ترفعه كل الحكومات المعاصرة سواء عن اقتناع أم مراءاة لامتصاص نقمة الشعوب.

والذي يميز الدعوة الإسلامية إلى محاربة الظلم والفساد هو صدقيتها لأنها تستند إلى الشرع الإلهي، اللهم إلا إذا اتخذت الدعوة من الإسلام ستاراً لبلوغ أهداف أخرى مصلحية أو سياسية، وبذلك تفقد انتماءها وتصبح حقا يراد به باطل. ولعل قول السيد المسيح "اسمعوا أقوالهم ولا تفعلوا أفعالهم" أفضل ما يصور حالة أدعياء الإسلام الذين يرفعونه شعاراً ويقتلونه ممارسة وتطبيقاً، أليس في دعوة الإمام المسلمين والمستضعفين في العالم من أي قوم ودين إلى توحيد كلمتهم للدفاع عن حقوقهم في وجه المستكبرين الظالمين والنضال بالقبضات والأسنان لاسترجاع الحقوق ودفع الظلم، شكلاً من أشكال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ شكل متساوق مع الشرع الإلهي بما يتفق مع ظروف العصر الحالي ويشكل أسلوباً لتقويم المنكر مع أنه الإسلام السمح كان يدعو إلى التقويم بالموعظة الحسنةن فقد جاء في القرآن الكريم {ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم وإن يشأ يعذبكم وما أرسلناك عليهم وكيلاً} (الإسراء: 45).

يرى سماحة الإمام الخميني: "إن الإسلام دين المجاهدين الساعين للحق والعدالة، دين أولئك الذين ينشدون الحرية والاستقلال. إنه عقيدة المناضلين والمعادين للاستعمار". وينبه غير مرة إلى ضرورة التمييز بين الإسلام الحق وبين ما يعرض على أنه الإسلام، محذراً بوجوب تقصي التفاوت الموجود بين القرآن الكريم وكتب الحديث الشريف التي هي مصادر الأحكام والقوانين من جهة وبين الرسائل العملية التي تكتب من قبل مجتهدي العصر ومراجع التقليد من جهة أخرى. فقد أوضح القرآن الكريم وكتب الحديث الشريف تولي مساحة أوسع بكثير للشؤون الاجتماعية مما تولي مسألة العبادات. "فنسبة الاجتماعيات في القرآن للآيات العبادية تتجاوز المئة مقابل واحد، كما نجد أنه في كتب الحديث التي تشتمل الدورة منها حوالي خمسين كتاباً (والكتاب هنا يعني الباب الذي تجمع فيه الأحاديث المرتبطة بموضوع واحد، وتحتوي على جميع الأحكام الإسلامية) نجد أن هناك ثلاثة أو أربعة كتب حول عبادات الإنسان ووظائفه تجاه ربه وشيء من الأحكام الأخلاقية، والباقي كله مما يتعلق بالأمور الاجتماعية والاقتصادية والحقوق السياسية وتدبير المجتمع (الإمام الخميني ــ الحكومة الإسلامية، مقدمة حول صلاحيات الولي الفقيه / دمشق / 1998، ص450). فالإسلام يختلف عن المسيحية في أن المسيحية تنظم العلاقات بين الإنسان والخالق بينما الإسلام إلى هذا ينظم العلاقة بين الإنسان والإنسان داخل المجتمع الواحد إضافة إلى تنظيم العلاقات بين المجتمعات المتمايزة في الدين واللغة والتنظيم الخ.. فالقرآن الكريم يدعو إلى قتال المشركين لحمايتهم من الغي والجهالة وإخراجهم من الظلمات إلى النور في حين يدعو إلى الحوار مع أهل الكتاب ومحاججتهم بالتي هي أحسن {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} (العنكبوت: 46).

يؤسس الإمام الخميني في كتابه الحكومة الإسلامية بالحجة والمنطق لقيام الحكومة الإسلامية على أساس أن تبليغ رسالة الإسلام ليس كافياً للعمل بها، ففي زمان الرسول (ص) لم يكن الأمر مقتصراً على مجرد بيان التشريع وتبليغه بل كان يقوم (ص) بتنفيذه أيضاً. وخليفة المسلمين هو خليفة رسول الله في إدارة شؤونهم وتدبير أمورهم كما أنه خليفته في متابعة تبليغ رسالة الإسلام هدى للعالمين.

يقول الإمام الخميني "والخليفة معين لهذه الأمور إيضان فالخليفة ليس مشرعاً بل الخليفة معين لأجل تنفيذ أحكام الله التي جاء بها الرسول (ص)". ويخلص الإمام إلى وجوب إقامة الحكومة الإسلامية مبنية على التشريع الإلهي، إن رجال الدين ليسوا فقط بمبلغين للرسالة شارحين للتشريع تاركين السياسة للآخرين "فهل كانت السياسة منفصلة عن الدين في زمان الرسول الأكرم (ص)؟ وهل كان البعض رجال دين والبعض الآخر سياسيين ومسؤولين في ذلك العهد؟ وهل كانت السياسة مفصولة عن الدين في زمان الخلفاء؟" (الحكومة الإسلامية: ص56).

والمهم في موضوع الحكومة الإسلامية في منظور الإمام الخميني هو وظيفتها وخصائص من يتولاها وطريقة تنفيذ الأحكام فيها. وإذا كان قيام الحكومة أمراً مفروغاً منه سواء في السابق أو اللاحق وليس لأحد أن يعترض عليه، فثمة مسائل أخرى متفرعة عن ضرورة قيام الدولة قد يكون الاختلاف فيها كبيراً إذا لم يستند بتها إلى مرجعية محددة.

وإذا كان ليس لمسلم مؤمن أن يشكك في صحة وعدالة التشريع، فلابد أن يضمن المسلمون صحة وعدالة تنفيذ أحكام الشريعة، وفي هذا تجب العودة إلى حقيقة قوانين الإسلام وكيفيتها. وقوانين الإسلام، لأنها شريعة الله، كاملة بتمامها عادلة تمام العدل مستوفية لكل حاجات البشر. وإذا وجد أن هناك أمراً يتعرض له الناس وليس له نص قرآني أو حديث نبوي شريف فيرجع الأمر إلى أحد سببين: إما لقصور معرفي في الناس وعدم احاطتهم بكل أحكام الشريعة، وإما لأنهم لا يعملون العقل في القياس والاجتهاد. ولهذا نرى أن سماحة الإمام الخميني كرس قسماً كبيراً من وقته وعمله لتوضيح دور الأئمة والفقهاء في تبصير المسلمين بشؤون دينهم دنياهم. كما أنه أوضح رسالة الأئمة والفقهاء في مواجهة الحكام الفاسدين والظالمين والعمل على ردعهم وإعادتهم إلى الاستقامة. 

ولاية الفقيه في فكر الإمام

ينطلق سماحة الإمام في تأكيد ولاية الفقيه من نظرية الشيعة الإمامية. وبعد أن بين أن الحكومة الإسلامية تختلف عن أنماط الحكومات المعروفة في الوقت الحالي في أنها: ليست استبدادية ولا مطلقة بمعنى أن الحاكم في الحكومات الاستبدادية والمطلقة ليس على سلطته قيد أو مراقب، وليست مشروطة بمعنى أنها ناشئة من اعتراف الشعب وتكون  مشروطة ومحدودة بكون الدستور المرجع والمستند الأعلى للإدارة، وهي تختلف عن الملكية في أن الحكم ليس توريثاً، كما وتختلف عن الجمهورية كون ممثلي الشعب أو الملك هم الذي يقومون بعلمية التشريع وعلى الحاكم غير المطلق أن يلتزم بالتشريعات التي يسنها ممثلو الشعب.

أما الحكومة الإسلامية فهي حكومة قانون الله، وقانون الله أو أمره، له تسلط كامل على جميع الأفراد وليس لشخص في الحكومة الإسلامية بدءاً من الرسول (ص) ومروراً بخلفائه وسائر الناس الخروج على القانون أو على أوامر الله والصلاحيات التي أعطيت للرسول (ص) وللولاة من بعده فإنما كان ذلك من الله. فالرسول كان في حياته يبلغ أوامر الله للناس. وحلفاؤه من بعده إنما يبلغون أوامر الله ورسوله إلى المؤمنين الذين يعملون بها عملاً بأحكام الآية الكريمة {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} (النساء: 59). فطاعة أولياء الأمر مشروطة بتنفيذهم أوامر الله ورسوله عملاً بقوله (ص) "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق".

ولكن المسألة التي لابد من التوقف عندها هي كيف يمكن تقويم انحراف الأولياء، إذا انحرفوا لا سمح الله، وفي التاريخ الإسلامي انحرافات كبيرة عن أوامر الله ونواهيه قادت المجتمع الإسلامي بل المجتمعات الإسلامية إلى الحال الذي هي عليه، دون وازع ولا تقيد بأوامر الله وأحكام دينه الحنيف. وهل يكفي الاعتماد على توافر الشروط المطلوبة في الحاكم الإسلامي وهي يراها الإمام الخميني شرطان أساسيان:

1ــ العلم بالقانون

2ــ العدالة

إلى جانب توافر الشروط الأمة مثل العقل التدبير. أي أن يكون الخليفة والحاكم عارفاً أولاً بالأحكام الإسلامية، أي عالماً بالقانون، وأن يكون عادلاً ثانياً، ويتمتع بالكمال العقائدي والأخلاقي، وإذ قال الله لسيدنا إبراهيم {إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين} (البقرة: 124).

وهكذا فإن ما يحدد الأهلية للولاية ليس النسب وليس الغنى والثروة وإنما العلم والفقه والعدالة.

والولاية في الإسلام وكما يراها الإمام الخميني هي رسالة ووسيلة، فيقول الإمام علي (ع) لابن عباس عن الحكومة: "ما قيمة هذا النعل؟ فقال ابن عباس: لا قيمة لها. فقال (كرم الله وجهه): والله لهي أحب إلي من إمرتكم، إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً".

وهذا الوالي هو الذي يجسد كلام الإمام علي (ع): "أيها الناس، أعينوني على أنفسكم وأيم الله لأنصفن المظلوم ولأقودن الظالم بخزامته حتى أورده منهل الحق وإن كان كارهاً" (نهج البلاغة من الخطبة: 136).

وإذا وقعت الولاية في أهلها، فهل لامرئ أن يخشى شيئاً أو أن يجادل في مشروعية الحكومة أو يطالب بتداول السلطة.